فهدف الظهور لإعطاء مضمون أهلي وعصبي لمعركة الفلوجة، فالرجل كشف عن وجهه هناك، وهو جاء ليقول لأهل الفلوجة قبل غيرهم أن النصر على «داعش» سيكون من نصيب خصومكم المذهبيين، وما عليكم إلا أن تلتحقوا بـ «داعش» للدفاع عن أنفسكم. ومن الصعوبة بمكان تفسير الزيارة وتفسير الاحتفال بها في غير هذا السياق. لم يكن قتال تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام «داعش» دأب الإيرانيين سواء في سورية أم في العراق، بل إن النظام الإيراني لم يتلقّ طوال فترة حكمه هدية أثمن من هذا التنظيم الإرهابي. ولطالما مثلت هزيمة «داعش» احتمال فَقد النظام الإيراني عدواً مرتجى، واليوم يبدو شحنها النفوس المذهبية في العراق امتداداً لهذا الواقع. فهزيمة «داعش» في الفلوجة صارت مهمة أصعب بعد زيارة قائد فيلق القدس قاسم سليماني هناك، وتأجيج المزاج المذهبي حول هذه المعركة سيدفع إلى الخلط بين أهدافها وبين ما سينجم عنها من احتمالات. وها نحن بدأنا نسمع الأصداء، فهي في عرف إعلام واسع الانتشار «عاصمة المقاومة» و»مدينة المساجد»، وهي في عرف إعلام آخر «مدينة الإرهاب». والرابح من هذا الضجيج هما «داعش» وسليماني.
فالهدف من هذا الظهور يؤكد إسباغ الظل الطائفي الكريه على مجريات الأحداث العراقية في لحظة مشتعلة، وممارسة مزيد من الضغط على السُنة العراقيين الذين يساندون جهود التخلص من «داعش»، ويشاركون فيها كما شاركوا من قبل في التصدي لموجات متوالية من الإرهاب، من خلال تجارب «الصحوات» ومن خلال الانتفاضات العشائرية ضد طغيان «داعش» ووحشيته، إذ سيشعر كثير من هؤلاء السُنة بأنهم يخوضون حرب سليماني وليس حربهم، وأن الاعتبارات الوطنية التي يُعلونها فوق الاعتبارات المذهبية وهم يواجهون «داعش» ستُجيّر في النهاية لمصلحة جماعات طائفية أخرى لا تقل تطرفاً وسوءاً.
ولِما لصور قاسم سليماني على مشارف مدينة الفلوجة من دلالات، بثت صفحات مناصرة لمليشيات الحشد الشعبي في مواقع التواصل الاجتماعي صورا تظهر لقاء بين رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي وقائد “فيلق القدس” في الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني على أطراف الفلوجة. وجاء بث الصور في إطار حرص الإعلام التابع لمليشيات الحشد الشعبي على إبراز الدور الإيراني في الهجوم على الفلوجة، كما يأتي بعد يوم من بث مليشيا النجباء صورتين تظهران سليماني في غرفة لقيادة عمليات المليشيات بحضور عدد من قادتها بينهم هادي العامري وأبو مهدي المهندس. فلم تكن هناك رسالة أكثر سلبية وإحباطاً، فرئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وهو من قاد العراق خلال ثماني سنوات، تعمقت خلالها أزمته، وتفاقمت صراعاته ومشكلاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واستشرى فيه الفساد، وتصدّع ما تبقى من تماسكه الوطني، وأضحى دولة فاشلة على وشك السقوط. وكانت السياسات الطائفية لنوري المالكي أحد أسباب هذا الفشل الذريع.
الحاجة المتبادلة بين المالكي وسليماني هي حاجة طبيعية، لأن الأول حليف النظام الإيراني في العراق والثاني رمز للطائفية ومشروع النظام الإيراني التوسعي في المشرق العربي، والمسألتان مرتبطتان أشد الارتباط، فتأجيج الهوس الطائفي وإعلاء كلمته والنفخ في نار التعصب سلوك يمكن إشهاره كلما علت الأصوات المطالبة بالمحاسبة والشفافية، والقضايا الحقيقية المتعلقة بالإصلاح وإيقاف نزف النهب والرشاوى والمحسوبية والاستيلاء على المال العام واستبعاد الكفاءات، كلها يمكن أن تخفت وتتوارى أمام صناعة الفتن المذهبية وتغذية غرائز العدوانية والكراهية والتوجس. ورئيس الوزراء العراقي السابق نوريالمالكي الذي صُنف العراق في عهده في المرتبة السادسة بين الدول الأكثر فساداً في العالم هو أولى الناس بالظهور مع قاسم سليماني، لأنه يؤمن بأن النظام الإيراني هو عمق العراق الاستراتيجي وليس غيره.
يعرف قاسم سليماني أن العراق لا يمكن أن ينهض كدولة موحدة من دون نزعة استقلالية تحكم خيار الشعب والحكومة، هذه النزعة هي مفتاح خروج العراق من تحت ركام الحروب والاحتلالات، وبالتالي فإن أي خطوة نحو تبلور المشروع الاستقلالي ستصطدم بالنفوذ الإيراني، هذا النفوذ الذي لم يقتصر على تشكيل الحشد الشعبي ومحاولة مصادرته من قبل إيران، بل إن النفوذ الإيراني وصل إلى مرحلة التحكم بمعظم التعيينات لمسؤولي المفاصل الأمنية والعسكرية في المؤسسات العراقية، إذ طالما اصطدمت حكومة حيدر العبادي بالعديد من العقبات الإيرانية على هذا الصعيد. فهو يسعى بكل قوة للتخلص من الوصاية الإيرانية على نظام الحكم في العراق ومما لاشك فيه أن مهمته صعبة ولكنها ليست مستحيلة.
المشروع الإيراني في العراق أصبح مشروطا بفعل تراكم السياسات الإيرانية الفئوية، وهو قائم على ذهنية التحكم لا الصداقة أو الشراكة مع العراق، وعلى ذهنية فرض نظام أولوياته الأمنية والقومية على حساب مشروع الدولة العراقية. هذا المشروع بات نجاحه مشروطا بتحويل المكونات العراقية إلى مكونات خائفة من بعضها، ومحتمية بالخارج على تنوعه. إيران تسير بوضوح نحو تجذير فكرة أن إيران هي التي تحمي الشيعة في العراق، وأن لا خيار أمام المكون الشيعي إلا الاحتماء بإيران، هذا ما أراد سليماني قوله في إطلالته المريبة في الفلوجة وفي إدعائه أن إيران وراء تشكيل الحشد الشعبي، وهي دعوة إلى المكونات الأخرى لا سيما المكون السني إلى المزيد من السعي نحو الانفصال باعتبار أن الطرف المقابل لم يعد عراقيا بل هي إيران التي لن تكون أرحم من داعش. بهذا المعنى يضحك سليماني كما يضحك الخليفة البغدادي ضحكة مشتركة، إذ أن داعش، كما النفوذ الإيراني في العراق، لا يقويان إلا على إيقاع الفتنة والصراع المذهبي في العراق. فإيران التي أثبتت بالملموس أنها دعمت أكبر عملية فساد وإفساد خلال حكم رجلها نوري المالكي، كشفت كم أنها عاجزة عن تظهير أي خيار عراقي وحدوي يعزز من قوة الدولة وحضورها، وأظهرت للعالم كم أن السياسة الإيرانية لا تنطوي في كل ما تحمله من شعارات على أيّ خيار غير عسكري أو أمني، سليماني ليس لديه غير لغة القتال أما لغة السلام والوئام والنهوض الحضاري، فلا مكان لها في قاموس السياسة الإيرانية في العراق كما هو حال تنظيم داعش.
وأخيراً فإن ظهور قاسم سليماني إشارة إلى أن ما ينتظر العراق حتى بعد هزيمة تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام «داعش» من الفلوجة ومن غيرها لا يبعث على الاطمئنان، وإلى أن الظل الكئيب للطائفية التي تهيئ إيران أسبابها سيبقى جاثماً على صدور العراقيين طويلاً. يبقى أن «النصر» أو «الصمود» سيحمل صوراً جديدة ومختلفة عن حروب المراحل السابقة، تتمثل في مشهد المدن المدمرة والخالية بعد هزيمة «داعش» فيها. فـ «درء الفتنة» في أعقاب الهزيمة يتطلب بقاء المدن خالية من أهلها. هذا ما حصل لتكريت وللرمادي، وما يبدو أنه سيصيب الفلوجة.
وحدة الدراسات الإيرانية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية.