مع تنامي القوة الصينية، انقسم الجدل الأمريكي حول كيفية التعامل معها إلي تيارين، يري أحدهما أن القوة الصينية في طريقها للتفوق علي القوة الأمريكية، مما يجعل الصعود الصيني تهديدا للولايات المتحدة، وسببا لعدم الاستقرار العالمي. بينما يرى التيار الآخر استمرار تفوق القوة الأمريكية، وعدم قدرة الصين علي اللحاق بها في وقت قريب.
في هذا الإطار، بدأ توماس كريستنسين كتابه برفض كل من التيارين. فعلي الرغم من اتفاقه علي أن الصين لا تمثل ندا للولايات المتحدة، فإنه يرى أن صعودها يفرض عليها تحديات.
لذا، سعي -بناء علي خبرته الأكاديمية والعملية كنائب مساعد وزير الخارجية في الفترة من 2006 إلي 2008- إلي تقديم طرح لكيفية قيام الولايات المتحدة بتشكيل خيارات السياسة الصينية لثنيها عن تهديد الأمن الإقليمي في شرق آسيا، وتشجيعها علي التعاون في حل المشكلات العالمية.
من خلال دراسة مختلف مؤشرات القوة الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، يصل الكاتب إلي أن الصين بالفعل تمثل قوة صاعدة، لكن علي عكس صعود ألمانيا واليابان في القرنين التاسع عشر والعشرين، والذي ارتبط بالعديد من الصراعات. ويعدد الكاتب بعض التغيرات التي طرأت علي النظام الدولي، والتي تدفع الصين لتجنب صراع عسكري أو اقتصادي مع الولايات المتحدة وحلفائها، منها زيادة الاعتماد الاقتصادي المتبادل علي نحو غير مسبوق، وغياب التعددية القطبية، ونظام الأحلاف الذي لعب دورا مهما في تقويض الأمن الأوروبي والآسيوي قبل عام 1945. ويشير إلي أن منطقة شرق آسيا غير مقسمة بين أحلاف متنافسة، حيث إن معظم الدول المهمة في المنطقة، عدا الصين وروسيا، إما حليف رسمي للولايات المتحدة، أو شريك أمني لها، بينما تفتقر الصين إلي حليف استراتيجي مهم في تلك المنطقة. يضاف إلي ما سبق الدور الذي تلعبه الأسلحة النووية لتجنب تصعيد أي توتر أو صراع قد ينشب.
يرفض كريستينسين الرأي القائم علي أن الصين ستسعي مع زيادة قوتها إلي تغيير القواعد الحاكمة للنظام الدولي، التي تم وضعها من قبل الولايات المتحدة. ويبرر ذلك بما حققته الصين من استفادة من النظام القائم، لذا لن تسعي لتغييره، وأن قيامها بإنشاء مؤسسات، كالبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية، الذي تغيب الولايات المتحدة عن عضويته، لا يعد بديلا عن المؤسسات القائمة، ولكن إضافة لها.
التحديات التي يفرضها الصعود الصيني:
يفند المؤلف حجج التيار الذي يري أن القوة الصينية في طريقها لتتفوق علي القوة الأمريكية، حيث يري أن الولايات المتحدة تتفوق علي الصين في كافة جوانب القوة، ولن تستطيع الصين اللحاق بها في أي وقت قريب. لكن صعود الصين في رأيه يفرض علي الولايات المتحدة الأمريكية تحديين كبيرين:
يتمثل التحدي الأول في قدرة الصين علي تهديد المصالح الأمنية الأمريكية في شرق آسيا، وزعزعة الاستقرار هناك. فمن ناحية، أصبحت الصين، مع تطور قدرتها العسكرية، قادرة علي تهديد الأصول العسكرية الأمريكية القريبة منها. لذلك، صاغت وزارة الدفاع الصينية مفهوما جديدا، هو “منع الدخول/ المناطق المحظورة”، يقوم علي فكرة سعي الصين لمنع وصول القوة العسكرية الأمريكية للمياه والمجال الجوي القريب من سواحل الصين. لكن الكاتب يري أن هذا المفهوم يحمل الكثير من المبالغات. من ناحية أخري، هناك خطر زعزعة الاستقرار في المنطقة نتيجة تصعيد أي من النزاعات الإقليمية العديدة في بحر الصين الجنوبي بين الصين والعديد من دول الجوار، في ظل التفوق العسكري الصيني، مقارنة بها.
أما التحدي الآخر، فيتمثل في كيفية إقناع دولة مثل الصين، لديها تحديات داخلية ضخمة، ونزعة قومية حادة، بالاشتراك مع المجتمع الدولي للتعامل مع المشكلات العالمية. ويري الكاتب ضرورة مشاركة الصين في الحوكمة العالمية، بحسبانها تمثل الدولة النامية الأكثر تأثيرا في التاريخ. فإذا قامت الصين بعرقلة الجهود الدولية للتعامل مع المشكلات العالمية كالانتشار النووي، وتغير المناخ، ومشكلات الاقتصاد العالمي، والصراعات الأهلية، فستتداعي هذه الجهود. وحتي إذا اكتفت بعدم التعاون، والاعتماد علي جهود الآخرين، فسيتأزم التعامل مع هذه المشكلات، بل ستنمو لتصبح أكثر تعقيدا.
السياسة الأمريكية وتحديات الصعود الصيني:
يفرد كريستينسين الجزء الثاني من كتابه ليتعقب جوانب نجاح وتعثر السياسة الأمريكية في تعاملها مع التحديات التي يفرضها الصعود الصيني منذ نهاية الحرب الباردة، وإلي أي مدي استطاعت السياسة الأمريكية التأثير في تشكيل خيارات السياسة الصينية، وذلك علي النحو الآتي:
أولا- التعامل مع التحديات الأمنية في شرق آسيا: يري الكاتب أن قدرة الولايات المتحدة علي تجنب صراع محتمل مع الصين تتطلب وجودا أمريكيا قويا في شرق آسيا، مما يردع أي عدوان صيني عسكري محتمل ضد تايوان، أو أي من دول الجوار، علي خلفية النزاعات الإقليمية في بحر الصين الجنوبي، لكن لابد من موازنة هذا الوجود بتأكيد الولايات المتحدة أنها لا تستهدف احتواء الصين، أو عرقلة صعودها، أو زعزعة استقرارها الداخلي. وقد قدم الكاتب أمثلة عديدة علي نجاح وفشل الإدارات الأمريكية في تحقيق ذلك.
بالرغم من بعض الإخفاقات في البداية فإن إدارة كلينتون في النصف الثاني من التسعينيات قد نجحت في تقوية الوجود الأمريكي في شرق آسيا، من خلال الإبقاء علي قوات أمريكية، قوامها 100 ألف جندي، وتعزيز تحالفات الولايات المتحدة مع دول المنطقة، بالإضافة إلي طمأنة الصين بأن الولايات المتحدة لا تدعم استقلال تايوان. وقد أسهمت هذه السياسة المتوازنة في دفع الصين إلي تدعيم الدبلوماسية متعددة الأطراف، والتكامل الاقتصادي مع جيرانها كنتيجة لتخوفها من أن يتم تطويقها من قبل الولايات المتحدة، وتجنب إثارة نزاعاتها الإقليمية مع دول الجوار. واستمرت إدارة جورج بوش الابن في تقوية الوجود العسكري والاقتصادي في شرق آسيا، مع اتخاذ العديد من الإجراءات لبناء الثقة مع الصين.
تتفق الملامح الأساسية لاستراتيجية إدارة أوباما تجاه آسيا مع السياسة المتوازنة التي يطرحها الكاتب، لكن نتج عن خطاب الإدارة الأمريكية عدة مشكلات، لعل أهمها تبنيها خطاب “التوجه نحو آسيا”، و”العودة مرة أخري لآسيا”، وهو ما لا يعد دقيقا في الواقع، وأدي إلي تقوية الاعتقاد الصيني بسعي الولايات المتحدة لاحتوائها، ومن ثم أسهم في تبني الصين سياسة أكثر حسما وتصعيدا إزاء نزاعاتها الإقليمية مع دول الجوار.
ثانيا- تحدي إشراك الصين في الحوكمة العالمية: في فترة إدارة كلينتون، ركزت السياسة الأمريكية علي إثناء الصين عن عرقلة الجهود الدولية، أو علي الأقل تحييدها. علي سبيل المثال، تم التعامل مع الصين بحسبانها مصدرا للانتشار النووي، وليست شريكا في التعامل معه. ولكن مع مطلع القرن الحادي والعشرين، تغيرت السياسة الأمريكية، حيث سعت إدارة بوش الابن إلي الاستفادة من زيادة القوة الصينية بدفعها لاستخدام نفوذها للمشاركة في حل المشكلات العالمية، والحديث عن الصين بحسبانها “شريكا مسئولا”. ففي الفترة من 2002 إلي 2008، زاد تعاون الصين في المبادرات متعددة الأطراف كالمباحثات السداسية الخاصة بكوريا الشمالية، وجهود الأمم المتحدة لحفظ السلام في دارفور، وجهود مكافحة القرصنة في خليج عدن. ويشير المؤلف إلي أن استراتيجية أوباما تعد استمرارا للرؤية نفسها بأن الوسيلة الأفضل لتجنب التوترات هي بناء الثقة من خلال التعاون في مشروعات مشتركة ذات طبيعة متعددة الأطراف.
في الختام، يؤكد كريستينسين أن الولايات المتحدة، بالتعاون مع حلفائها وشركائها، لديها القدرة علي تشكيل خيارات السياسة الصينية. ويمكن إجمال رؤيته لكيفية القيام بذلك في شقين، يتمثل الأول في الوجود العسكري الأمريكي القوي في شرق آسيا. فبدونه، سيتم إدراك التعاون الأمريكي كدليل علي الضعف. بينما يتمثل الشق الآخر في تشجيع الصين علي المشاركة في حل المشكلات الإقليمية والعالمية، وذلك من خلال إنشاء قنوات سلمية للتعاون بين الدولتين، وقد يساعد علي ذلك بناء الثقة في القضايا محل الاهتمام المشترك بين الدولتين في مناطق أخري خارج شرق آسيا.
توماس كريستينسين
عرض: هايدي عصمت كارس