ما جرى في البلدان العربية سمي الربيع العربي، وهو المصطلح الذي يتكرّر في الإعلام، ومن النخب، وكأنه التعبير الحقيقي عما حدث منذ 17/12/2010. هل هو ربيع عربي؟ أي ربيع مكمّل لما حدث في “ربيع براغ” سنة 1968، وما حدث في أوروبا الشرقية وروسيا؟
كان المنظور الذي حكم كل هؤلاء اعتبار أن ما يجري في الوطن العربي استمرار لما حدث في بلدان أوروبا الشرقية وروسيا، حيث سقطت الشيوعية وانتصرت الديمقراطية. وهي الحالة التي أدت إلى تعميم خطابٍ تحت مسمى العولمة، يقول بنشر الحرية والديمقراطية، الخطاب الذي كانت الإمبريالية تعمل على تعميمه في دول أوروبا الشرقية وروسيا، من أجل فكفكتها وإنهاء الشيوعية. لكن، لم يكن الخطاب هو الذي أفضى إلى الانهيار، على الرغم من أنه كان يلامس أزمة المجتمعات التي كانت تحكمها أنظمة شمولية، بل إن أزمتها الداخلية، واتساع الفوارق بين الشعب والبيروقراطية الحاكمة من حيث الوضع المعيشي، وتعمُّق الاعتراب نتيجة الشمولية المفرطة، كلها أضعفت النظام وعزّزت من الميل لتجاوزه. وقد حمل هذا التجاوز الميل إلى تحقيق الحرية والديمقراطية، والعودة إلى الرأسمالية.
فتح انهيار الاشتراكية الطريق لسياسة أميركية جديدة، تقوم على تعميم اللبرلة وفتح الأسواق، وتحقيق انفلات النشاط المالي. ارتبطت هذه السياسة “العملية” بخطاب “تحرّري”، يركز على مواجهة النظم الشمولية، وعلى تدخل الدولة في الاقتصاد، حيث هدف خطاب الحرية والديمقراطية إلى تقزيم دور الدولة في المجال الاقتصادي بالأساس، وليس لتحقيق نظمٍ ديمقراطيةٍ حقيقية. لكن النخب العربية انساقت خلف هذا الخطاب، وأخذت تكرّر مجمل عناصره، بما في ذلك قبول اللبرلة، وباتت تركّز جل نشاطها حول ذلك. كان نشاطها، طوال العقدين السابقين للثورات، على “الإصلاح السياسي” و”الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية”، وأخذت تكرّر مصطلحات الخطاب العولمي الذي قام على مفهوم المكونات بالمعنى الطائفي والإثني، وعلى بناء النظم الطوائفية، وكذلك التركيز على الانتخابات، من دون التأسيس المجتمعي الضروري لذلك، مثل مفهوم المواطنة الذي يتجاوز مفهوم المكونات.
هذه الأجواء هي التي فرضت النظر إلى الثورات على أنها ربيع عربي، ربيع يكرّر الربيع الأوروبي الذي حمل هدف الحرية، والربيع الذي طاول البلدان الاشتراكية، وحمل مطلب الحرية في مواجهة شمولية ونظم دكتاتورية. فقد أضفت النخب على ما جرى مطمحها هي، ومنظورها الذي تبلور في كنف خطاب العولمة بالتحديد. ولهذا أرادت أن يحمل ما حدث هدف الحرية والديمقراطية فقط، لأنها لا تعارض اللبرلة التي حققتها النظم، وربما كانت تريد لبرلةً أكثر. ولم تلمس أن سبب الثورات هو اللبرلة، وما أفضت إليه، بل قاتلت من أجل أن تفرض على الثورات منظورها الليبرالي الديمقراطي (على الرغم من تشوّه مفهوم الديمقراطية لديها). بالتالي، كان مصطلح الربيع مرتبطاً بالسعي نحو الحرية والديمقراطية فقط، وكانت النخب تريد حصر الثورات في هذه الحدود.
بالتالي، ما جرى ويجري ليس ربيعاً، ولن يكون ربيعاً بالمعنى الذي جرى تعميمه. وهو المصطلح الذي سمح بالحديث عن “خريفٍ إسلامي”، آلت إليه الأمور بعد “انتصار” الإسلاميين في الانتخابات، ومن ثم إلى “شتاء جهادي”، أو “شتاء إرهابي”، بعد أن جرى نشر المجموعات “الجهادية” في العراق وسورية وليبيا واليمن، وكل المنطقة. ومن ثم اعتبار أن ذلك كله هو نتاج طبيعي لانفجار الثورات، ويبرّر العودة إلى تكريس استبدادية النظم، تحت حجج “الحفاظ على الدولة”، و”الحاجة لمحاربة الإرهاب”. وهو الأمر الذي حوّل “دعاة الديمقراطية والحرية” إلى قبول الاستبداد، ويقفون ضد “المطالب الفئوية” التي تفضي إلى احتجاجاتٍ وإضراباتٍ وتظاهرات، ويدعون إلى قبول الشعب بـ “النظام الجديد” الذي هو النظام القديم مجدداً.
ما حدث إذن، هو ليس ربيعاً بل ثورات حقيقية، ثورات اجتماعية، هذا ما يجب أن يكون في أساس الفهم، حين تناول الأحداث منذ 17/12/2010.
سلامة كيلة
نقلا عن العربي الجديد