ما هي الصلة بين قصف الولايات المتحدة لقاعدة عسكرية في منطقة عياش في سورية وبين التدخل التركي لشمالي العراق؟
يشكل كلا هذين التطورين اللذين يبدوان منعزلين عن بعضهما بعضا جزءا من خطة أكبر لبلقنة الشرق الأوسط، ولتقوية قبضة واشنطن على الموارد المتضائلة، ولجر روسيا إلى أتون حرب مطولة ومكلفة، ولضمان بقاء نفط الشرق الأوسط مقوماً بالدولار الأميركي. وقد لخص الكاتب جوزيف كيشور واقع الحال على النحو الآتي في مداخلة له مؤخراً على الموقع الإلكتروني للاشتراكية الدولية. قال كيشور:
“إن القوة الأساسية الكامنة وراء الحرب في سورية هي نفسها تلك التي دفعت الإمبريالية لنحت وتقسيم الشرق الأوسط ككل: مصالح رأس المال التمويلي الدولي. وتدرك القوى الإمبريالية الرئيسية أنه إذا أرادت أن تكون لها كلمة في تقسيم الغنائم، فإن عليها أيضاً أن تكون قد أوفت بحصتها من القتل”. (“النحت الإمبريالي الجديد للشرق الأوسط”، الموقع الإلكتروني للاشتراكية الدولية).
في نهاية المطاف، تشكل الحرب على الإرهاب ورقة تين للعلاقات العامة المصممة لإخفاء محاولة واشنطن حكم العالم. ومن المستحيل فهم مجريات الأمور حول العالم من دون بعض فهم للكيفية التي يتم من خلالها إدراج ما تبدو أعمال عنف وإرهاب عشوائية في داخل الاستراتيجية الجيوسياسية الأوسع والأكثر شمولية، من أجل خلق نظام عالمي أحادي القطب، ولسحق كل المنافسين الصاعدين، ولمد طيف الهيمنة الأميركي في عموم البسيطة.
ولنلق نظرة على الخصوصيات: قبل أيام، قصفت الطائرات الحربية الأميركية قاعدة عسكرية سورية في الرقة، ما أفضى إلى مقتل ثلاثة جنود سوريين وجرح ثلاثة عشر آخرين. ووقع الحادث في قرية العياش في محافظة دير الزور. لكن الناطق بلسان الائتلاف، الكولونيل الأميركي ستيف وارن، نفى التورط الأميركي في الغارة المميتة، على الرغم من حقيقة أن المرصد السوري لحقوق الإنسان والذي يتخذ من المملكة المتحدة مركزاً له أكد أن “الضربة الجوية أصابت المعسكر”. ووفق المرصد، فإن “هذه هي المرة الأولى التي تفضي فيها ضربة من الائتلاف بقيادة الولايات المتحدة إلى قتل قوات حكومية سورية”. ويشير نفي وارن، الذي يشكل رد وزارة الدفاع الأميركية الانعكاسي لأي ادعاء باللوم، إلى أن الهجوم كان استفزازاً متعمداً هدف إلى استدراج ضربات رداً عليه من روسيا، مما سيبرر بالتالي التزاماً أميركياً أكبر بتقديم قوات وأسلحة أميركية للحرب السورية التي مضى عليها أربعة أعوام ونصف العام. ومن غير الواضح حتى الآن ما إذا كانت الضربات الجوية قد أخذت الضوء الأخضر من البيت الأبيض أو من عناصر مارقة في وزارة الدفاع. ومع ذلك، فإن ما هو واضح هو أن الهجوم على القوات السورية، على بعد 30 ميلاً بالتمام والكمال من هدفها المصمم أصلاً، لم يكن خطأً. كما تجدر الإشارة أيضاً إلى أنه وفق محللي الجبهة العسكرية الجنوبية، فإن القصف الأميركي تزامن مع “هجوم واسع النطاق شنه تنظيم داعش على قريتي عياش وبغليا”. وبكلمات أخرى، وفر الهجوم الأميركي تغطية جوية كافية لإرهابيي “داعش” لتنفيذ عملياتهم البرية.
هل كان ذلك جزءاً من الخطة، أم أنه كان مجرد تزامن عرَضي وحسب؟
في أقل من 24 ساعة بعد الهجوم، قامت الطائرات الأميركية بقصف قرية الخان في شمال شرقي سورية، ما أسفر عنه مقتل 26 مدنياً، بمن فيهم على الأقل أربع نساء وسبعة أطفال. وتقول الرسالة التي يرسلها الجيش الأميركي عبر شن هذه الهجمات المميتة أنه يريد السيطرة على المجال الجوي فوق شرق سورية؛ حيث يخطط لإزاحة “داعش” وتأسيس دولة أمر واقع سنية، بما يتلاءم مع مخططه لتحطيم سورية والعراق وتقسيمهما إلى كانتونات صغيرة يحكمها أمراء حرب محليون، ومتشددون إسلاميون، ودمى أميركية. وقد كتب الكثير جداً عن هذا الموضوع أصلاً. ولذلك، فإننا لن نهدر الكثير من الوقت عليه هنا. ويلخص مقال رئيسي حديث نشر في صحيفة “نيويورك تايمز” والذي كتبه المحافظ الجديد جون بولتون المفهوم الأساسي الذي يبدو وأنه يلقى الدعم من جانب كل المؤسسة السياسية الأميركية. وفيما يلي مقتطف من المقال:
“حقيقة اليوم هي أن العراق وسورية كما عرفناهما قد ذهبا… وبدلاً من النضال من أجل إعادة خلق خريطة ما بعد الحرب العالمية الأولى، يجب على واشنطن الاعتراف بالجيوسياسات الجديدة. ولعل أفضل بديل للدولة الإسلامية في شمال شرقي سورية وغربي العراق هو قيام دولة سنية مستقلة جديدة…”.
“يختلف اقتراح الدولة السنية هذا بحدة عن الرؤية الخاصة بالمحور الروسي الإيراني ووكلائه (حزب الله والسيد الأسد وبغداد المدعومة من جانب طهران). ويشكل هدفهم باستعادة الحكومتين العراقية والسورية لحدودهما السابقة هدفاً متناقضاً أساساً مع المصالح الأميركية والإسرائيلية، ومصالح الدول العربية الصديقة…. وقد لا تكون “سني-ستان” الجديدة سويسرا. وهذه ليست بمبادرة ديمقراطية، بل إنها سياسات قوة باردة. وهي متلازمة مع الهدف الاستراتيجي المتمثل في القضاء على الدولة الإسلامية، وهو الأمر الذي نتشارك فيه مع حلفائنا والقابل للإنجاز”. (جون بولتون: لإلحاق الهزيمة بالدولة الإسلامية في العراق والشام -داعش- أقيموا دولة سنية) (النيويورك تايمز).
كما قلنا آنفاً، فإن مقالة بولتون هي واحدة وحسب من العديد من المقالات وأوراق السياسة التي تدعم تقسيم العراق وسورية، وإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط. ويعتبر “داعش”، وهي في الجزء الضخم منه اختراع لأجهزة غربية دولية ونظيراتها الخليجية، مكوناً حاسماً في هذه الخطة الكلية. فمن خلال وضع تنظيم إرهابي في مركز إمدادات النفط العالمي، تمكن صناعة التسويغ العقلاني للتدخل في شؤون الدول السيادية الأخرى عندما يختار صاحب القرار ذلك. ويساعد هذا في تفسير القصف الأميركي في العياش والخان في شمال شرقي سورية. وتبرر الولايات المتحدة الهجمات من خلال التلويح براية “داعش” المدماة عندما تكون الولايات المتحدة في الحقيقة بصدد متابعة تحقيق مصالحها الاستراتيجية الضيقة الخاصة. وبينما لم تؤسس الولايات المتحدة بشكل رسمي منطقة حظر للطيران في المنطقة، فإن من الواضح الآن أن ثمة مخاطر أكبر كانت مقترنة بالعمل في شرق سورية في حينه قبل مجرد أسابيع وحسب، وهي على وجه التحديد الرسالة التي أرادت إرسالها وزارة الدفاع الأميركية.
من الممكن تطبيق نفس هذا الحكم على غزو تركيا لشمالي العراق بحوالي 900 جندي و20 دبابة. أولاً وقبل كل شيء، ليست هناك طريقة لأن تكون تركيا قد قامت بالتوغل من دون الحصول أولاً على موافقة من واشنطن. وكلنا يعرف كيف كان رد فعل إدارة أوباما عنيفاً عندما دافعت موسكو عن شبه جزيرة القرم عقب الانقلاب المدعوم من وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية “السي أي إيه” في كييف. ولك أن تقارن ذلك برد المبعوث الرئاسي الخاص، بريت مكغارك، الذي على بهذه التغريدة على “تويتر”: “إن الولايات المتحدة لا تدعم الانتشار العسكري في داخل العراق في غياب الموافقة عليه من جانب الحكومة العراقية”.
أهذا كل شيء؟ 5000 جندي أميركي ماتوا وهم يقاتلون في العراق، وكل ما يستطيع مكغارك قوله هو “ما كان عليك في الحقيقة فعل ذلك، يا تركيا”.
فلنتذكر أن واشنطن لم تفرض عقوبات على تركيا ولم تهاجم عملتها أو أسواقها المالية، كما أنها لم تهددها بشن حرب عليها كما فعلت مع روسيا. وفي الحقيقة، لم يقم أوباما بتوبيخ تركيا. إن الأمر ببساطة هو نظر إلى الجهة الأخرى وتجاهل للمسألة جملة وتفصيلاً. ومن الطبيعي أن يكون ذلك قد أثار حفيظة الحليف الأميركي في بغداد، رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، الذي هدد بالقيام بعمل ما إذا لم تنسحب القوات التركية في الأربع والعشرين ساعة التالية.
مرة أخرى، يطابق التحرك التركي بشكل كامل الاستراتيجية الإمبريالية الكلية الهادفة إلى “تفكيك” سورية والعراق وتقسيمهما إلى دويلات حميدة أصغر، والتي تبقى في “حالة دائمة من الاعتماد على المستعمِر” في المستقبل المنظور.
بالنسبة للمتحمسين الإسلاميين في أنقرة؛ إنهم يشعرون بأنهم محقون كلية في استعادة الأراضي التي يعتقدون بأنها كانت قد سلبت منهم في أعقاب الحرب العالمية الأولى. وقد لخص كاتب العمود التركي، جميل بارلاس، هذا الوضع لمراسل تلفزيون روسيا اليوم هاري فير، على النحو الآتي:
“في الماضي، كانت هذه الأراضي لنا؛ ولنا الحق في المشاركة في مصيرها. وبالإضافة إلى ذلك، فإن أقاربنا يعيشون في تلك المناطق. ونشعر بالقلق لما يحدث معهم… ووفق بارلاس فإن لتركيا الحق في الموارد الطبيعية في سورية والعراق، وهو يعتقد بأن الناس الذين يعيشون هناك لا يستفيدون من بيع النفط نظراً لأن كل مال النفط يذهب إلى “الدكتاتور””.
يؤشر غزو تركيا للعراق على بداية احتلال طويل الأمد، والذي من المرجح أن يمتد إلى الموصل. ومن شأن هذا التطور أن يؤسس رأس جسر ساحلياً حساساً للسيطرة على الموارد ومسارات خط الأنابيب التي تحافظ على تدفق النفط عبر تركيا وإلى ميناء جيهان الجنوبي. وفيما يلي المزيد حول ما يجري من كاتب العمود التركي يافوز بايدار:
“إن استعادة الموصل بالكامل هي على رأس الأجندة. ولهذا ثمة تجمع واضح للمصالح بين تركيا والحكومة الإقليمية الكردية والحلفاء الغربيين… والشخصية الرئيسية في الصورة الكبيرة هو خالد خوجا، الزعيم في الائتلاف الوطني السوري، بالتعاون الوثيق مع رئيس إقليم كردستان مسعود برزاني. لقد كان هو الذي أعلن أنها ستكون هناك قوة قتال مشتركة تبنى في كانتون روجافا (الدويلة الكردية)”.
من جهته، أكد كولونيل، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، لتونكا أغريتين من موقع ديكون نيوز في إسطنبول هذه الخطط، مضيفاً أنه كان تشكيلاً بادرت إليه الولايات المتحدة، وتركيا وأنه يتكون من 5000 رجل.
“…هذه القوات مدعومة من الولايات المتحدة وتركيا، وكلاهما ضد نظام (الرئيس السوري بشار) الأسد، من أجل فصل الأكراد في شمالي سورية”.
ويدعي إدريس نيسان، نائب وزير الخارجية في كوباني، بأن القوة الجديدة ستتكون بشكل رئيسي من أعضاء من مجموعات أحرار الشام وجبهة النصرة والتركمان.
ويربط ناسان التحركات الأخيرة باجتماع المعارضة في الرياض؛ حيث يعمل السعوديون على بناء تحالف جديد لقوات المعارضة السورية. وقال ناسان لموقع دايكن: “وراء مصطلح، قوات معتدلة، تقف العربية السعودية وتركيا”.
وهكذا، يبدو الأمر وكأن هناك اتفاقية تم التوصل لها بين تركيا والحكومة الإقليمية الكردية والولايات المتحدة لاقتطاع أجزاء في شمالي العراق وشرقي سورية، من أجل خلق دولة أمر واقع سنية، والتي تسيطر عليها بشكل مشترك كل من أنقرة وواشنطن. كما يبدو أن أوباما قد وافق على استخدام وكلاء من الجهاديين للعمل على طول الخط مع القوات الأميركية الخاصة لتنفيذ عمليات عسكرية في المستقبل. وعليه، وبينما تم وضع الجهد لإزاحة الأسد على الرف مؤقتاً، فإن التصميم على تدمير سورية ما يزال قوياً كما كان حاله دائماً.
ترجمة:عبدالرحمن الحسيني
صحيفة الغد الأردنية