ملخص:
تندرج الأحداث الثلاثة: قطع العلاقات السعودية-الإيرانية، وزيارة بايدن لأنقرة، ومحادثات جنيف حول الأزمة السورية، في منطق واحد؛ فالسعودية وتركيا والمعارضة السورية، يعتقدون أن مصالحهم لم تعد تجد المراعاة المنشودة من القوى الغربية، بل إن هذه القوى الغربية باتت، من أجل قتال تنظيم الدولة والقاعدة، أقرب إلى الاتفاق مع خصومهم في طهران وموسكو ودمشق، وليس قطع السعودية علاقاتها إلا اعتراضًا على قبول الغرب بدور إيراني متزايد في شؤون المنطقة، وليست زيارة بايدن إلا محاولة لإقناع تركيا بقبول أكراد سوريا شريكًا في الحرب على تنظيم الدولة، وليست محادثات جنيف إلا محاولة أميركية غربية للتقرب من المحور الإيراني-الروسي على حساب الثورة السورية.
مقدمة
يناير/كانون الثاني هو أكثر شهور العام برودة في الشرق الأوسط. ولكن يناير/كانون الثاني 2015 هذا العام كان حافلًا بالأحداث الساخنة، التي وضعت المشرق كله على سطح صفيح ساخن، سواء في علاقات دوله البينية، أو في دور القوى الكبرى في قضاياه التي تزداد تعقيدًا. ولأن سوريا تحولت إلى محدِّد رئيس لمستقبل المشرق وقواه، فقد انعكس مجمل هذه التطورات على المسار البطيء والمتعرج للأزمة السورية.
وربما يمكن رصد ثلاثة أحداث مهمة، ومترابطة، شهدها يناير/كانون الثاني:
قطع العلاقات الدبلوماسية بين السعودية وإيران؛ وزيارة نائب الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن للعاصمة التركية، أنقرة؛ وتوجيه ستيفان دي مستورا، مبعوث الأمم المتحدة الخاص لسوريا، الدعوات للمباحثات السورية بين النظام والمعارضة، التي تَقَرَّر عقدها في جنيف يوم الجمعة، 29 يناير/كانون الثاني.
ستحاول هذه الورقة قراءة الخيوط التي تربط هذه الأحداث الثلاثة معًا، وما الذي تعنيه لمسار أزمة السنوات الخمس في سوريا.
السعودية وإيران: انفجار متأخر
سارعت وزارة الخارجية السعودية، مساء يوم الأحد 3 يناير/كانون الثاني، إلى الدعوة لمؤتمر صحفي عاجل، تضمَّن بيانين منفصلين. حمل الأول، الذي تلاه ناطق باسم الوزارة، سردًا لسلسلة أحداث، اعتبر على ضوئها سياسة إيران عدوانية تجاه السعودية ودول الخليج.
أمَّا الثاني، فتلاه وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، وأعلن عن قطع العلاقات بين طهران والرياض، وعودة البعثة الدبلوماسية السعودية في إيران إلى البلاد، والطلب من البعثة الدبلوماسية الإيرانية مغادرة السعودية خلال 48 ساعة. ويبدو أن قرار قطع العلاقات لم يُعلَن حتى تأكدت السلطات السعودية من مغادرة دبلوماسييها وعائلاتهم إيران.
تتعلق الخلفية المباشرة للتدهور الكبير في العلاقات السعودية-الإيرانية بإعلان الرياض، 2 يناير/كانون الثاني، عن قرارها إعدام 47 متهمًا بالإرهاب، أغلبهم من المواطنين السعوديين، بعد أن استنفدت إجراءات استئناف قضاياهم. الأغلبية العظمى من هؤلاء من المسلمين السُّنَّة، ولكن بينهم أيضًا العالم السعودي الشيعي، نمر النمر. أثار قرار إعدام النمر على وجه الخصوص ردود فعل شيعية واسعة، سيما في إيران والدوائر الشيعية الموالية لها في العراق ولبنان؛ بما في ذلك تهديد واضح من الناطق باسم الحكومة الإيرانية بأن السعودية ستدفع ثمن إعدام النمر. وخرجت تظاهرات غاضبة في العاصمة الإيرانية طهران، حاصرت السفارة السعودية، ثم أشعلت النار ببعض أجنحتها ونهبت بعض محتوياتها؛ كما حدثت احتجاجات أمام القنصلية السعودية بمدينة مشهد، شمال إيران.
أكَّدت المصادر السعودية أن مسؤولين في السفارة السعودية بطهران قد اتصلوا مبكرًا بنظرائهم الإيرانيين للمطالبة بتعزيزات أمنية في محيط السفارة، ولكن الإيرانيين لم يستجيبوا لهذه المطالب. وبالنظر إلى اللغة التي استخدمها مسؤولون إيرانيون، حاليون وسابقون، في التعليق على قرار إعدام النمر، وما هو معروف من تحكم السلطات الإيرانية في التجمعات الاحتجاجية، جزم السعوديون بأن الاعتداء على سفارتهم في طهران كان عملًا منظَّمًا وموجَّهًا من دوائر الحكم الإيراني. وهذا، على الأقل ما تم التوكيد عليه، في مؤتمر وزارة الخارجية السعودية الصحفي، باعتباره السبب المباشر في قرار قطع العلاقات.
بيد أن السرعة التي اتُّخِذ فيها قرار قطع العلاقات، وما رافقه من أمر السفير الإيراني وطاقمه الدبلوماسي بمغادرة الرياض، يشير إلى أن القرار السعودي مفكَّر فيه جيدًا، وقُصِد به إفهام الإيرانيين أن السعودية باتت تعتبر إيران عدوًّا ينبغي مواجهته وليس جارًا يمكن التفاهم معه. والحقيقة، أن العلاقات بين البلدين، التي لا يبدو أنها احتلَّت موقعًا بارزًا في سُلَّم الأولويات السعودية إبَّان عهد الملك الراحل عبد الله، أصبحت موضع اهتمام خاص في الرياض منذ تولَّى الملك سلمان الحكم في يناير/كانون الثاني 2015. وتشمل عوامل التوتر في علاقات البلدين سلسلة من الأزمات، بما في ذلك الهيمنة الإيرانية على القرار العراقي؛ الدور الذي تلعبه إيران عبر حلفائها في لبنان؛ والدعم الذي تقدمه إيران للحوثيين في اليمن؛ والمقاربة الإيرانية الطائفية للأقليات الشيعية في دول الخليج، وتزايد الاتهامات لطهران بدعم تشكيل خلايا مسلحة في البحرين والكويت؛ والتناقض بين موقفي الدولتين من الصراع على سوريا، المستمر منذ أعلنت السعودية موقفها الرافض لنظام الأسد في نهايات 2011.
قرار قطع العلاقات بين الدول، بالطبع، هو قرار دراماتيكي، ويصبح بالتأكيد أكثر أثرًا عندما يقع بين دولتين تعتبران قوتين رئيستين في إقليم يزدحم بالأزمات ذات الصلة المباشرة بسياسات الدولتين. وقد جاء القرار بعد توقيع الاتفاق حول الملف النووي الإيراني، وقبل أسابيع قليلة من موعد رفع العقوبات الغربية عن إيران، الذي يُنظَر إليه باعتباره بداية تطبيع دور إيران الدولي، وعودة العلاقات الطبيعية بين إيران والدول الأوروبية، على الأقل. وليس ثمة شك أن الرياض، التي لم تعترض علنًا من قبل على الاتفاق النووي، لم تكن سعيدة بالطريقة التي تناولت بها إدارة أوباما الملف برمته، ولا موقفها من دور إيران الإقليمي، ولا السياسة الأميركية تجاه الأوضاع في العراق ولبنان وسوريا. وكان واضحًا أن واشنطن، التي تأمل بتعاون سعودي-إيراني لدفع عجلة الحلِّ السياسي للأزمة السورية، بصورة خاصة، فوجئت بقرار السعودية قطع علاقاتها مع إيران.
ولذا، فلابد أن يُنظر إلى خطوة قطع العلاقات مع طهران باعتبارها رسالتين، وليست رسالة واحدة؛ رسالة للنظام الإيراني وأخرى للحليف الأميركي. بمعنى أن السعودية لا تقول إنها ستعتمد سياسة مواجهة صريحة مع إيران وحسب، بل وإنها أيضًا لم تعد تثق بمظلة الحماية الأميركية وصلابة الاعتماد على سياسة واشنطن في المنطقة.
خلافات تركية-أميركية
أجرى نائب الرئيس الأميركي، جوزيف بايدن، زيارة رسمية لتركيا يومي 22 و23 يناير/كانون الثاني. وبالنظر إلى أن تفاقم الملفات الإقليمية موضع اهتمام البلدين، وأن الزيارة تأتي بعد فوز العدالة والتنمية الكبير في انتخابات نوفمبر/نشرين الثاني 2015، وأنها قد تكون الزيارة الأخيرة لمسؤول أميركي على هذا المستوى إلى تركيا قبل نهاية ولاية أوباما في البيت الأبيض، كانت احتمالات الاتفاق والخلاف في مباحثات بايدن مع المسؤولين الأتراك موضع اهتمام كبير لمراقبي العلاقات التركية-الأميركية.
كرَّر بايدن خلال لقائه بقادة أتراك من البرلمان والمجتمع المدني انتقادات إدارة أوباما لما تراه من قيود على حرية التعبير في تركيا؛ وهو الأمر الذي استدعى قيام الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، بتذكير بايدن بأن أحدًا لا يجب أن يساوي بين دعم الإرهاب وحرية التعبير. ولكن بايدن لم يتردد، سواء في لقاءاته غير الرسمية أو في المؤتمر الصحفي الذي عقده مع رئيس الحكومة التركية، أحمد داود أغلو، في وصف حزب العمال الكردستاني بالإرهاب، والتوكيد على أن تركيا تواجه خطرًا إرهابيًّا مزدوجًا من الحزب ومن تنظيم الدولة. وأشارت تقارير إلى أن الطرفين اتفقا على تعزيز تعاون البلدين في الحرب ضد تنظيم الدولة، لاسيما فرض رقابة صارمة على الحدود التركية-السورية. كما أشارت التقارير إلى أن الجانب الأميركي وافق مبدئيًّا على مقترح تركي لإيجاد حلٍّ للخلاف حول قاعدة التدريب العسكري التركية في بعشيقة العراقية، التي طالبت بغداد بإغلاقها وسحب القوات التركية من الأراضي العراقية. ويتضمن المقترح التركي وضع القاعدة ضمن جهود التحالف الدولي لمواجهة تنظيم الدولة، ووجود مراقبين عسكريين عراقيين في القاعدة بوصف العراق أحد الأطراف الرئيسة في التحالف.
إنْ وُضِع الخلاف حول مسألة حرية التعبير جانبًا، وهي التي لا تُعتبر مسألة جديدة أو ذات تأثير كبير على علاقات البلدين الحليفين في الحلف الأطلسي، على أية حال، فلابد أن تُعتبر زيارة بايدن تطورًا إيجابيًّا في هذه العلاقات، التي شابها بعض التوتر وعدم الوضوح خلال العامين الماضيين. ولكن الحقيقة أن زيارة بايدن أعادت التوكيد على واحد من أهم أسباب الخلاف بين أنقرة وواشنطن: الدور الكردي في سوريا. من زاوية نظر الحكومة التركية، لا يوجد فارق بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا وحزب العمال الكردستاني في تركيا. الأول، كما قال داود أغلو في 23 يناير/كانون الثاني، هو فرع للثاني، وقد باتت سوريا مصدر معظم السلاح الذي يقاتل به العمال الكردستاني الدولة التركية. وبالنظر إلى التوافق بين الاتحاد الديمقراطي ونظام الأسد على تقاسم الأدوار في منطقة شمال غربي سوريا، وإلى العلاقات المتزايدة بين الحزب والقوات الروسية في سوريا، تعتبر أنقرة الاتحاد الديمقراطي ليس خطرًا على تركيا وحسب، بل وخطرًا إقليميًّا، يهدد دور تركيا في سوريا.
المشكلة، أن الولايات المتحدة لا ترى حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا كما تراه تركيا؛ بل إن واشنطن لم ترَ مانعًا من التعاون العسكري مع قوات الاتحاد الديمقراطي (وقوات حماية الشعب، التابعة له)، ودعمه عسكريًّا ولوجستيًّا في الحرب ضد تنظيم الدولة. وليست هذه بسياسة أميركية طارئة، بل هي سياسة مستمرة منذ معركة عين العرب (كوباني) في 2013، على الأقل. ما حدث في الشهور القليلة الماضية أن التعاون الأميركي للاتحاد الديمقراطي ودعمه قد تصاعد، بعد أن أصبحت قوات الحزب تمثِّل العمود الفقري لما يسمى بقوات سوريا الديمقراطية المناهضة لتنظيم الدولة. وتشير تقارير إلى أن القوات التابعة للاتحاد الديمقراطي تجهز قاعدة جوية سورية قريبة من القامشلي لاستخدام الأميركيين.
بدايات متعثرة للمباحثات حول سوريا
عقد المبعوث الأممي لسوريا، ستيفان دي مستورا، مؤتمرًا صحافيًّا يوم 25 يناير/كانون الثاني، اليوم الذي كان يُفترض أن تبدأ فيه المباحثات بين النظام السوري وقوى المعارضة لإيجاد حلٍّ سياسي للأزمة السورية. اعترف دي ميستورا بالصعوبات التي منعت بدء المفاوضات في وقتها، وأعلن أنه سيقوم في اليوم التالي، 26 يناير/كانون الثاني، بتوجيه الدعوات للأطراف المعنية، وأن المباحثات ستنطلق أخيرًا بجنيف، يوم الجمعة 29 يناير/كانون الثاني. ويعتقد أن إعلان دي ميستورا جاء بعد صدور الإشارة الخضراء من وزيري الخارجية الأميركي كيري والروسي لافروف، سيما بعد أن أجرى الأول سلسلة من الاتصالات الهاتفية بنظرائه في روسيا وتركيا والسعودية خلال الساعات التي سبقت مؤتمر دي مستورا الصحفي.
بيد أن إعلان المبعوث الأممي عن موعد مباحثات جنيف لم يُخفِ التعقيدات التي لم تزل تحيط بمساعي الحل السياسي للأزمة السورية. لم يوضح دي مستورا قائمة أسماء من سيُدعَوْن للمباحثات من المعارضة؛ ولم يكن محددًا في حديثه عن جدول أعمال المباحثات وهدفها النهائي؛ ولا قدَّم إجابة صريحة لما تراه قوى المعارضة السورية من ضرورة لتطبيق إجراءات بناء الثقة قبل انطلاق التفاوض. الحقيقة، أن حديث دي مستورا حمل إشارات ضمنية كان لابد أن تثير الكثير من القلق لدى المعارضة السورية، مثل ضرورة الذهاب للمباحثات بدون شروط مسبقة، واعتقاده أن قرار مجلس الأمن الخاص بالأزمة السورية، القرار 2254، قد منحه حق وضع اللمسات الأخيرة على وفد المعارضة.
المسألة الأساسية أن موقع دي مستورا يكتسب قوته ليس من التفويض المجرد من مجلس الأمن، بل من التوافق الأميركي-الروسي. قضى دي مستورا فترة طويلة ممثِّلًا أمميًّا لسوريا، ولكنه لم يبدأ في إحراز تقدم ملموس إلا بعد بياني فيينا الصادرين في 30 أكتوبر/تشرين الأول و14 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، اللذين عكسا التوافق الأميركي-الروسي على بدء مباحثات المعارضة والنظام، وصدور قرار مجلس الأمن 2215 الصادر في ديسمبر/كانون الأول 2015، الذي منح التأييد والشرعية الدولية للتوافق الأميركي-الروسي. روسيا، كما اتضح طوال مراحل الأزمة السورية، مثَّلت نظام دمشق ودافعت عن وجوده واستمراره. والمفترض أن الولايات المتحدة تقف خلف المعارضة، وتدفع في اتجاه تغيير ديمقراطي في سوريا. المشكلة، أن شيئًا من الغموض والتردد شاب الموقف الأميركي في الشهور القليلة السابقة على بدء مباحثات جنيف.
ما إن بدا واضحًا أن الأزمة السورية تتجه نحو مفاوضات بإشراف دولي بين النظام والمعارضة حتى بادرت المملكة العربية السعودية، في ديسمبر/كانون الأول الماضي، لعقد مؤتمر في الرياض، ضمَّ طيفًا واسعًا من قوى المعارضة السياسية والعسكرية، لحل مشكلة التمثيل الموحَّد للمعارضة. خرج المؤتمِرون باتفاق على تشكيل هيئة عليا للتفاوض، تقوم بالإشراف على العملية التفاوضية وتُسمِّي الوفد المفاوض للمعارضة. وبالرغم من أن كافة الدول الغربية، بما في ذلك الولايات المتحدة، رحَّبت بمؤتمر الرياض ونتائجه، إلا أن روسيا، التي تدعم معارضين آخرين، وأسَّست لعلاقات وثيقة مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في سوريا، اعتبرت أن الهيئة العليا للتفاوض لا تمثِّل كل أطياف المعارضة وأنها تضم عناصر من مجموعات إرهابية. في الأيام القليلة السابقة على بدء المفاوضات، ستشكل هذه المسألة واحدة من أبرز العثرات في الطريق إلى جنيف.
في 23 يناير/كانون الثاني، عقد وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، لقاءً مهمًّا مع رياض حجاب، رئيس الهيئة العليا للتفاوض، في العاصمة السعودية الرياض. طبقًا لمصادر المعارضة السورية، لم يحمل اللقاء ما يُطمئن المعارضين السوريين. قال كيري في اللقاء: إن دي ميستورا قد يدعو معارضين آخرين للمباحثات؛ وإن المباحثات لابد أن تبدأ بغضِّ النظر عن تطبيق النظام والروس لإجراءات بناء الثقة، مثل رفع الحصار عن المناطق المحاصرة ووقف قصف المدنيين؛ وإن الأسد سيبقى رئيسًا خلال الفترة الانتقالية ومن حقه المشاركة في الانتخابات الرئاسية التي ستتلو نهاية المرحلة وكتابة دستور جديد؛ وإن الهدف الأساسي للمفاوضات الاتفاق على تشكيل حكومة وحدة وطنية. وطبقًا للمصادر نفسها، لم يُشِرْ كيري أبدًا طوال ساعتي اللقاء إلى “هيئة حكم انتقالية، كاملة الصلاحيات”، التي وردت في بيان جنيف الأول بين الولايات المتحدة وروسيا في صيف 2012، الذي تعتبره المعارضة المرجعية الأولى لعملية التفاوض. استخدم كيري في لقائه مع حجاب لغة تهديدية، بما ذلك التلويح بأن عدم الذهاب إلى جنيف سيؤدي إلى إيقاف المساعدات الأميركية للمعارضة.
خلال اليومين التاليين، تسرَّبت محتويات اللقاء إلى العلن؛ فصدرت ردود فعل غاضبة من أوساط المعارضة السورية، السياسية والعسكرية على السواء. يُعتقد بأن السعودية وتركيا سارعتا إلى بذل ضغوط جديدة على الأميركيين؛ وهذا ما أدَّى إلى أن يعقد مايكل راتني، المبعوث الأميركي إلى سوريا، لقاءات مع عدد من قيادات المعارضة السورية، وإصدار بيان على موقع السفارة الأميركية في سوريا، 26 يناير/كانون الثاني، لتوضيح الموقف الأميركي. قال راتني في بيانه: إن الولايات المتحدة ترى أن الهيئة العليا للمفاوضات هي التي تمثِّل المعارضة السورية؛ وأنها لا تقبل مفهوم حكومة الوحدة الوطنية على النحو الذي يطرحه النظام وبعض الجهات الأخرى (يقصد إيران وروسيا)؛ وأن إقامة هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة وبموافقة متبادلة هي الطريق الوحيد لحل دائم في سوريا؛ وأن السلام لا يمكن أن يتحقق مع سعي بشار الأسد للتمسك بالسلطة؛ وأن ترتيبات الحكم الانتقالي تتطلب موافقة متبادلة؛ وأنه في حال تسبب النظام بإفشال عملية التفاوض فإن المعارضة ستحظى بدعمنا.
اعتبرت لجنة المفاوضات العليا، المجتمعة في الرياض بصورة دائمة منذ ما بعد لقاء حجاب وكيري، أن التوضيحات الأميركية تبعث على الاطمئنان؛ ولكن تلك التوضيحات لم تكن كافية لتذليل كافة العقبات في الطريق إلى المفاوضات. الأهم، أن رسالة كيري للمعارضة السورية، حتى بعد توضيحات راتني، عززت الشكوك في الرياض وأنقرة في المراهنة على موقف الحليف الأميركي.
مسائل الخلاف
أصبح واضحًا، قبل ساعات من توجيه دي مستورا الدعوات لأطراف التفاوض، أن هناك عددًا من مسائل الخلاف التي قد تمنع انطلاق العملية في 29 يناير/كانون الثاني:
من سيقرِّر دي مستورا دعوتهم من جانب المعارضة.
حقيقة الموقف الدولي من إجراءات بناء الثقة.
ما إن كان هدف المفاوضات تشكيل هيئة حكم انتقالي، كاملة الصلاحيات، أم أن الهدف أصبح أكثر تواضعًا ويتعلق بتشكيل حكومة وحدة وطنية في ظل بقاء الأسد على مقعد الرئاسة.
وما إن وجَّه دي مستورا الدعوات بالفعل، مساء يوم 26 يناير/كانون الثاني، حتى انكشف المشهد عن التالي:
وجه دي مستورا الدعوة للهيئة العليا للتفاوض، داعيًا إيَّاها لتسمية وفد المعارضة لجنيف، ولكن دي مستورا قام بخطوة أخرى لترضية الجانب الروسي، عندما وجَّه الدعوة لعشر شخصيات سورية أخرى، بصفتها الفردية، كمستشارين للمبعوث الأممي. وأفادت مصادر مكتب دي مستورا أن مقر هذه الشخصيات الاستشارية سيكون على الأرجح زيورخ وليس جنيف. تضم هذه الشخصيات أسماء مثل الكردي، الماركسي السابق، المقيم في موسكو، قدري جميل، والعلوي فاتح جاموس، ومازن مغربية، وهيثم منَّاع، وجميعهم من المقربين لموسكو. كما تضم الشخصية العشائرية عباس حبيب؛ إلى جانب النشطة في المجمتمع المدني رندة قسيس، والناطق السابق باسم الخارجية السورية جهاد مقدسي، وماجد حبو، وثلاثتهم من خلفية مسيحية. إضافة إلى سليم خير بك والممثل جمال سليمان، وكلاهما من خلفية علوية. وفي استجابة أخرى لتهديدات تركية بأن دعوة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ستؤدي إلى تراجع أنقرة عن دعم مفاوضات جنيف، لم يوجِّه دي مستورا الدعوة لرئيس الحزب، صالح مسلم، الذي ترددت شائعات حول احتمال دعوته.
حدَّد دي مستورا الدعوة للمفاوضات على أساس بيانَيْ فيينا الصادرين في 30 أكتوبر/تشرين الأول و14 نوفمبر/تشرين الثاني 2015، وقرار مجلس الأمن الدولي 2215، الصادر في 18 ديسمبر/كانون الأول 2015. ولم تأتِ الإشارة إلى بيان جنيف 2012 إلا في صورة غير مباشرة، عندما نصَّت الدعوة على أن مهمة المبعوث الدولي ستكون “تسيير مباحثات حول عملية الانتقال السياسي بشكل عاجل عملًا ببيان جنيف وتماشيًا مع بيان فيينا الصادر عن الفريق الدولي في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2015”. كما ذكرت رسالة الدعوة أن المخرجات المحددة للعملية التفاوضية هي “إقامة حُكم ذي مصداقية يشمل الجميع ولا يقوم على أسس طائفية، وجدول زمني وعملية لصياغة دستور جديد في غضون فترة مستهدفة مدتها ستة أشهر، وانتخابات حرة ونزيهة تُجرَى عملًا بالدستور الجديد في غضون 18 شهرًا، تحت إشراف الأمم المتحدة”. بمعنى، أن دي مستورا لم يستخدم مصطلح “هيئة حكم انتقالي، كاملة الصلاحيات”، ولكنه أدخل مصطلحًا جديدًا: “حكم ذي مصداقية، يشمل الجميع …”.
أمَّا فيما يتعلق بإجراءات بناء الثقة، فقد اعتبرتها رسالة الدعوة، إضافة إلى سيناريوهات وقف إطلاق النار، موضوعًا للمشاورات الأولية التي ستجري بصورة غير مباشرة في اللقاء الأوَّلي، وليست خطوات يُفترض أن تطبَّق قبل بدء العملية التفاوضية.
بخلاف مسألة وفد المعارضة، التي يبدو أنها اعتُبرت نصرًا حقيقيًّا للهيئة العليا للمفاوضات، على أساس أن المبعوث الدولي سمَّاها جهة وحيدة لتمثل قوى المعارضة وأن لها الحرية في تشكيل وفدها في جنيف (بالرغم من احتمال وجود ضغوط سرية على الهيئة لتغيير بعض أسماء الوفد المفاوض)، أثارت المسائل الأخرى المتعلقة بهدف العملية والتساهل في إجراءات تطبيق الثقة قلقَ الهيئة العليا للمفاوضات. وهذا ما أدَّى بالهيئة إلى توجيه رسالة إلى دي مستورا وأخرى للأمين العام للأمم المتحدة، يوم 27 يناير/كانون الثاني، تطلب فيها توضيحات حول المسألتين. بانتظار هذه التوضيحات، لم تعلن الهيئة بصورة قاطعة بعد مشاركة وفدها في المفاوضات.
بديل عن الضمانة الأميركية
تندرج الأحداث الثلاثة: قطع العلاقات السعودية-الإيرانية، وزيارة بايدن لأنقرة، ومحادثات جنيف حول الأزمة السورية، في منطق واحد؛ فالسعودية وتركيا والمعارضة السورية، يعتقدون أن مصالحهم لم تعد تجد المراعاة المنشودة من القوى الغربية، بل إن هذه القوى الغربية باتت، من أجل قتال تنظيم الدولة والقاعدة، أقرب إلى الاتفاق مع خصومهم في طهران وموسكو ودمشق، وليس قطع السعودية علاقاتها إلا اعتراضًا على قبول الغرب بدور إيراني متزايد في شؤون المنطقة، وليست زيارة بايدن إلا محاولة لإقناع تركيا بقبول أكراد سوريا شريكًا في الحرب على تنظيم الدولة، وليست محادثات جنيف إلا محاولة أميركية غربية للتقرب من المحور الإيراني-الروسي على حساب الثورة السورية.
ولعل الأزمة السورية تعد الميدان الرئيسي لهذه الصراعات، فلقد تحولت القضية السورية خلال السنوات الخمس الماضية من ثورة شعب من أجل الحرية والديمقراطية والحكم الرشيد، سلْمًا في البداية، ثم حركة مقاومة مسلحة بعد أشهر من انطلاقها، إلى ساحة صراع إقليمي، ومجال تدخلات دولية حثيثة. ولم يكن ثمة مفر، في النهاية، من تداخل المحلي بالإقليمي، وارتباط كليهما بالبُعد الدولي؛ بل إن الدولي أصبح العامل الأكثر أثرًا في مجريات الأزمة منذ بدأ التدخل العسكري الروسي في نهاية سبتمبر/أيلول 2015. ولم يكن ممكنًا، بالتالي، أن يبرز الحل السياسي للأزمة خيارًا جادًّا، وأن تبدأ الاستعدادات لعقد مباحثات جنيف، لولا التفاهم الأميركي-الروسي في لقائي فيينا نهاية 2015.
المشكلة أن التفاهم الأميركي-الروسي حمل منذ البداية تراجعًا في الموقف الأميركي من الأزمة، حتى عمَّا أعلنه ووقَّع عليه مسؤولون أميركيون من قبل. لم يعد الموقف الأميركي واضحًا من تشكيل هيئة حكم انتقالي، كاملة الصلاحيات، لتقود المرحلة الانتقالية في سوريا، ولا من مستقبل ودور بشار الأسد في حكم سوريا. وربما يمكن القول: إن تحول المقاربة الأميركية من العمل على انتقال سوريا إلى حكم حُرٍّ، ديمقراطي، وغير طائفي، إلى الحرب على تنظيم الدولة، أدَّى إلى متغيرات تدريجية وحثيثة في الموقف الأميركي من الصراع المحتدم على سوريا ومستقبلها، بما في ذلك الموقف الأميركي من التدخل الروسي العسكري في الصراع.
لم يكن خافيًا، سواء لقوى الثورة السورية، السياسية والعسكرية، أو للدول المؤيدة للشعب السوري، مثل: تركيا والسعودية وقطر، منذ الشهور الأولى للثورة، أن ثمة خلافًا مع إدارة واشنطن تجاه الموقف من سوريا. رفضت واشنطن، مثلًا، التدخل العسكري المباشر، عندما كانت حظوظ هذا التدخل كبيرة في وضع نهاية للأزمة؛ ورفضت السماح بتزويد الثوار السوريين بسلاح نوعي لمواجهة بطش آلة النظام العسكرية؛ كما رفضت تأييد إقامة شريط آمن لحماية اللاجئين السوريين. ولكن، وبالرغم من ترحيب أغلب القوى السورية، وتركيا والسعودية وقطر، بمشروع الحل السياسي-التفاوضي، لا يبدو أنها علَّقت كثيرًا على التراجعات الأميركية في التفاهمات الأميركية-الروسية في فيينا. الآن، وقبل أيام على انطلاق العملية التفاوضية، تبرز هذه التراجعات حجر عثرة أمام بداية صحيحة ومتكافئة وباعثة على الأمل للمفاوضات.
الأرجح، وبالرغم من أن الهيئة العليا للتفاوض لم تستلم الرد الأممي على استفساراتها بعد، أن الهيئة ستذهب في النهاية إلى جنيف، وأن مفاوضاتٍ ما ستنطلق. والمشكلة أن الهيئة لا تدرك، كما يبدو، مصادر قوتها وأنها بالفعل تستطيع أن توقف المفاوضات قبل بدايتها. ولكن، ومهما كان الأمر، يبدو أن حظوظ نجاح مفاوضات جنيف لا تزيد كثيرًا عن حظوظ فشلها. المسافة بين الطرفين لم تزل شاسعة، والتغييرات التي وقعت، مهما بدت طفيفة ولغوية، في أهداف عملية التفاوض، إضافة إلى التدخل الروسي العسكري، تشجعِّ النظام على الاعتقاد أن بإمكانه المحافظة على وجوده. وسيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، وجود أغلبية سورية معارضة تقبل بأن يكون نظام الأسد جزءًا من مستقبل البلاد.
من جهة أخرى، لم يعد ثمة شك في أن سوريا أصبحت لدول مثل تركيا والسعودية إحدى أهم ساحات تجلي التوازن الإقليمي، وواحدة من أبرز معايير قياس الموقف الأميركي في المشرق. وتبدو مراوحات واشنطن بين عدم الوضوح في الموقف من سوريا، تارة، والتراجع عن مواقف مسبقة، تارة أخرى، سببًا إضافيًّا في عدم الاطمئنان للحليف الأميركي. وربما يمكن القول: إن حلفاء واشنطن في المشرق ارتكبوا خطأً كبيرًا عندما وافقوا على الاندراج في الحرب ضد تنظيم الدولة، بدون أن يحصلوا على موقف أميركي أكثر وضوحًا والتزامًا في سوريا. وإلى أن تُسلَّم مقاليد البيت الأبيض لإدارة جديدة، واتضاح ما إن كانت مقاربة إدارة أوباما لشؤون الشرق الأوسط مرحلية أو استراتيجية، فالأرجح أن عدم الاطمئنان هذا سيتعمق. السؤال الأهم في هذا السياق هو ما إن كانت دول مثل تركيا والسعودية، والدول الأخرى الصديقة لهما في الإقليم، ستستطيع إقامة تحالف إقليمي يحمي مصالحهما، بغضِّ النظر عن الموقف الأميركي؟