اشتد عصف الأيديولوجيات والنوازع والمصالح على مكوّنات الجيش العراقي، الذي يعدّ ضعفه وانقسامه وتغييبه، من أبرز الأسباب في اتخاذ الأوضاع الأمنية بالعراق منحى خطيرا ومعقّدا. وحسب ما تشير إليه المعطيات القائمة في المشهد العراقي، الذي لم ينعم بالاستقرار في ظل دوامة العنف المستشرية فيه، يبدو أن وضع القوات المسلحة العراقية ستزداد تعقيدا في ظلّ الجدل حول مشروع “القوات المسلحة العراقية” وشرعية “قوات الحشد الشعبي” وممارسات الميليشيات المسلحة.
تعتبر قوة الجيش النظامي من أهم المميّزات الفارقة والحاسمة في مقاييس قوة الدولة. وإذا ما حاولنا تطبيق هذه القاعدة على بعض دول الشرق الأوسط، التي تشهد صراعات مصيرية، نجد أن ضعف الجيوش وانقسامها في هذه الدول أحد أهم أسباب انهيارها.
ولعلّ أبرز مثال على ذلك الجيش العراقي الذي كان يصنف سابقا على أنه أقوى جيش عربي والخامس عالميا، لكنه اليوم يحتل الترتيب الثامن بين الجيوش العربية والـ68 على مستوى العالم.
“العرب” سلطت الضوء على واقع الجيش العراقي في الذكرى 94 لتأسيسه (6 يناير 1921)، وتساءلت عما حدث للجيش الوطني العراقي. والجزء الأول من الإجابة، جاء ضمن دراسة نشرت في 13 يناير 2015، (العدد: 9796، ص7)، أكّدت أن أبرز الأسباب، هي الطائفية التي أفقدت الجيش العراقي هويته وأبعدته عن وطنيته.
وفي الجزء الثاني من الدراسة، نتبيّن كيف تؤدي الطائفية عندما تقترن بالفساد، إلى سقوط الموصل، وإلى حدوث مجازر دموية مرعبة، على غرار مذبحة بروانة التي ارتكبتها، قبل يومين، ميليشيات شيعيّة ضمن الحشد الشـــعبي وعناصر قوات الأمن، وأودت بحياة 70 سنيّا أعزل في القرية التابعة لمحافظة ديالى.
صدمة الموصل
الحرب والمعارك تعتمد أساسا على الخدعة، وهذه المفردة واسعة وعصية على القادة التقليديين الذين يتبخترون بعصا الإيقاع والضبط مع توفير التسليح والأفراد ثمّ يسقطون في المواجهات الحاسمة، وأحيانا تفاجأ بسرعة الانهيار وهروب القطعات، بمشهد لا ينسجم وحجم التجهيز أو التسليح أو الإعداد. وهذا ما تسبّب في صدمة الموصل وفي تداعيات خطيرة أعقبتها.
كانت وقائع ما حدث في الموصل صدمة كبيرة ربّما لجيوش العالم كلها وللفكر العسكري الذي يحدّد ضوابط وأسس الحفاظ على جوهر كيان الدولة الجغرافي والسياسي، وهو ما يعرف بالأمن القومي الذي يتولى مهمّة الحفاظ عليه الجيش، باعتباره الضمانة الأولى لحياة الناس واستمراريتهم وحفظ كرامتهم وكبريائهم، لذلك دخلت موضوعة الأخلاق في الحرب والالتزام بها، كمحددات تقف عندها الجيوش المتحاربة، وتستند إليها المواثيق الدولية في مراجعة الخروقات الفاضحة التي تحدث في المعارك.
خدعة يابانية
في يونيو الماضي انهار عشرات الآلاف من قوات الأمن العراقية في محافظة نينوى، شمال بغداد، فرّوا إثر هجوم لمقاتلين من تنظيم الدولة الإسلامية متخلين عن أربع مدن كبرى. وسقطت الموصل، ثاني أكبر مدن العراق، بيد تنظيم داعش في 10 يونيو 2014. وبعد يوم واحد سقطت مدينة تكريت، وهزمت أربع فرق عسكرية تابعة للجيش العراقي، بحسب وزارة الدفاع العراقية، التي قالت أيضا إن تنظيم داعش استولى على الأسلحة التي تُركت في القواعد العسكرية وتبلغ قيمتها ملايين الدولارات. واسترعى هذا الانهيار الكثير من الاهتمام والتساؤلات حول هذا التصرّف الذي قامت به قوات تنتمي لجيش كان، قبل سنة 2003، من أقوى الجيوش العربية وأفضلها تسليحا وتأهيلا.
الإشارة إلى ما حدث في الموصل، وفي عودة إلى طبيعة أساس في جيوش المنطقة عموما، هو جذور للمعلومات غير الدقيقة، لأن الجهد المخابراتي والاستخباراتي الذي قد يكون مولودا بعمر المراهقة يتأثّر بالسياسة والأحزاب وبميول الأمراض السائدة في عمل يتطلّب المعلومات ومراهناتها، والأهم تحليلها والوقوف على حقيقتها في مراكز بحوث واستراتيجيات ومعرفة الطارئ منها وتنقيتها، وأخذها جميعا على محمل الجد، وعدم تركها للمصادفة، والتقاط التفاصيل والتفكر بها، وعدم الانجرار وراء الطعوم اللذيذة السهلة المتطابقة مع الرؤية الأولية لواقع، يبدو حقيقة، لكن هذه الحقيقة غالبا ما تكون من أسباب المطبات الكبرى.
وتكشف المطالعات العسكرية القديمة عن الحرب العالمية الثانية كيف أن اليابانيين في معركة “ميد واي” مع الأميركيين، مهّدوا بصفة ما إلى الإيحاء لقادة البحرية الأميركية، بأنهم استطاعوا فكّ الشيفرة المتبادلة بين السفن اليابانية، وكانت النتيجة تسخير القوى باتجاه ما أرادهُ اليابانيون، ثم تمّت المباغتة في جزيرة “ميد واي”.
المثير هو ما تناقلته الوكالات عن محللين، يقدّمون أنفسهم على أنهم خبراء في شأن الجماعات المسلحة، قبل أيام ممّا حدث في الموصل، تأكيدهم اندحار المجاميع في العراق، بل تسرّبت معلومات من داخل المجموعات بإقصاء جميع العراقيين من المفاصل القيادية في التنظيم وتسليمه إلى قيادات غير عراقية. إذ تسارعت آراء الخبراء والقادة السياسيين في الإعلان عن الانتصارات الماحقة التي أفقدت المسلّحين صوابهم، وتزايد الانشقاقات بين صفوفهم ونيّتهم في المغادرة بعد معارك الرمادي والفلوجة، ومعلومات عن اصطدامهم، كما تحدثوا أيضا عن أبناء العشائر والعفو عن المغرّر بهم، وهذا ما أعطى صورة لنهاية قريبة للأعمال العسكرية. وأضافوا أسبابا أخرى، منها قطع التمويل عنهم من بعض الدول، مع الضغوطات المتزايدة من دول العالم على الإرهاب في كل مكان.
انسحاب فوضوي
فنّ الحرب الذي أرسى قواعده، المؤلف الصيني سان تزو، يعود إلى العام 500 ق. م، يتحدث عن فنّ الخداع لكسب الحرب أو الفوز بصفقة تجارية، ولذلك مازال يدرس في معظم الأكاديميات العسكرية والتجارية أيضا، وفيه أنه إذا كان عدوك مغرورا، فزد من غروره، وإذا كان غاضبا، فزد من غضبه، واجعله يظن أنك قريب، وأنت بعيد أو العكس، وخذه من حيث لا يتوقع وأعد له الخطط، وتوقع أقسى الهزائم، وتظاهر بالعجز والانهيار، ويطول الحديث، لكن الأهم من ذلك كله، كيفية إطاعة الجندي لقائده من دون خوف أو ملل، واستعداده للذهاب إلى النجاة والانتصار أو حتى الموت بإمرتهِ.
وثمة عرف عسكري يقول إن الانسحاب في الحرب أصعب من المناورة، لكن ما شهدناه في مدن العراق، لا يعدو أن يكون فوضى لا تنسجم مع وجود فرقتين عسكريتين بكامل العتاد والعدد، لكن ممكن حدوثها مع هروب القادة الكبار، من بينهم قائد القوات البرية ومعه قائد العمليات المشتركة بطائرة مروحية.
قيادات أمنية وعسكرية تخفّت بين النازحين ورمت رتبها مع زيّها الرسمي، ومع انتشار المراسلين وكاميرات وسائل الاتصال الشخصية تحوّل الأمر إلى فضيحة، ليست للقادة العراقيين فقط، وإنما لدولة كبرى مثل الولايات المتحدة الأميركية التي أهينت أسلحتها ومدرّبوها الذين أشرفوا على تدريب القوات الجديدة في العراق، بعد حل الجيش على يد الحاكم المدني بول بريمر، كما تم تدريب العديد من القطعات خارج العراق. وكانت مصادر خاصة تحدّثت عن التقسيم المذهبي في استمارة التقديم وعزل المقاتلين في التدريب ضمن فصائل طائفية، تقسيما لا علاقة له بالمهنية العسكرية.
مثل هذا السلوك الصادر عن القوة العسكرية المحتلة، يؤكد أسس بناء الجيش العراقي الجديد والغايات والأهداف من الخطط التي زجّت من خلالها الميليشيات المعروفة بعدائها للجيش العراقي في تشكيله الجديد. وهي مجموعات درّبتها وموّلتها إيران واشتبكت مع القوات العراقية انطلاقا من الأراضي الإيرانية. وممّا لم يُشر إليه في المواقف العسكرية بعد وقف إطلاق النار في 8 أغسطس 1988، استمرار هجمات تلك الميليشيات على القطعات العراقية على الرغم من إعلان انتهاء الحرب العراقية الإيرانية. وقد تكبّد العراق المزيد من الخسائر في أرواح ضباطه ومنتسبيه، لعدم استعداد قطعاته المتبقية أو اتخاذها الحذر اللازم وعدم تحسّبها أيضا لاحتمالية التجاوزات على القرار الدولي “598” الصادر عن مجلس الأمن الدولي.
تصرفات مشينة
السرّ المركزي في هزيمة القوات العسكرية في الموصل كامن في الطائفية وليس في تكوين الجيش، وهي الحجّة التي يتذرّع بها بعضهم لوجود شخصيات عسكرية ومنتسبين من الجيش السابق ومن المكونات كافة. وأيضا، سبب الهزيمة، تعامل الطائفيين المنتسبين لأهالي الموصل وابتزازهم والضغط المتواصل عليهم وإلحاق الأذى بهم وإهانتهم، الأمر الذي تسبب في كراهية الناس لهم، هذا يضاف إلى التفسير السياسي الخاطئ للمعلومات العسكرية ومصادرها الدولية والمحلية، والاستخفاف بخطورتها ومنها التفسيرات التي ذهبت في تحليلها إلى أنها محاولة لتسهيل دخول قوات الدفاع الكردية إلى الموصل.
كان هناك متسع من الوقت لإيجاد حلول سياسية في كثير من الأزمات في العراق ومنها إلغاء قانون “4 إرهاب” سيئ الصيت الذي أصبح ذريعة قانونية للنيل من غير المرغوب بهم، حتى من ضمن المشاركين في العملية السياسية المبنية على خطأ جسيم لا يغتفر مادته الثأر والانتقام والحصول على المكاسب السياسية قصيرة النظر. وتشكّك كثير من التحليلات بنيّات الحكومة المركزية قبيل هزيمة الموصل ورغبتها في لعب الشوط الأخير على الرغم من الخسارة المذلة للفوز بدورة ثالثة لنوري المالكي الذي حكم العراق ثماني سنوات وختمها باحتلال الموصل وهزيمة جيش نظامي مع تسليح لا يستهان به. والعسكريون يعلمون أن الخطوط الدفاعية الرصينة تميل إليها الكفة على المهاجمين، لثباتهم وعدم حركتهم المفرطة وتحصيناتهم وتقارب إدارتهم وتجهيزاتهم وعتادهم وعمقهم السوقي في القتال.
الإخفاق في فن الحرب
هزيمة الموصل، تجاوزت بعدها التاريخي والمكاني، لتصبح دلالة على فشل الجيش وغيابه عن ساحة القتال، فاسحا المجال للميليشيات الطائفية وقوات “الحشد الشعبي”. وهي دلالة ليست معقّدة، لأن جيشا متخما بالأيديولوجيات والتعصّب المذهبي يصاب بحساسية الانتماء إلى السلطة السياسية وميولها وأفكارها وقادتها ونوازع شخوصها ومزاجاتهم. وهذا يشمل حتى جيش ما قبل الاحتلال، فالعقيدة العسكرية تتمثل بالدفاع عن الوطن وحماية الشعب، ولنا في تجارب الكثير من جيوش العالم، ومن ضمنها الجيش العراقي السابق، وما وقع فيه من أخطاء فادحة بسبب ربط الأيديولوجيات وسيطرتها أحيانا على مهنية القادة الميدانيين المحترفين وأصحاب الخبرة والشهادات العليا في العلوم العسكرية.
قراءة مختلف دلالات حادثة سقوط الموصل وتداعياتها، تؤكّد أن وحدة العراق مهدّدة بالكامل وأن مساوئ العملية السياسية في العراق أنجبت جيشا ساعد على تفتيت العراق. ومن هنا، لا يمكن الحديث عن مكوّنات جيش ما بعد الاحتلال في العراق، وتفاصيل الأعداد والفرق التي يتضمّنها، لأنه ليس جيشا نظاميا ووطنيا، بل تلوّثت يده بدماء العراقيين وأخفق في ترصين أركان وحدة البلاد، ما هو تركيبة سامة من إعداد المحتل الأميركي وطالبي الثأر من الجار الإيراني وعملائه وزعماء دول الطوائف والقبائل والتقسيم.
حامد الكيلاني
العرب اللندنية