عاد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأحد، ليؤكد في رحلة العودة إلى أنقرة من ألمانيا، أن بلاده تنتظر اتخاذ رئيس النظام السوري بشار الأسد خطوة لتحسين العلاقات معها، حتى تستجيب “بالشكل المناسب”. وأضاف الرئيس التركي عن ملف تقارب أنقرة ونظام الأسد أنه “وصلنا الآن إلى مرحلة بحيث إنه بمجرد اتخاذ بشار الأسد خطوة لتحسين العلاقات مع تركيا، سنبادر بالاستجابة بشكل مناسب”.
وبعد سلسلة من اللقاءات السرية في عدد من الأماكن، وبتسهيل من أطراف إقليمية ودولية، عربية (العراق مثلاً) وغير عربية (منها روسيا)؛ جاء لقاء حميميم العسكري الأمني الثلاثي بين روسيا وتركيا وسلطة بشار، الأمر الذي أعطى إشارة قوية بقرب الوصول إلى مرحلة الإعلان الرسمي عن لقاء قمة قريب بين كل من رجب طيب اردوغان وبشار الأسد. وهي القمة التي ستكون على الأغلب برعاية روسية، وربما بمشاركة عراقية.
وهنا يأتي الحديث عن الدوافع المتباينة للتقارب التركي السوري، أن دوافع التحرك الروسي لإحياء محادثات التطبيع بين أنقرة ودمشق ودفعها بقوة، لا يزال قويًا، على الأقل في الأجزاء التي يسيطر عليها الأسد في سوريا، وسيظل كذلك في المستقبل المنظور، وأن بوتين والأسد لا يرغبان في أن تظهر الجهود «المصطنعة» التي تبذلها الولايات المتحدة وبريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي لتحقيق السلام في سوريا إلى الواجهة. ويحاول بوتين حل هذه القضية من خلال تفاهم مشترك بين إيران وسوريا وروسيا وتركيا، ومن دون شك فإن بوتين هو الوسيط الأكثر إقناعاً، وموسكو هي أفضل مكان للاجتماع في ظل الظروف الحالية.
بالنسبة لتركيا، أن ديناميات مثل الغضب الناجم عن بقاء اللاجئين السوريين في الداخل، والمخاطر الأمنية التي يشكلها «حزب الاتحاد الديمقراطي» و«وحدات حماية الشعب الكردية» في شمال سوريا، وحرق الأعلام التركية في مناطق سيطرة جماعات المعارضة السورية المدعومة من تركيا، تجبر أنقرة على صنع سلام فوري.
هناك أولويتين رئيسيتين لتركيا، الأولى: ضمان عودة اللاجئين السوريين، والثانية: أن الهيكل الإداري المستقل الذي تشكل «وحدات حماية الشعب الكردية» و«حزب الاتحاد الديمقراطي» امتداد «حزب العمال الكردستاني» في سوريا، قد اكتسب هيمنة إقليمية على ثلث مساحة سوريا تحت رعاية الولايات المتحدة، وهذا يسلط الضوء على البعد الأمني. وذهب إلى أن حركة تطبيع العلاقات بين تركيا وحكومة الأسد بوساطة روسية، يمكن تقييمها أيضاً بأنها محاولة لاتخاذ موقف أمام حركة قد تظهر على الجبهة الأميركية بعد انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل. وقد يكون فتح الباب، بشكل مفاجئ، أمام الحوار والمصالحة بين أنقرة ودمشق قبل الانتخابات، بمثابة «تغيير جذري لقواعد اللعبة» في سوريا.
ويمكن تفسير التقارب التركي السوري في محاولة من حزب العدالة والتنمية تحثيق بعض الانجازات الداخلية يالتوافق مع المعارضة التركية، حيث يسعى الحزب لإجراء تعديلات دستورية تزداد الحاجة إلى تحشيد مواقف المعارضة لمصلحة تمرير هذه التعديلات. وعلى الرغم من توافق كافة أحزاب المعارضة على ضرورة صياغة دستور جديد للبلاد، إلا أن ثمة خلافات وتخوفات من بعض المواد التي طرحها العدالة والتنمية، التي قد يصر على تمريرها في الدستور الجديد، ومنها إدراج مسألة حرية ارتداء الحجاب، وعدم الحق في منعه، وحماية النظام الرئاسي، فضلاً عن مقترح بتعديل نظام انتخاب رئيس الجمهورية، ليقتصر على جولة واحدة بدلاً من جولتين بالإضافة إلى إلغاء شرط الحصول على 50 في المئة+1 للفوز بالمقعد الرئاسي. ومع رفض المعارضة لهذه المقترحات، فإن حزب العدالة والتنمية يراهن على دفع التقارب وتهدئة التوتر على الساحة السياسية الداخلية، لتمرير مقترحاته في الدستور الجديد أو على الأقل جانب معتبر منها.
ولا ينفصل استمرار الأزمة الاقتصادية عن التقارب التركي السوري، حيث تراجعت مؤشرات الاقتصاد،التي وصلت إلى مستويات غير مسبوقة، حيث بلغ معدل التضخم السنوي بنهاية أيار/ مايو الفائت نحو 75.5 في المئة بالإضافة إلى وصول معدل البطالة إلى 8.5 في المئة، على نحو يعني أن الحكومة التركية لم تتمكن حتى اللحظة من تنفيذ ما وعد به خلال حملته الرئاسية في أيار/ مايو 2023، من تحويل الدولة إلى قوة صناعية، وتجاوز التحديات الاقتصادية، من خلال توفير المزيد من فرص العمل للشباب.
أما بالنسبة لسوريا، فإنها تسعى في أعقاب التهديد التوسعي الإسرائيلي إلى تحقيق أهداف مثل السيادة الكاملة على أراضيها، وطرد القوى الأجنبية، وإعادة بناء الدولة المدمرة، وتريد سلاماً مشرفاً مع تركيا.
ترى سوريا أن بوتين يسعى لتحقيق مصالحة بين أنقرة ودمشق بأي ثمن، كنتيجة للشراكة المتنامية بين تركيا وروسيا في مجالات عديدة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وبأن هذا الثمن سيجبر النظام على القبول بالتعايش مع استمرار الوجود العسكري التركي في سوريا ريثما يتم التوصل إلى تسوية نهائية للصراع.
قد لا يستطيع الأسد مقاومة الضغط الروسي إلى النهاية، لكنّ مطالبته بأن يكون ثمن المصالحة مع أنقرة قبولها بشروطه التعجيزية، تُربك الحسابات الروسية وتعمل على تقليل شهية أردوغان للبحث عن مخارج تُلبي بعض المطالب السورية من جهة، ولا تؤدي إلى التأثير بشكل كبير على الإستراتيجية التركية البعيدة المدى في سوريا من جهة ثانية. لقد قدّمت أنقرة خارطة طريق واقعية للحوار مع دمشق، لكنها كي تكون قابلة للنجاح تحتاج إلى تنازلات من الطرفين لجعل مسار التطبيع فعالا.
وعلى الرغم من أن طهران منخرطة منذ سنوات مع موسكو وأنقرة في منصة أستانا المُصممة لإدارة مصالح البلدان الثلاثة في سوريا، إلا إن اللافت تغييب لهذا الدور، في اللقاءات الجارية، والتوافقات التي يدور حولها الحديث. هذا رغم انتشار الوجود الإيراني العسكري والاستخباراتي على كامل الساحة السورية تقريباً، سواء في هيئة مستشارين أو أمنيين أو قادة عسكريين، يشرفون على عمليات تدريب وتوجيه وقيادة الميليشيات التي أدخلها النظام الإيراني بالتفاهم والتنسيق مع السلطة الأسدية إلى سوريا، والمقصود هنا بصورة أساسية ميليشيات حزب الله وفصائل الحشد الشعبي «العراقية».
وقد يكون تفسير هذا الغياب، أو التغييب، هو وجود رغبة روسية تركية، وحتى سورية رسمية في الحد من التغلغل الإيراني في الداخل السوري على صعيد المؤسسات الرسمية والمجتمعية. وهناك مؤشرات عدة تبين أن هذه الرغبة تتوافق إلى حد كبير مع التوجهات العامة بخصوص هذه المسألة ضمن الطائفة العلوية ذاتها التي لا يتوافق مزاجها العام وسلوكياتها على الصعيد الاجتماعي مع ما تحاول المؤسسة الدينية الإيرانية المذهبية فرضه عليها، والزامها بتوجهات غريبة غير معهودة وغير مقبولة بالنسبة إليها. لكن من دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح إيران في سوريا وربما إشراكها في الآلية الثلاثية، فإن الدور الإيراني سيتحول إلى لاعب مفسد للتقارب بين أنقرة ودمشق.
إلى جانب الغياب الإيراني عن مشهد التطبيع المتوقع بين تركيا وسلطة بشار، هناك الغياب الأمريكي؛ وهو غياب يثير أسئلة ملحة تتمركز حول مستقبل الوجود الأمريكي في منطقة شرق الفرات في أجواء الحديث التركي عن ضرورة وضع حد لسلطة «حزب العمال الكردستاني» عبر مسمياته السورية في المنطقة المعنية. ومن بين هذه الأسئلة: هل ستحصل الولايات المتحدة على ما تريده من ضمانات تركية تقضي بوقوف تركيا إلى جانبها في النزاعات الإقليمية والدولية التي قد تحصل؟ وهل التفاهمات الخاصة بهذه الخطوة التركية نحو سلطة بشار هي محصورة فقط بين تركيا والولايات المتحدة، هذا إذا وُجدت مثل هذه التفاهمات. أم أنها ستشمل الروس أيضاً، وحتى الإسرائيليين، شرط التزام سلطة الأسد بالحد من النفوذ الإيراني وأذرعه في سوريا، وبالتالي إبعاد إسرائيل عن احتمالات الخطر الإيراني، والأذرع التي يتسلح بها هذا الأخير، مع استمرارية الحرب الإسرائيلية على غزة، وارتفاع منسوب التوتر بين حزب الله وإسرائيل؟
حقيقة أن مسار الحوار التركي السوري تحيطه مجموعة من العوامل المباشرة وغير المباشرة المؤثرة فيه، تجعله أكثر تعقيدا. لا يرجع السقف المرتفع الذي يضعه الأسد في أي مصالحة إلى الهوة الكبيرة بين أنقرة ودمشق وتباين الأهداف والدوافع بين دمشق وموسكو فحسب، بل يكشف أيضا النفوذ الإيراني المؤثر على الأسد. على الرغم من أن طهران أبدت “سعادتها” بالحوار التركي السوري، فإن لديها الكثير من الأسباب التي تدفعها لعرقلة هذا المسار، أو على الأقل ضمان أن لا يؤثر نجاحه على مصالحها في سوريا.
بالرغم من أن تركيا راغبة في إتمام المصالحة مع سوريا لاعتبارات داخلية والحاجة إلى التعاون مع دمشق ضد الوحدات الكردية وللمساعدة في إعادة اللاجئين السوريين، فإنها غير مستعدة لتقديم تنازلات جوهرية على الفور أو في المستقبل المنظور.
في النهاية، لا اتفاق على التفاصيل، وما زال الحديث في إطار الملامح العامة التي تؤسس لضبط العلاقة بين الأطراف، وتصريحات ومواقف الرئيس التركي الأخيرة -رغم وضوحها- ما زالت تحمل غموضا في كيفية التطبيق والتنفيذ، لأنّ الطرف التركي ما زال ينظر إلى المتغيرات بحذر، ويتخوّف من عدم جدّية الحكومة السورية في إعادة المهجّرين، أو عدم قدرتها على تقويض المشروع الانفصالي للإدارة الذاتية، لا سيما أنّ الطرف التركي يدرك أنّ النظام السوري تحوّل إلى هيكل هش يحاول حلفاؤه إحياءه.
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية