دقت الساعة لإخراج القوات الأميركية الباقية في العراق بموجب “اتفاق الإطار الاستراتيجي” والحاجة إليها كقوات “غير قتالية” تقوم بمهمات التدريب والاستشارات والتسليح ومحاربة الإرهاب. ولا أحد يجهل لماذا بقيت، من حيث كان عليها الخروج بعدما أعلن المسؤولون في بغداد أن القوات المسلحة العراقية باتت قوية ومقتدرة وقادرة على محاربة “داعش” ومواجهة التحديات والأخطار على الأمن القومي، ولا لماذا لم تنفذ الحكومات قرار المجلس النيابي بإخراج تلك القوات. فاللعبة ليست بهذه البساطة وسط تعقيدات الوضع العراقي محلياً وإقليمياً ودولياً.
والمفارقة أن المطالبين بإخراج القوات الأميركيةوالمطلوب منهم ترتيب البرنامج الزمني للخروج هم الذين جاؤوا إلى السلطة على ظهر الدبابات الأميركية مع الغزو عام 2003 وإسقاط النظام برئاسة صدام حسين وحل الجيش وبدء اجتثاث البعث بالتفاهم مع إيران.
أما الذين رفعوا شعار “لا للاحتلالين الأميركي والإيراني”، فإنهم الشباب الذين قاموا بثورة أكتوبر (تشرين الأول) 2019 في كربلاء والنجف وبغداد ومعظم المحافظات في الجنوب “الشيعي”، لكن المشهد التراجيدي صار سوريالياً في المدة الأخيرة ومرشحاً للانتقال إلى مشهد يصعب تحديده في هذه المرحلة.
فالحكومات التي تعلن في الخطاب انتفاء الحاجة إلى قوات أميركية تتصرف عملياً على أساس أنها لا تزال في حاجة إليها، وهي تسمح لها بالوجود داخل قواعد عراقية في أمكنة عدة، وتلتزم حمايتها من الهجمات الصاروخية وحماية البعثات الدبلوماسية في المنطقة الخضراء في بغداد، لكن الحكومات لم تستطِع منع الفصائل الموالية لإيران ضمن “الحشد الشعبي” الخاضع نظرياً لسلطة القائد العام للقوات المسلحة رئيس مجلس الوزراء من الاستمرار في قصف القوات الأميركية بالصواريخ والمسيّرات. ولا هي تقبل بالطبع قيام القوات الأميركية بالرد على الذين يهاجمونها لأن ذلك يحرجها ويدفعها إلى وصف الردود العسكرية الأميركية بأنها “اعتداء على سيادة العراق”.
بغداد حاولت خلال حكومة مصطفى الكاظمي، وإلى حد ما مع حكومة محمد شياع السوداني، تنظيم العلاقات المتوازنة مع المحيط العربي والإيراني والتركي، والاستعداد للقيام بدور “الجسر” بدلاً من دور الانضمام إلى محور، وهي نجحت جزئياً بنسبة واقعية معقولة، لكن جشع القوى الطائفية والإثنية إلى المال والسلطة أضعف الدولة. وبقايا السياسة الأميركية بعد الغزو ومعها السياسة الإيرانية لا تزالان تكرسان المحاصصة الطائفية والإثنية كعامل ثابت في بلاد الرافدين على الطريقة اللبنانية، طريقة المحاصصة الطائفية في ظل هيمنة طائفة قوية متبدلة في لبنان وثابتة في العراق، مع فصيل مسلح قوي خارج السلطة وقابض عليها عملياً ومرتبط بفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني.
والوقائع ناطقة. فـ”الحشد الشعبي” الذي كانت بعض فصائله قائمة ثم تأسس بناءً على فتوى لمواجهة خطر تنظيم “داعش” لم يكن واحداً. كان مؤلفاً من نوعين، أولهما “الجناح المرجعي” التابع للمرجعية في النجف وفتوى “الجهاد الكفائي” التي أصدرها السيستاني، وثانيهما “الجناح الولائي” وهو حشد الولاية ومرجعيته خامنئي. ولا كانت مواجهة “داعش” المهمة الوحيدة للجناح الولائي.
أبرز ما قاله أبو مهدي المهندس الذي اغتاله الأميركيون مع الجنرال قاسم سليماني بعد الهبوط في مطار بغداد هو “الحشد الشعبي مشروع أمة مشروع مرجعية”، ومشروع الولاية بقيادة “الولي الفقيه” المرشد الأعلى علي خامنئي يتقدم حالياً في اليمن والعراق وسوريا ولبنان، بصرف النظر عن القدرة أو اللاقدرة على تحقيقه في شرق أوسط معقد وعالم عربي له قيادته ومشروعه وصراع دولي على المنطقة. والمخفي أعظم.