ويبدو إعلان موسكو سحب أغلب قواتها من سوريا تعبيرا عن تعارض رؤيتها مع رؤية دمشق حول مستقبل الرئيس السوري بشار الأسد، لكن هذا الخلاف لن يؤدي إلى تفجير النزاعات بين موسكو ودمشق ما لم يعلن الروس، ولو مداورة، عن استعدادهم لإزاحة بشار الأسد عن رأس السلطة، ويجب أن لا ينتظر أحد من بوتين أن يرتكب هذه الهفوة في المرحلة الحالية على الأقل؛ إذ إنه لم يمسك بعدُ بأوراق داخلية في سوريا تمكِّنه من نبذ بشار الأسد، كما يراد منه، وتقديم بديل مقبول عنه، يحفظ ويراعي مصالح روسيا.
ستظل المعارضة المسلحة في خطر مادامت تعاني من اقتراب إغلاق حدود سوريا مع تركيا بواسطة الميليشيات الكردية، وإغلاق الحدود مع الأردن بالاستعانة بالميليشيات الإيرانية، ومحاصرة الثورة السورية في الداخل هي الخطوة الأولى على طريق إخضاع الثوار السوريين بالنسبة للنظام وداعميه.
مقدمة
يمكن وصف اتفاق كيري-لافروف حول وقف الأعمال العدائية في سوريا، الذي أُبرم يوم 22 فبراير/شباط 2016، بأنه نوع من تنظيم سياسات الولايات المتحدة الأميركية ودولة روسيا الاتحادية في هذا البلد، وتحاشي احتمال الصدام المباشر، الذي قد يُفضي إلى حافة هاوية سياسية غير مرغوبة أو مبررة في المرحلة لكلا الطرفين.
ولا يخلو الاتفاق من عملية ضبط للأطراف المحلية المرتبطة بهما لتقنين المواجهة بالوكالة أيضًا. لكن مجمل العملية لا يعطي أملًا مرجحًا بحدوث تطورات جدية فيما يخص حلَّ القضية السورية أو حتى نقلها إلى مستوى التجميد ومنع تفاقمها، إنما ينقل الصراع المستمر منذ خمس سنوات إلى أشكال وأساليب أخرى يمكن السيطرة عليها من قِبل الدولتين الكبريين. وهو أمر متوقع بالعموم منذ أن انخرطت موسكو في الصراع مع نظام الأسد، لتوفر له نوعًا من التوازن الاستراتيجي مقابل الحليفين، الإقليمي والدولي، المعاديين له، ولتغدو بتدخلها الميداني المباشر، الطرف الأكثر تأثيرًا في الحالة السورية، سواء لناحية تصديها لقوى المعارضة وكبح جماحها، أو من خلال إحكام قبضتها على نظام الأسد واستلاب إرادته. وهو أمر لا ينتقص منه كثيرًا إعلان موسكو سحب “الجزء الرئيسي” من قواتها الجوية من سوريا، الذي لا يزال محل جدل حول دوافعه وأسبابه، لكن تأثيره الميداني في مرحلة توقف القتال الحالية ليس ذا بال ما دام الدعم السياسي الروسي للنظام على حاله؛ حيث تستطيع الطائرات الروسية أن تعود إلى السماء السورية في غضون ساعات معدودة، خاصة أن قاعدتها في مطار حميميم ما زالت تحت الإدارة الروسية ولا تزال طواقمها الفنية على حالها وجاهزة لاستقبال الطائرات وتقديم الدعم اللوجستي الكافي لاستئناف العمليات خلال يوم واحد.
أهداف روسيا
إن العقبة الجدية في وجه التحليل واستشراف الأفق في القضية السورية اليوم، هي غموض موسكو وعدم وضوح مراميها وأهدافها الحقيقية من تدخلها في سوريا، وهو ما يجعل أمر الحُكم على الهدنة الحالية صعبًا بدوره. ونستطيع أن نتحدث عن ثلاثة تصورات يُحتمل أن موسكو انطلقت منها لقبول الهدنة الحالية:
أولها: أن تتخذ الهدنة والعملية التفاوضية غطاءً لتقوم بعملية تدمير بطيء وممنهَج لفصائل المعارضة، ونزع مخالبها وأنيابها في غفلة منها، بعد تخديرها بآمال ووعود الحل السياسي، ودفعها للاقتتال الداخلي على مكاسب وهمية، بالتزامن مع إعادة تعويم النظام سياسيًّا، وتأهيل وتدعيم قواه العسكرية المتداعية، وتحيُّن الفرصة المناسبة لقلب طاولة المفاوضات ومعاودة القتال بشروط تمكنها من إعلان انتصار النظام السوري وإعادة الشرعية له بحكم الأمر الواقع.
وثانيها: أنها قد تكون نوعًا من الانسحاب مع حفظ المكاسب بعد أن استشعر الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن الولايات المتحدة تستدرجه إلى مستنقع الشرق الأوسط، من خلال تغاضيها عن تدخله، دون إعطائه ضوءًا أخضر أو الدخول معه في شراكة، لاسيما أن أوباما تحدث بشكل صريح عن حتمية فشل الاستراتيجية الروسية في سوريا (1)؛ مما يعطي إشارة واضحة بأن واشنطن لن تسمح لبوتين بإحراز نصر كامل، لأنها لا ترغب، رغم أن سوريا ليست ضمن أولوياتها، في إدارة الظهر لحلفائها في المنطقة والتخلي عنهم، أو أن تسمح لموسكو بتقرير السياسات في مجمل الشرق الأوسط. وهذا الاحتمال تدعمه عملية الانسحاب الشكلية من سوريا في الوقت الراهن، التي تتيح للروس إمكانية التملص من تهمة التورط في الصراع المباشر، وتحميها من عقابيلها السياسية والقانونية والأخلاقية، كما تُعفيها من مهمة الضغط على النظام لتقديم تنازلات تُفضي إلى حلٍّ سياسي، الذي لابد أن يطالبها به المجتمع الدولي بوصفها “سلطة أمر واقع” في البلاد.
وثالث الاحتمالات، وهو الراجح لدينا: أن موسكو سعت إلى الهدنة بخليط من الدافعين السابقين، بحيث يكون سقف طموحاتها هو سحق المعارضة السورية إن أمكن، دون المغامرة بمواجهة مكلِّفة مع الإقليم والعالم السنِّي عمومًا، فإن عجزت عن ذلك تخفض سقف توقعاتها تدريجيًّا وصولًا إلى أدنى ما هو ممكن، والمتمثل ببقائها في موقع المقرِّر في الملف السوري، وتثمير ذلك في ملفات أخرى تؤرِّق موسكو، خاصة أسعار النفط التي أصبحت بوجودها في سوريا على تماس متعدد الأوجه مع الخليج العربي، حوض الإنتاج الرئيسي له في العالم.
بوتين: استراتيجية الحذر
حين تقدمت روسيا إلى الميدان السوري عسكريًّا، فعلت ما لم يجرؤ عليه أحد سواء من أعداء النظام السوري أو حلفائه بما فيهم إيران، ولهذه الجرأة مكاسبها، لكن يترتب عليها الكثير من المخاطر أيضًا. وتُظهر تصريحات الكرملين، كما الوثائق المسربة (2) حول الاتفاق الذي عُقد مع رأس النظام السوري قُبيل التدخل، كمَّ الحذر الكبير الذي يَسِمُ خطوات بوتين وذهنيته الاستخباراتية، فمثلًا لم نتخيل أنه فكَّر بالتبعات السياسية والحقوقية لهجمات طائراته، وحمَّلها لنظام الأسد مسبقًا، كما جاء في الجزء المسرَّب من الاتفاقية، ولم يتحسَّب مثلًا لاحتمال الوقوع في فخ حرب أيديولوجية مستدامة مع العالم الإسلامي. ويُلاحَظ في هذا الإطار ضبط روسيا لأعصابها بطريقة غير مسبوقة منذ إسقاط تركيا إحدى طائراتها على الحدود، كما لوحظ عدم مضيه أكثر في التدخل الأحادي عندما بدأ تدفق صواريخ التاو على فصائل المعارضة السورية يتعاظم ليحدث ما عُرف بمجازر المدرعات بحق قوات النظام التي تم الزجُّ بها بكثافة مع بدء الهجوم الجوي الروسي الذي اقتصر ظاهريًّا على سلاح الطيران، وحتى بالنسبة لهذه المساهمة الجوية فإنها ضُبطت بطريقة صارمة، وما زالت محدودة وغير استعراضية أو مبالغ بها، وكُلفتها لا تزيد بالفعل عن كلفة الطلعات التدريبية الاعتيادية للطيران الروسي، ولم يغامر، مع قدرته على ذلك، بزَجِّ أعداد كبيرة من طائرات سلاح الجو الروسي البالغة نحو ثلاثة آلاف طائرة، واكتفى بما لا يزيد عن 70 طائرة قاذفة وحوامة قتالية، وهو أقل من عتاد كلية عسكرية جوية متوسطة الحجم.
لكن تعقل بوتين وحذره يطاردهما شبح الزمن الذي يمضي بسرعة، ففي حين قال بداية إنه يحتاج لتفويض لمدة ثلاثة أشهر في سوريا، عاد ليتحدث عن عمليات “مستمرة” حتى القضاء على ما أسماه بالإرهاب، بعد أن اكتشف بشكل ملموس أن قوات النظام السوري غير مهيأة لتحقيق مكاسب مضمونة على الأرض حتى تحت مظلة سلاح الجو الروسي، وأن العملية ستستغرق وقتًا طويلًا، قد تنطوي على أحداث مفاجئة وغير محسوبة، تتكشف عنها الحروب فجأة، فتطيح بكل شئ، ومن جهة أخرى بدأ العد التنازلي لسنة أوباما الأخيرة في البيت الأبيض، ولا أحد يدري ما توجهات الرئيس الأميركي المقبل على صعيد السياسة الخارجية، خاصة أن كافة المرشحين قد ندَّدوا بتراجع نفوذ وهيبة الولايات المتحدة على الصعيد الدولي، وصعود روسيا المتزايد على حسابها، وقد يتوجب على بوتين أن يواجه رئيسًا جديدًا ينزع إلى المواجهة، وسيقارع روسيا بالتأكيد في أكثر المواقع اضطرابًا وهو الشرق الأوسط، ويتعين بالتالي على بوتين أن يحصِّن نفسه هناك أو ينسحب بهدوء مع المكاسب الممكنة قبل حلول موعد تلك المنازلة.
أوباما: تأليب خصومه على بعضهم البعض
بدوره، يعد أوباما أيام ولايته الأخيرة وكله خشية من انتكاس سياسته الخارجية في أية لحظة، والاضطرار إلى خوض مواجهة عسكرية تنتقص من بياض صفحته في التاريخ الأميركي كرئيس وفَّى بوعوده بعدم الزجِّ برجال بلاده في حرب خارجية. لكن هذا غير كاف، ودور القوة الأعظم في العالم ليس رهنًا بتطلعات رئيسها وأمنياته الخاصة، وخروج الشرق الأوسط عن سيطرة الإدارة الأميركية غير مسموح به، ليس لأهميته السياسية والأمنية فقط، وليس لأنه سيكون مكسبًا لغريمتها موسكو، بل لأن في هذا الإقليم حلفاء لا يمكن خذلانهم، مثل إسرائيل، وأصدقاء قد ينقلبون أعداءً خَطِرين مثل دول الخليج العربي وتركيا. لذلك تسير الإدارة الأميركية على ما يبدو حتى الآن على خطين متوازيين، فهي من جهة تُخلي الطريق لموسكو لتقوم ببعض الإجراءات التي من شأنها إبقاء الأزمة في المنطقة تحت سيطرة القوى الكبرى، وليست رهنًا بمزاجية وطيش قوى صغيرة أو متوسطة، مع بقاء أعينها مفتوحة على المنطقة وتطوراتها من خلال تواجد رمزي عسكري ودبلوماسي فيها لمنع موسكو من إحراز أي إنجاز والاستئثار بنتائجه منفردة.
وفي خلفية المشهد تقبع فكرة مؤداها أن أوباما المتهم بعدم الإنجاز على صعيد الملفات الخارجية، يأمل بأن غرور بوتين سيقوده إلى التورط في مستنقع الشرق الأوسط، وأنه سيسلِّم ولايته الثانية فيما روسيا، المصنَّفة كخطر رقم واحد على الأمن القومي الأميركي، عالقة ومشتبكة مع المتشددين الإسلاميين، المصنَّفين أيضًا كخطر رئيسي على الأمن في أوروبا والولايات المتحدة.
لهذا لم تجد واشنطن غضاضة في إعطاء روسيا حقَّ مراقبة وقمع انتهاكات الهدنة في سوريا، وبالتأكيد لم ولن تعترض على قصفها للجماعات المسلحة التي تصنفها إرهابية، بل جعلت من ذلك شرطها الرئيسي لمنح التفويض السابق، وبالطبع مع التنصل أميركيًّا وأوروبيًّا من أي تعاون جدِّي أو شراكة في هذه الحرب، التي يجب أن يُعرف بوضوح أنها حرب روسيا.
النظام السوري: القفز على حبال المتناقضات
يعرف الجميع أن نظام الأسد بحقبتيه، استقى سبب بقائه في كافة المراحل من دور وظيفي يلعبه لصالح قوة خارجية ما، ولم يكن له من أسباب البقاء الذاتي سوى القبضة الأمنية الحديدية والمرتكز الطائفي، وفي كل منعطف سياسي كانت قياداته تقرأ المتغيرات بشكل عميق لتنحاز إلى هذه الجهة أو تلك بحسب الحاجة والظرف، وبراغماتية النظام لم توفِّر صديقًا من حلفاء الأمس ولم تجعله عدوًّا في مرحلة ما، والعكس صحيح أيضًا، باستثناء إسرائيل التي بقيت العدو الحميم لذلك النظام طوال نحو نصف قرن؛ حيث شكَّل النظام الحماية الأقوى لها على حدودها مع المحيط العربي، من خلال التزامه المكين باتفاقية الهدنة.
والتطور الحالي المتمثل بالتدخل الروسي، واتفاق الهدنة ومآلاته، لا يمكن أن يُقرأ خارج هذا السياق، فقد قفز بشار الأسد إلى الحضن الروسي حين استنفد فرصته الإيرانية، وأصبح حضور الحرس الثوري وميليشياته الخارجية خطرًا وجوديًّا على النظام؛ إذ إن نظام ولاية الفقيه سرعان ما استنسخ أدواته المفضلة في سوريا، وبدأ بإنتاج الميليشيات المذهبية المرتبطة به اقتصاديًّا وعقائديًّا وسياسيًّا، وبُعيد الاتفاق النووي بدا للنظام أن طهران تستعد لتصفية الحساب السوري من خلال التضحية ببشار الأسد مقابل الحصول على حقِّ الوصاية والرعاية للعلويين والشيعة السوريين، وليس صحيحًا على الإطلاق أن هذه القفزة قد تمت بموافقة ورضا طهران، بل حدثت عبر الابتزاز الصريح والعلني؛ إذ أعلن بشار الأسد أولًا عن عجزه عن مواجهة قوى المعارضة، وحدَّد سبب ذلك بنقص العنصر البشري تحديدًا، وهو ما ادَّعت إيران أنها ستوفره، ومن ناحية ثانية تم تسريب مجريات لقاء علي مملوك مع القيادة السعودية على نحو قصدي (3)، وعلى الأخص ما قيل له عن كون إيقاف المناهضة العربية للنظام السوري مشروطة بتخلِّيه عن إيران؛ ما كان رسالة واضحة بتخيير طهران بين أن تقبل بتوجه النظام السوري جنوبًا نحو الخليج العربي، والتخلي عنها، أو الذهاب شمالًا نحو موسكو مقابل تخلي طهران عن جزء كبير من نفوذها الذي صنعته طوال خمس سنوات من القتال والإنفاق السخي.
إن حقبة التحالف الحالي مع الروس، محكومة أيضًا بهذه القاعدة الواضحة: إنقاذ النظام ثمن للنفوذ، أو عملية البحث عن نقيض جديد، وتحالف أكثر فائدة لن تكون بالأمر الصعب، سواء في معسكر الأصدقاء أو حتى الأعداء، ويبدو أن بوتين يدرك ذلك بجلاء، وتحوَّط له بوضع شرط في الاتفاقية المعقودة مع بشار الأسد يسمح لقواته بالبقاء سنة كاملة بعد أن يطلب منها مغادرة البلاد، علاوة عن منع مسؤولي النظام من دخول ثكنات الروس أو ممارسة أية سلطة عليها.
يبدو المشهد مفرطًا في براغماتيته (واقعيته)، وأوراق اللعب فيه مكشوفة لكنها حتى الآن ودية، ولن تتفجر النزاعات بين موسكو ودمشق ما لم يعلن الروس، ولو مداورة، عن استعدادهم لترحيل بشار الأسد عن رأس السلطة، ويجب أن لا ينتظر أحد من بوتين أن يرتكب هذه الهفوة في المرحلة الحالية على الأقل؛ إذ إنه لم يمسك بعدُ بأوراق داخلية في سوريا تمكِّنه من نبذ بشار الأسد، كما يراد منه، وتقديم بديل مقبول عنه، يحفظ ويراعي مصالح روسيا. وقد سارع النظام السوري، وفي ساعة متأخرة من ليل اليوم الذي أُعلن فيه عن توصل كيري ولافروف إلى اتفاق الهدنة، للإعلان عن إجراء انتخابات نيابية في إبريل/نيسان القادم، ويبدو أن ذلك القرار اتُّخذ على خلفية تناقضٍ ما حول وجهات النظر بخصوص الاتفاق، وذهب النظام لتسجيل إنذار للروس، الذين عبَّروا بدورهم عن رفضهم لهذا التحذير على لسان ممثل روسيا في مجلس الأمن الدولي، ليعود بوتين بعد أيام لسحب هذا الاعتراض بقوله: إن الانتخابات النيابية لن تعرقل مسيرة الحل، ويبدو أن رسالة النظام قد وصلت بشكل أقوى هذه المرة، وربما من خلال إيران ذاتها. لكن الإشارة الأهم إلى هذه الحقيقة هي الإعلان الروسي المفاجئ عن الانسحاب من سوريا، والذي عَزَاه بعض المصادر إلى خلاف بين بوتين والأسد حول المدة التي سيبقى فيها الأسد على رأس السلطة في سوريا، ورفضه تحديد ذلك، وبالتالي عجز الروس عن قطع وعد للمجتمع الدولي بخصوص المرحلة الانتقالية؛ مما اضطرها لاتخاذ خطوة الانسحاب لمحاولة الضغط عليه، أو تبرير عدم قدرتها على انتزاع تنازل منه فيما لو استمر في رفض ذلك.
ونميل للاعتقاد، بأن النظام السوري، لو كان ينوي جديًّا نقل السلطة أو تسليمها، لَتَوَجَّه إلى واشنطن وليس إلى موسكو؛ فالبيت الأبيض هو الجهة الوحيدة التي يمكنها أن تضمن له ولحاشيته خروجًا آمنًا من البلاد، وسيسعد أوباما بالتأكيد لو حدث هذا وسيباركه بسرور، كما بارك سابقًا اتفاق نزع أسلحة النظام الكيماوية.
المعارضة السورية في المأزق مجددًا
لم تكن المعارضة السورية في حال أسوأ من حالها اليوم منذ بداية الثورة، فهي مشرذمة داخليًّا ومنقسمة إلى إسلاميين متشددين وأخرين أقل تشددًا، أو تجمعات لأشخاص بلا وزن حقيقي أو دولي أو إقليمي، وداعمها العربي والإقليمي المتمثلان في دول الخليج العربي وتركيا منشغلان بفقدان التوازن نتيجة التخلي الأميركي وتمدد النفوذ الإيراني في المنطقة.
والهيئة العليا للتفاوض قبلت الهدنة رغم إدراكها لما يحاك لها، حتى لا تخسر ما تبقى لها من دعم دولي، تستطيع أن تستعين به على النظام الذي استطاع استجلاب القوة العسكرية الثانية في العالم إلى صفه.
لقد تسبب انحسار الدور الأميركي في المنطقة بانكشاف الغطاء كاملًا عن معسكر داعمي الثورة الإقليميين، وبعد أن فعلت الدول العربية وتركيا كل ما بوسعهما سابقًا، أصبحت اليوم في موقف الذي لا يعرف ما الذي يتوجب عليه فعله. فدول الخليج العربي أصبحت عاجزة مع غياب المظلة الأميركية عن تقديم السلاح للثوار السوريين وحجز موقع قوي على طاولة الحل، ناهيك عن تمدد الأزمات إلى داخل محيطها الحيوي خاصة في اليمن، ويبدو أنها أقنعت نفسها، أن خروج كلٍّ من إيران وتركيا من الساحة السورية بعد حلول الروس فيها، كافٍ في هذه المرحلة العاصفة، وما تصريحات وزير خارجية المملكة السعودية الدبلوماسية، وتلويحه مؤخرًا بحلف عسكري مع تركيا سوى لتأكيد تمسك المملكة بخروج منافسَيْها الإقليمييْن كليهما من الميدان السوري، وأن لا يتم الاكتفاء بإغلاق الحدود أمام تركيا، بل ترحيل الميليشيات الإيرانية أيضًا، وقد تحصُلُ على هذا قريبًا عندما يتأكد النظام السوري من فاعلية وصمود الدعم الروسي، لكن لا شيء زائد فوق ذلك.
أمَّا تركيا فقد تكاثرت مشاكلها واستفحلت مع قيام كيانيين خطرين على حدودها، هما: تنظيم الدولة والإقليم الكردي، وبدأت تدفع أثمان ترددها طوال خمس سنوات وعدم فاعليتها في حلِّ القضية السورية، التي كانت تأمل أن تحقق الثورة فيها انتصارًا من تلقاء ذاتها، دون أن تُضطر لخوض مواجهة مدمرة مع إيران، وربما مع بعض الدول العربية، على أن تبسط سيطرتها لاحقًا على هذا الممر الحيوي إلى الخليج بأدواتها الاقتصادية المتفوقة، لكن حسابات حزب العدالة والتنمية جانَبَتِ الصواب، وبات هَمُ قادته إنقاذ رافعتهم الاقتصادية من المحرقة السورية، خاصة مع احتمال اندلاع نزاع مزمن مع المتطرفين الأكراد على طول حدودها الشمالية مع سوريا. وتتوالى التنازلات التركية على نحو محبط للمعارضة السورية، فشرط رحيل نظام الأسد لم يعد مطروحًا، وخطوط أردوغان الحمراء حول حماة وحلب تقلصت لتبلغ بلدة أعزاز، والحدود أُغلقت، وأصبح نحو مليون لاجئ سوري في تركيا مجرد أداة ضغط على الاتحاد الأوروبي لانتزاع مكاسب اقتصادية تعوِّض خسائر أنقرة الاقتصادية، خاصة أن أوروبا تتحمل جانبًا من المسؤولية في كفِّ يد تركيا عن القضية السورية سياسيًّا وعسكريًّا بعد اتخاذ الحلف الأطلسي قرارًا ضمنيًّا بعدم مساندة تركيا في حال وقوع نزاع تركي-روسي على الحدود الشمالية. ونستطيع أن نقول بالمجمل: إن موقف حلفاء الثورة السورية لا يسمح بتقديم العون العسكري في هذه المرحلة، بل إن العون المالي غير متاح لإمكانية ربطه بتمويل العسكرة، ولا ينبغي للمعارضة السورية أن تتطلع إلى أكثر من تغطية متقشفة لنفقات وفدها المفاوض.
استشراف المسارات
ضمن هذه الظروف، ستشعر المعارضة أنها مضطرة، إذا أردات البقاء، إلى إفشال هذا المخطط وقطع الطريق عليه من خلال توحيد قواها المقاتلة تحت راية وطنية، وصناعة مظلة عسكرية تستقطب فئات القوى العسكرية التي ستتناثر تحت وقع ضربات النظام وروسيا، وأن تحافظ على وجودها وكيانها إلى حين مرور هذه السنة العصيبة.
لن تكون معركة التماسك والوحدة مثمرة بما يكفي ما لم تشمل التكوينات السياسية والمدنية، وبدون تكاتفها جميعًا ستتهاوى تباعًا ورقة تلو أخرى.
يحتاج صمود المعارضة أيضًا إلى انتهاز الفرص السياسية الشحيحة، والضغط على معسكر الحلفاء لإدامة دعمهم، الذي بدأ بالتناقص، وعدم التردد في لعب بعض الأوراق السياسية التي أُحيطت دومًا بنوع من التحريم الثوري، لكن بعد دراستها بشكل واف قد تكون مفيدة، وعلى رأس تلك الأوراق التفاوض أو حتى التقارب مع بعض داعمي النظام، والتفتيش عن فرصة للاستثمار في خلافاتهم البينية، والضغط على الأجزاء المتخاذلة والضعيفة في معسكر الحلفاء؛ ففي الظروف التي صُمِّمت بإتقان لتحطيم الثورة والقضاء عليها، ليس على المعارضة حرج إن استخدمت الأدوات السياسية البراغماتية لتحقيق أهدافها “الثورية”.
كما أن المعارضة والنظام، والطرف الكردي الذي يعمل مستقلًّا عنهما، يجب أن لا ينتظر أو يختبر إمكانية التقسيم أو الفدرلة، لأنها غير واقعية، فهي تعني ببساطة منح العرب السُّنَّة دولة شرعية، أي الاعتراف بدولة تنظيم الدولة، بصيغة مواربة، وهذا ما يكافحه الجميع، لكن الطروحات جاءت أميركيًّا بصيغة غامضة مرموزًا إليها بالخطة “ب” في سياق تهديد دول المنطقة لضبط مواقفها خلف هدف وحيد هو محاربة تنظيم الدولة، وتلقف الروس الطرح وعدلوه إلى مصطلح الفدرلة الذي يشير إلى إقليم كردي بالدرجة الأولى، للضغط على تركيا لتعديل مواقفها حيال النظام السوري، لكن الجميع يعرف أن هذا الخيار غير ممكن، شأنه شأن المنطقة الآمنة التي تم الترويج لها مطولًا ولم تحدث على الأرض إطلاقًا.
مراجع