أعلنت الولايات المتحدة الأميركية والمملكة العربية السعودية، في 17 حزيران/ يونيو 2023، موافقة طرفي الصراع في السودان، الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، على اتفاقٍ جديدٍ لوقف إطلاق نار يستمر ثلاثة أيام. وترعى الدولتان محادثاتٍ للسلام لوقف الحرب التي بدأت منذ 6 أيار/ مايو، وذلك في مدينة جدّة السعودية، وأفضت هذه المحادثات إلى عدة اتفاقات وقف إطلاق النار، احتُرمِت جزئيًا. وتواجه إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، انتقاداتٍ داخليةً شديدة؛ لأنها لا تملك استراتيجية واضحة للتعامل مع الأزمة، وتتزايد المخاوف من أزمةٍ إنسانية كبرى، وانتقال عدوى عدم الاستقرار إلى دول مجاورة، وتوفير بيئة مواتية لانتشار التطرف.
جدل حول مسؤولية واشنطن
يرى بعض الناقدين للسياسة الأميركية في السودان، بما في ذلك مسؤولون سابقون في إدارة بايدن، أن الولايات المتحدة تتحمّل قسطًا من المسؤولية عن تفجّر الصراع في السودان، عندما تجاهلت الوضع هناك في عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، بعد إطاحة الرئيس السوداني السابق عمر حسن البشير، في نيسان/ أبريل 2019، واستمرّ الأمر كذلك في عهد بايدن. ففي حزيران/ يونيو 2019 ارتكبت قوات الدعم السريع، بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، في ظل المجلس العسكري الانتقالي، مجزرة في أثناء محاولاتها فضّ الاعتصام أمام مقر القيادة العامة للجيش السوداني، ذهب ضحيتها 120 شخصًا على الأقل. كان ردّ إدارة ترامب حينها متواضعًا، حيث انصبّ تركيزها على تطبيع العلاقات السودانية – الإسرائيلية، كجزء من الاتفاقيات “الإبراهيمية”.
لم تكتف إدارة ترامب بتجاهل مجزرة القيادة العامة، بل ضغطت، بالتنسيق مع دول غربية وحلفاء إقليميين آخرين، على القوى المدنية السودانية للمشاركة في حكومة انتقالية مع العسكر، على أساس أن تجري انتخابات عامة في 2022. غير أن الاتفاق الذي قام بموجبه “مجلس السيادة الانتقالي”، في آب/ أغسطس 2019، ووزّعت مقاعده مناصفة بين العسكر والقوى المدنية، جعل من عبد الفتاح البرهان قائدًا للمجلس، وحميدتي نائبًا له، على الرغم من إصرار واشنطن حينها على وصف المرحلة الانتقالية أنها بـ “قيادة مدنية”. وقد نصّ اتفاق إنشاء مجلس السيادة على أن يتولّى الجيش قيادة أول 21 شهرًا من الفترة الانتقالية، قبل أن تنتقل القيادة إلى المدنيين في الشهور الـ 18 التالية. لكن العسكر قطعوا الطريق على انتقال القيادة إلى المدنيين، عندما انقلبوا على حكومة عبد الله حمدوك في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، ووضعوه رهن الاعتقال. وعلى الرغم من أن إدارة بايدن جمّدت حينها 700 مليون دولار من المساعدات الإنمائية للسودان، وعملت مع البنك الدولي وصندوق النقد الدولي على تجميد ستة مليارات دولار إضافية، ووضعت خططًا لإلغاء 50 مليار دولار من الديون السودانية، فإن أيًا من قادة الانقلاب لم يخضع لعقوبات شخصية.
نقاش طويل بين القوى المدنية السودانية بشأن مسؤوليتها عن عدم توحيد صفوفها بشأن الإصرار على النظام الديمقراطي
تحت وطأة الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية، وافق قادة الانقلاب على إعادة حمدوك إلى رئاسة الوزراء في تشرين الثاني/ نوفمبر 2021، إلا أنه استقال مطلع عام 2022 بسبب عدم التزام العسكريين بتعهّداتهم. وحسب جيفري فيلتمان، الذي شغل منصب المبعوث الأميركي الخاص إلى القرن الأفريقي، نيسان/ أبريل 2021 – كانون الثاني/ يناير 2022، واستقال احتجاجًا على غياب استراتيجية أميركية واضحة في السودان، كان على واشنطن أن تتّخذ إجراءاتٍ أقوى ضد قادة الانقلاب، وأن تتطابق أفعالها مع أقوالها بخصوص “تعزيز انتقال ديمقراطي بقيادة مدنية”. إلا أن إدارة بايدن ظلت متردّدة بشأن وصف استيلاء البرهان وحميدتي على السلطة عام 2021 بالانقلاب، ومع أنها ساهمت في كانون الأول/ ديسمبر 2022 مع الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والمنظمة الحكومية الدولية للتنمية في شرق أفريقيا (إيغاد) في وضع اتفاقٍ إطاريٍّ للانتقال إلى الحكم المدني في السودان، فإن القوى المدنية لم تمثّل بشكل جيد فيه، كما لم تطرح آليات لمحاسبة العسكر إذا أخلّوا بالتزاماتهم. وحسب فيلتمان، فشل الولايات المتحدة وحلفاؤها في منع انزلاق السودان نحو الحرب، بسبب إيمانهم المفرط بالجنرالات. بل ثمَّة من يرى أن الاتفاق الإطاري الذي دفعت به واشنطن قد يكون السبب الذي قاد إلى تفجّر الصراع الحالي.
يرى آخرون، في المقابل، أن الولايات المتحدة لم يكن بمقدورها فعل الكثير لمنع انقلاب 2021، ثمَّ الصراع بين الجيش والدعم السريع لاحقًا. وحسب ديفيد ساترفيلد، الذي خَلَفَ فيلتمان في منصب المبعوث الخاص إلى القرن الأفريقي، واستقال بعد شهرين فقط من تسلّمه منصبه، لم يكن لدى واشنطن سوى خيارات سيئة في السودان، وكانت مضطرّة إلى عقد صفقاتٍ مع الجيش. ويرى ساترفيلد، أنه حتى إذا كانت “هناك فرصة للعودة إلى مسار يُفضي إلى حكومة يقودها مدنيون، فسيتعيّن على واشنطن التواصل مع الجيش”. ويجادل أصحاب هذا الرأي بأن الولايات المتحدة ما زالت لا تملك أوراق ضغط كثيرة ضد العسكر، فالكثير من أصول حميدتي المالية، مثلًا، ذهب يتاجر به مع الإمارات، ومن الصعب تصوّر أن تفرض هذه عقوبات على حليفها.
وثمّة نقاش طويل بين القوى المدنية ذاتها بشأن مسؤوليتها عن عدم توحيد صفوفها بشأن الإصرار على النظام الديمقراطي، مع تفهم قوة الجيش في السودان ومساومته مرحليًا. وقد أدّى الصراع بين الطرفين (رفض أي دور للجيش في المرحلة الانتقالية والاستعداد للمشاركة معه في السلطة من دون شروط) إلى تمكين العسكر من المناورة بين القوى المدنية. وقد انجرّ بعضُها إلى التحالف مدة قصيرة مع حميدتي ضد الجيش، وذلك خلال الصراع الذي رافق الاتفاق الإطاري.
ترى الولايات المتحدة أن روسيا والصين تعملان بالتوازي في أفريقيا لتقويض مصالحها فيها وزعزعة قيادتها النظام الدولي
الحسابات الأميركية في السودان
أصدرت إدارة بايدن، في آب/ أغسطس 2022، استراتيجيتها نحو أفريقيا جنوب الصحراء، وجاء فيها: أنه بمقدور الولايات المتحدة “أن تقدّم خياراتٍ للأفارقة كي يقرّروا مستقبلهم، بشكلٍ يحدّ من التأثير السلبي لجهاتٍ حكوميةٍ وغير حكومية، ويجنّب الحاجة إلى تدخّلات مكلفة”. وتقصد الوثيقة بـ “الجهات الحكومية” روسيا والصين تحديدًا، في حين أن المقصود بـ “الجهات غير الحكومية” الجماعات التي تتهمها واشنطن بالإرهاب. وترى واشنطن أن للسودان أهمية جيوسياسية واقتصادية واستراتيجية كبرى، تجعله محطَ أطماع أجنبية، عالمية وإقليمية، كما أن أي فوضى فيه يمكن أن تزعزع الاستقرار في منطقةٍ شديدة الحساسية، تعاني هشاشةً بنيوية أصلًا. جيوسياسيًا، يقع السودان على مفترق طرق جغرافي حيوي، تحدّه مصر وليبيا في شمال أفريقيا، وإثيوبيا وإريتريا في القرن الأفريقي، وتشاد وجمهورية أفريقيا الوسطى في وسط القارّة. ويضم 60% من حوض نهر النيل. ومن جرّاء الخلاف بين مصر، وهي دولة المصبّ، والتي تعتمد في 90% من مياهها على النيل، وإثيوبيا، دولة المنبع للنيل الأزرق، التي تتطلّع إلى مضاعفة توليد احتياجاتها من الكهرباء من خلال سدّ النهضة الذي تعارضه كل من مصر والسودان خشية تأثيره في حصصهما المائية، فإن السودان يؤدّي دورًا أساسيًا في إدارة أزمة النيل، كما يتمتّع بموقع استراتيجي على البحر الأحمر، الذي يمر عبره ما يقرب من 10% من التجارة العالمية، ويحوي ثروة معدنية هائلة؛ حيث يعد ثالث أكبر منتج للذهب في أفريقيا، ولديه احتياطاتٌ مهمّة من الفضة والنحاس واليورانيوم، كما ينتج أكثر من 80% من الصمغ العربي في العالم، والذي يدخل في صناعات الغذاء والطلاء ومستحضرات التجميل. ويمكن تلخيص أهم الأسباب التي تدعو الولايات المتحدة إلى الاهتمام بما يجري في السودان في ثلاثة:
التصدّي للنفوذ الروسي الصيني في أفريقيا
ترى الولايات المتحدة أن روسيا والصين تعملان بالتوازي في أفريقيا لتقويض مصالحها فيها وزعزعة قيادتها النظام الدولي. وخلال القمة الأميركية – الأفريقية، في كانون الأول/ ديسمبر 2022، حذّر وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، القادة الأفارقة من أن نفوذ الصين وروسيا “يمكن أن يكون مزعزعًا للاستقرار”. وضمن مساعيها لاستمالة القادة الأفارقة المتردّدين، تعهدت واشنطن بـ “تخصيص 55 مليار دولار لدعم أفريقيا على مدى ثلاث سنوات”. وفي حين يتصاعد الحضور العسكري شبه الرسمي لروسيا في أفريقيا، فإن الصين هي أكبر دائن لأفريقيا وتستثمر مبالغ طائلة في القارّة الغنيّة بالموارد الطبيعية.
يتمحور قلق واشنطن حول النفوذ المتنامي لمجموعة فاغنر في دارفور، والذي ترى أنه يساهم في تمكين روسيا من إنشاء ممرّ عبر السودان
لا تخفي روسيا اهتمامها الكبير بأفريقيا؛ ففي شباط/ فبراير 2023، قام وزير الخارجية، الروسي سيرجي لافروف، بجولة في القارّة، زار في أثنائها الخرطوم، حيث شدّد على الحاجة إلى تقديم بديل من النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة. وترى روسيا أن وجودًا قويًا لها في السودان من شأنه أن يعزّز مكانتها في أفريقيا، وعموم منطقة الشرق الأوسط التي تقع تقليديًا في دائرة النفوذ الأميركي. بناءً عليه، حرص الكرملين على تعزيز العلاقات مع السودان، منذ عام 2014، خصوصًا مع تطلّع موسكو إلى ثروات الذهب الأفريقية وسيلةً للتحايل على العقوبات الغربية بعد غزوها وضمّها لشبه جزيرة القرم، وقد زادت الحاجة إليها بعد غزوها أوكرانيا في شباط/ فبراير 2022، وتنامي العقوبات الغربية عليها. وفي عام 2017 زار الرئيس السابق، عمر البشير، موسكو والتقى الرئيس فلاديمير بوتين، وأنشأ البلدان شركة قابضة تابعة لمجموعة فاغنر لتعدين الذهب. كما سعت روسيا إلى تأمين وجود عسكري لها مطلّ على البحر الأحمر عبر عقد إيجار مدته 25 عامًا أبرمته مع السودان في كانون الأول/ ديسمبر 2020، لإنشاء قاعدة بحرية في بورتسودان يمكن أن تستقبل سفنًا تعمل بالطاقة النووية. وكان لافتًا أن حميدتي ترأس وفدًا سودانيًا زار موسكو قبل يوم واحد من غزو روسيا أوكرانيا.
ويتمحور قلق واشنطن حول النفوذ المتنامي لمجموعة فاغنر في دارفور، والذي ترى أنه يساهم في تمكين روسيا من إنشاء ممرّ عبر السودان إلى المراكز العسكرية الروسية في ليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى. وحسب خبراء أميركيين، يندرج دور فاغنر في السودان ضمن محاولات روسيا تقويض النفوذين، الأميركي والفرنسي، في أفريقيا، والاستفادة من ثروات البلدان الأفريقية. وتسعى “فاغنر” إلى استخدام قوات الدعم السريع وكيلةً لعملياتها في جمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد. وفي مقابل الذهب والتنسيق في أفريقيا، تقدّم “فاغنر”، حسب مصادر أميركية، المساعدة لقوات الدعم السريع في صراعها مع الجيش السوداني، بما في ذلك صواريخ أرض جو، وهو ما حدا بوزارة الخزانة الأميركية، في أيار/ مايو الماضي، إلى فرض عقوباتٍ على أصول “فاغنر” في أفريقيا.
للصين، أيضًا، مصالح كبيرة في السودان وفقًا لمبادرة الحزام والطريق التي أطلقتها عام 2013؛ ففي الفترة 2011 – 2018 قدّمت بكين للخرطوم قروضًا تقدر بحوالى 143 مليون دولار، واستثمَرت في مشاريع مثل إنشاء خطوط لنقل النفط السوداني وجسور على النيل ومصانع للنسيج وخطوط للسكك الحديدية. وفي عام 2021 بلغت قيمة صادرات السودان إلى الصين نحو 780 مليون دولار، وتعدّ ثاني أكبر شريك تجاري للسودان بعد الإمارات.
تتوجّس واشنطن من استمرار الصراع في السودان وحدوث فراغ في السلطة؛ ما سيُنتج أزمةً إنسانية
قيام محاور إقليمية متناقضة
تخشى واشنطن أن يؤدّي النزاع في السودان إلى قيام محاور جديدة في المنطقة يضع حلفاءها الإقليميين في مواجهة بعضهم؛ إذ تدعم مصر، والسعودية بدرجة أقل، قائد الجيش البرهان، في حين تدعم الإمارات حميدتي. وثمَّة مخاوف من أنه في ظل الخلاف المصري الإثيوبي حول سدِّ النهضة ودعم مصر الجيش السوداني، أن تلجأ إثيوبيا إلى دعم قوات الدعم السريع. كما تخشى واشنطن من توسّع دائرة الصراع لتتجاوز السودان إلى منطقة الساحل الأفريقي، خصوصًا إذا ما اتّجه حميدتي إلى تجنيد مقاتلين عبر الحدود، من مالي وتشاد مثلًا.
اللجوء والإرهاب
تتوجّس واشنطن أيضًا من استمرار الصراع في السودان وحدوث فراغ في السلطة؛ ما سيُنتج أزمةً إنسانية تدفع مئات الآلاف من اللاجئين إلى دول الجوار، خصوصًا نحو إثيوبيا وجنوب السودان، وهما بلدان يكافحان من أجل الحفاظ على اتفاقيات سلام هشّة. كما تخشى واشنطن من أن يقود عدم الاستقرار في السودان إلى توفير ملاذ آمن للجماعات الإرهابية مثل حركة الشباب الصومالية.
خاتمة
يتمثل هدف الولايات المتحدة الأساسي في السودان في الحدّ من العنف أولًا، ثمَّ وقف القتال بشكل دائم ثانيًا، والعودة إلى حكم مدني في البلاد ثالثًا. وهي تعمل على تحقيق ذلك مع شركاء إقليميين ودوليين، مع إبقاء ملفّ الوساطة بين طرفي النزاع محصورًا بينها وبين السعودية. ولكن الولايات المتحدة لا تميز في تعاطيها مع الأزمة بين الجيش الرسمي ومليشيا عسكرية. وقد أصدرت وزارة الخارجية الأميركية، في 15 يونيو/ حزيران 2023، بيانًا حمّلت فيه مليشيا الدعم السريع مسؤولية اغتيال والي غرب دارفور، بعد أن اتهمها بالمسؤولية عن الجرائم التي ارتُكبت ضد المدنيين في الجنينة، وأدّت إلى مقتل ما يزيد على 1100 شخص. وفي مطلع حزيران/ يونيو، لجأت واشنطن إلى فرض عقوبات اقتصادية على أربع شركات سودانية؛ اثنتان منها مرتبطتان بالجيش، واثنتان مرتبطتان بالدعم السريع، في محاولة “لقطع التدفقات المالية الرئيسية عن أطراف الصراع … وحرمانهم من الموارد اللازمة لدفع رواتب الجنود، وإعادة التسلح”. إلا أن هذه الإجراءات قد لا يكون لها تأثير كبير في قدرة الطرفين على مواصلة الحرب، خصوصًا أنه من غير المرجّح أن تتعاون روسيا والإمارات في فرضها على قوات الدعم السريع، لكن واشنطن ستستمر في المحاولة لمنع تفاقم الصراع، وتقويض مساعي خصومها الدوليين لاستغلال الأزمة لتعزيز مواقعهم في منطقةٍ ذات أهمية استراتيجية للمصالح الأميركية.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات