تندلع الحرب داخل الدول بين جماعات طالما تآلفت، وتقاسمت همومًا، وتشاركت رخاء ونعيمًا، فيُظن أن اندلاعها أمر مستعصٍ على الفهم، ولكنّ سبر غور الظاهرة يفضي بسهولة نسبية إلى إدراك أنها استعداد كامن موجود في بنية المجتمع، وليست أمرًا عارضًا.
فالجماعات تختزن افتراضات غير منطوق بها، وجذور تعصب يكفي التصنيف -بغض النظر عن معياره- لاستنباتها، ولا يكفي لتبرعمها في البنية الذهنية والنفسية لكل جماعة.
كما تختزن أحقادًا تغلفها النخب عند توفر الظروف الموضوعية للحرب بلبوس معانٍ تصنعها صنعًا لتبريرها.
إن تفاعلًا جدليًا بين البنى والفاعلين لا بد من حدوثه؛ لكي يشتعل أوار الحرب، وهو تفاعل تتشابك فيه عوامل عديدة منها العاطفة التي تتلو الاعتقاد، وهي ليست نوعًا واحدًا فمنها ما هو معزّز للاعتقاد، ومنها ما هو مخرّب له، كما يدخل فيها نوع الخطاب السياسي، وقدرة صانعه على التأثير.
ومن الأوهام التي طالما خالطت عقول الباحثين أن العناوين العريضة لأسباب الحرب تكفي لأن تكون عللًا لحدوثها، والحق أن الدوافع الشخصية طالما كانت عللًا لها أثرها الملموس في قدح زنادها، وفي استمرارها وتصعيدها.
يمكن للتحالف أن يكون أهم رائز لتصنيف نزاع مسلح في صنف الحرب الأهلية؛ فهذا الفعل رافق جلّ الحروب الأهلية التي رُصدت؛ الأمر الذي يرجح كونه لازمًا لزومًا شبه ضروري لها.
فلجوء كل طرف إلى خارج يدعمه، يكشف الصدوع الجزئية التي تدور في فلك الصدع الرئيس بين الجماعات المتحاربة على مدارات مختلفة، ويميز الأفعال الانتهازية من غيرها.
ربما يساعد هذا البحث الموجز في معرفة مدى توفر عناصر الحرب الأهلية في النزاع السوري بالاستنتاج من البحث، وليس ببحث الحدث السوري مباشرة، وإن كان مما يحزّ في قلب كل سوري طالب للتخلص من ربقة الاستبداد أن تختلط ثورة الحرية بما يشوّه نقاءها، ولكن انفجار الأحقاد الطائفية والإثنية، والتحالفات التي أمست مكونًا عضويًا من مكوناتها، والعجز عن إنكار ظاهرة الإجرام واللصوصية والانتهازية -التي إن كانت طبيعية لدى نظام الاستبداد فهي لا تتلاءم مع النقاء المأمول في الطرف الثائر-، وهي كلها من عناصر الحرب الأهلية، يفرض مواجهة صريحة مع الذات؛ لإنقاذ ثورة السوريين من الطريق الذي دفعها إلى انتهاجه النظام أولًا، وأطراف مدفوعة بدوافع قبلية ميتافيزيقية، تجوهر الآخر، وتشيطنه، وتنفث نحوه مشاعر الازدراء؛ لمجرد انتمائه الطائفي، أو الإثني ثانيًا.
أولًا: الفاعل إذ يحول الإمكان البنيوي للحرب إلى واقع
رصدت[1] باحثتان متخصصتان في علم نفس العنصرية استجابات مفحوصين عن طريق عدد كبير من الصور الفوتوغرافية لجماعات مختلفة وقد جرى تصميم هذه الصور؛ لاستثارة انفعالات الفخر، أو الحسد، أو التقزز، أو الشفقة.
ثم قارنتا تقديرات المفحوصين للانفعالات التي استثارتها هذه الصور بصور دماغية؛ لكشف النشاط الدماغي لهم في منطقة القشرة الوسطى ما قبل الجبهية للتحقق من مدى دقة المفحوصين في تحديد الانفعال الذي استثارته كل صورة لديهم فعلًا.
منطقة القشرة الوسطى لا تنشط إلا عندما نفكر في الناس، أو في أنفسنا؛ بهدف المعرفة الاجتماعية.
المفاجأة أن هذه المنطقة لم تنشط عند مشاهدة المفحوصين صورًا لجماعات اجتماعية خارجة عن المألوف، وإنما نشطت منطقة اللوزة، وهي واحدة من أكثر مناطق الدماغ بدائية، والتي يرتبط فيها النشاط غالبًا بالشعور بالخوف، أو التقزز.
إن غياب نشاط المنطقة الوسطى ما قبل الجبهية من القشرة الدماغية عند النظر إلى صور جماعات خارجية غير مقبولة اجتماعيًا يشير إلى أن الناس ينتقصون إنسانية هذه الجماعات، ولا يرون أنهم بشر بالقدر الذي يرون فيه جماعاتهم.
غايتنا من الاستشهاد بهذه التجربة هي التأكيد على أن العنف السياسي كامن في البنية الذهنية والنفسية، وأنه إمكانية بنيوية لا تلبث أن تستحيل واقعًا بتأثير ظروف موضوعية معينة، ولكن هذه الاستحالة للإمكانية إلى واقع إنما تتحقق بفعل قصدي لحاملي هذه الإمكانية الذين يتفاوتون في مقدار ما يحملونه منها.
فالذات تتشكل عبر البنية الاجتماعية، ولكن ليس بشكل حتمي يسلبها قدرتها على الفعل، وإنما بتوسط فعلها؛ لأن تأثير البنية فيها لا يكون مباشرًا، وإنما عن طريق تأملها هذه البنية، وتمثلها تمثلًا مفاهيميًا يسمح بأن تكون غير ما هي عليه.
هذا التفاعل الجدلي بين البنية والفعل ضروري؛ لفهم ظاهرة الحروب الأهلية التي طالما فُسرت باستخدام عامل البنية، وإغفال عامل الفاعل البشري الذي تحركه للفعل بنى أيديولوجية، أو ظروف موضوعية لا دور له في صناعتها.
وإن سيلان الفعل، وعدم ثباته، وتفاعله مع البنية الشارطة له والمشروطة به يجعل الأخيرة أيضًا غير مستقرة، ومفتوحة على احتمالات التغيير.
إن دحض محاولات البنيويين تفسير الحروب الأهلية باستخدام المنهج البنيوي ليس أمرًا عسيرًا؛ فالأسئلة التالية كفيلة بوصمه بالقصور في القدرة التفسيرية:[2]
- لماذا لا تولّد بنى متشابهة حالة العنف المنظم؟
- لماذا يظهر العنف السياسي المنظم في زيمبابوي، ولا يظهر في جارتها زامبيا مع أن السمات البنيوية متشابهة الى حد كبير؟
- لماذا يظهر العنف السياسي في إطار بنية معينة، ولا يظهر قبل ذلك، أو بعده مع أن السمات البنيوية مستقرة وراسخة عبر زمن طويل؟
- لماذا حدث ما حدث في رواندا عام 1994، وليس قبل ذلك، أو بعده؟
- لماذا يسبب صراع ناتج عن ظروف بنيوية معينة كحرمان أقلية من حقها توليد عنف سياسي منظم في مكان ما، ولا يشكل صراع في مكان آخر ناتج عن السبب نفسه ظاهرة العنف السياسي؟
يعجز التفسير المعتمد على البنية عن الإجابة على هذه الأسئلة. ويبرز دور الفاعل في حالات عديدة، ولكنّ أكثر حالاته بروزًا هي استثمار السرديات الكبرى الموجودة في المجتمع -بما تنطوي عليه من جذر أيديولوجي-؛ من أجل تحويل الإمكانية البنيوية للعنف -التي قد تكون مظلمة تاريخية، أو مرحلة انتقالية إلى شكل جديد للحكم، أو فشلًا سياسيًا، أو ركودًا اقتصاديًا- إلى واقع.
مثال إحدى هذه السرديات التي يمكن أن تولد العنف: السردية التأسيسية للولايات المتحدة الأميركية، وهي الاستثنائية الأميركية والتي تعني أفضلية روحية، وأخلاقية للأمة الأميركية على غيرها من الأمم.
هي مستثمرة بالتأكيد من النخب، وقد استخدمها كل رؤساء الولايات المتحدة؛ من أجل شرعنة قرارات السياسة الخارجية الأميركية، ولكنها مُعاد إنتاجها في جميع مستويات المجتمع، ومكوّن أساسي من مكونات الهوية الأميركية.[3]
ولتأكيد حاجة البنى إلى فاعلين يحولون ما تنطوي عليه من إمكانية العنف إلى عنف حقيقي، يصلح مثال بنية الخطاب هذه؛ لإثبات ذلك، فبوش الابن قد حوّل ما تنطوي عليه بنية خطاب الاستثنائية هذه من إمكانية عنف إلى عنف فعلي عندما فسر ما جرى في هجمات أيلول 2011 بأنه تهديد للاستثنائية الأميركية؛ ولهذا فإن من واجب الولايات المتحدة الأميركية قيادة الصراع ضد الإرهاب، وشنّ حرب عالمية بقيادتها للقضاء عليه.[4]
ومن الجدير بالملاحظة أن أثر الفاعل يعتمد على مكانته في السلم الاجتماعي، وعلى السياق التاريخي والمكاني الذي يفعل ضمنه، وهو ما يؤكد ما ذكرناه من تفاعل جدلي بين الفعل والبنية.
فالفاعل الذي لا يمتلك قدرات تنظيمية وبلاغية وغيرها لن يكون قادرًا على نقل الممكن البنيوي إلى واقع، وكذلك يمكن ألا تسمح له هويته، في سياق ما، أن يحدث هذا الأثر؛ فلرجل الدين أثر أكثر من غيره في ظروف استقطاب طائفي مثلًا.[5]
كما أن قدرة الفاعل على صوغ خطاب قادر على الانسجام مع الحقل التداولي المشترك هو أمر بالغ الأهمية في تحديد مدى أثر هذا الفاعل؛ ففي سياق الحدث السوري[6] -مثلًا- استطاع الفاعل المتطرف أن يكون ذا أثر أكبر من الديمقراطي العلماني؛ لأن خطاب الأخير خطاب مستورد ومحدد بمحددات وشروط سياق مغاير؛ الأمر الذي أحال محتواه إلى محتوى هجين يمتزج فيه محتوى البيئة المستوردة مع محتوى المصدر، ولهذا لم يجد منفذاً للتعبير عن هجنته، ومسخه إلا في الأيديولوجيا التي تتيح التوافق التلفيقي، وليس الربط العضوي بين الخطاب المستورد من جهة، والبيئة المستورِدة من جهة أخرى.
أما التنظيمات المتطرفة، فعلى الرغم من رفض قطاعات كبيرة من الشعب لما تقدمه، إلا أنها استطاعت تقديم منتج سياسي هو بدوره أيديولوجيا، بيد أنه قادر على التحقق النسبي في شكل الخلافة الإسلامية، وعلى الانسجام مع الحقل التداولي المشترك من دون عوائق، مستفيدًا في الوقت نفسه من مؤازرة السياق الذي يلعب فيه التوتر الطائفي الدور الأبرز.
وليس صحيحًا عدّ العنف المرافق للحروب فعلًا للنخب القادرة على تجسيد الممكن البنيوي؛ فللناس العاديين دور لا يمكن إغفاله في هذه الظاهرة؛ لأنهم مشاركون لا يتحركون بوحي خطاب النخب فحسب، وبشكل خطي تتبع فيه النتيجة السبب بالضرورة، وإنما هم فاعلون لهم فعلهم الأصيل في العنف السياسي، والذي من دونه يصبح أي تفسير للحرب غير كاف[7]، وهم إنما يتحركون بدوافعهم الشخصية، وبإيحاء من هوياتهم التي تأخذ أشكالًا متعددة، لا تختزل في زمن الحرب بهوية واحدة، “فالصربيون لم يتحركوا استجابةً للخطاب السياسي السائد بالطريقة نفسها، ولم تحرضهم الأشياء نفسها”.[8]
وبمجرد ما يدخل الناس دوامة العنف السياسي يضاف إلى محموله هذا (السياسي) محمول آخر هو العنف الخاص المدفوع بدوافع خاصة (الذي سيأتي شرح دوره لاحقًا)، وهو ما يجب أخذه في الحسبان مع الأسباب الأساسية المتعلقة بالسرديات الكبرى، والظروف الموضوعية المسببة للعنف.[9]
ومرة أخرى نلحظ التفاعل الجدلي بين البنية والفعل في حقيقة أن خطاب النخب يغير الظروف التي يعبر فيها الناس عن مظلوميات تاريخية، أو راهنة.
فبنى الفقر والانقسامات تحرض على ممارسات الحفاظ على الذات التي تقدم وقودًا لرواد الصراع؛ لكي يكرسوا خطاب الضحية، ويصوغوا الهوية والهوية المضادة التي تقوّي بدورها تلك البنى التي تعزز الانقسامات، وهكذا في دوامة حلزونية تصاعدية.
إن أسباب الحروب الأهلية يمكن أن تكون كونية، ولكن طرق الوصول إليها متعددة؛ فللفاعلين قصدية، لا يمكن إغفالها، يمكن أن تقاوم أو تعزز خطابات وممارسات النخب لأغراض خاصة. والسرديات الكبرى أيضًا تستخدم بحسب السياق، فسردية المظلمة التي تستخدم لتبرير الحرب على الإرهاب تعتمد على قاعدة مختلفة عن سردية المظلمة التي استخدمت في حرب البلقان أو في مجزرة رواندا.
ثانيًا: خطاب العنف السياسي
خطاب العنف السياسي هو خطاب معرفة-سلطة، قريب لخطابات سائدة في حقول أخرى كالطب والتعليم وحقوق الإنسان التي تنجز هيمنة في منعطفات تاريخية خاصة.[10] وهو ليس مجرد نص لغوي ولكنه يتضمن ممارسات تنظيمية، ومؤسسية، وأساطير، ورموزًا، وقوانين، وأفعالًا يتخذها الناس نخبًا، وغير نخب.[11]
كيف يُبنى خطاب العنف؟
ثلاث عمليات هي الأبرز يبنى من خلالها خطاب العنف:
1- وأد الخطابات البديلة
إبان الغزو الأميركي للعراق عام 2003 استخدم أصحاب خطاب العنف سردية الحرب العادلة، ودحضوا كل خطاب بديل واصفين إياه بأنه غير إنساني، أو أنه خطاب يعبر عن تأييد للدكتاتور صدام حسين.[12]
وما حدث في جنوب السودان دليل آخر على تلازم خطاب العنف مع إسكات بدائله. فالقادة في جنوب السودان دمروا كل المؤسسات الوسيطة التي يمكن أن تقف حائلًا بينهم وبين ولاء مجنديهم، بما فيها روابط العائلة والقرابة، وحتى الدين إذا لزم الأمر.[13] وإسكات الصوت المعارض لخطاب العنف له وسائله المعهودة المتمثلة في مركزة السلطة، والحدّ من المشاركة الديمقراطية، وعدّ انتقاد قادة الخطاب العنفيّ جريمة.
في زيمبابوي -مثلًا- أدخلت الحكومة مخططًا لتدريب الشباب يشرف على تنفيذه متطرفون، يحاولون أن يغرسوا في عقول الشباب تاريخًا معينًا لزيمبابوي؛ انطلاقًا من قناعة روجوا لها، فحواها: إن الآباء والمعلمين فشلوا في واجبهم الوطني، ولم يعرّفوا الشباب تاريخ بلدهم الحقيقي[14].
وفي الانتخابات هناك استخدم عاطلون وعاطلات عن العمل لبناء حواجز على الطرق، والاعتداء بالضرب على الأشخاص الذين لا يمتلكون بطاقات الاتحاد الوطني الافريقي الزيمبابوي/الجبهة الوطنية.[15]
2- تشويه سمعة مؤسسات معارضة
وفي زيمبابوي لم تغفل الحكومة النفوذ المعنوي للكنيسة التي انقسمت بتأثير تكتيكات الحكومة إلى يسوعيين يشجبون ممارسات الحكومة، وأطراف أخرى تدعمها، وقد عمدت الحكومة إلى تشويه سمعة اليسوعيين، ووصمتهم بمساندة الإرهاب، وبأنهم جزء من عملية استعباد استعماري.
وقد لا يقتصر التشويه على وصم مؤسسة معارضة بصفات كتلك، وإنما يكون ذلك عن طريق استمالة قسم منها بطريقة تجعل هذا القسم يشوّه سمعة مؤسسته بنفسه، فقد استطاع موغابي[16] استمالة قسم من المسيحيين إلى درجة أن أسقف هيراري قال لموغابي في صلاة أقيمت في الكنيسة: إنه أرحم من الله، وإنه لا يوجد أحد يجرؤ على معارضته لأنه معين من الله.[17]
3- خلق اعتقادات بديلة
من ضمن ميكانيزمات الخطاب العنفي خلق اعتقادات بديلة تبرر القتل بذرائع مختلفة، أهمها الدفاع عن النفس، والعنف الوقائي، ففي جنوب السودان عام 1991 منعت معايير أخلاقية ودينية معينة ممارسات القتل غير المبرر والوحشي؛ فقد عُدت خرقًا لمحظور ديني، ولأعراف محلية، وهو ما عمل قادة الجيش الشعبي[18] على استبداله باعتقادات جديدة تبرر العنف ضد الحكومة السودانية عن طريق تجريد هذا العنف من مستلزماته الروحية والاجتماعية، فلا حاجة حسب برنامجهم البديل إلى تعويض الدم، ولا إلى تنقية القاتل، ولا إلى ترسيخ ذكرى القتلى؛ لأن الحرب ضد الحكومة حرب عادلة؛ لتحصيل حقوق، فلا تحاكم الممارسات فيها بالمعايير المألوفة، وهو ما قبله مجندو الجيش الشعبي الذين تخلوا عن أي مشاعر بالذنب ترافق عملية القتل.[19]
وربما ساعد في اجتثاث هذا الشعور بالذنب السلاح الحديث الذي خلق مسافة بين القاتل وضحيته؛ فبينما كان استخدام السلاح الأبيض يؤكد للقاتل وقوع عدوه ميتًا إذا طعنه، لم يعد هذا يقينيًا باستخدام السلاح الحديث، وهو ما ساهم في تفكيك المعايير الاجتماعية السائدة.[20]
4- شيطنة الآخر
شيطنة الآخر، عن طريق جعله في البداية مخارجًا تأسيسيًا للذات، تساهم في إعادة خلق هوية إثنية معتمدة على مكون لغوي، أو دين مشترك، أو ميثولوجيا مشتركة.
تجذير الآخرية عامل أساسي من عوامل تشكيل الهوية الإثنية، فكما يقول كوفمان:[21] “إن القومية الإثنية أيديولوجيا حديثة؛ فقبل القرن العشرين لم يكن فلاحو البلقان والقوقاز يعرفون أنفسهم بأنهم كرواتيون أو جورجيون أو أذربيجانيون، ولم يحصل ذلك إلا في القرن العشرين عندما اقتنعوا بتبني هذه الهويات على أساس اللغة المشتركة، الدين، الميثولوجيا التاريخية، وقبل ذلك كانت الهويات أكثر محلية بكثير”.
ولتأسيس الهويات الإثنية عبر تجذير الآخرية وسائل عديدة، منها، وأولها الخطابات السياسية الرمزية التي يمثل الحال في يوغسلافيا السابقة أنموذجًا حيًا لها.
أحد أمثلة تجسيد الآخرية وصف باومان الاحتفال السنوي بهزيمة جيوش الأمير لازار على يد الجيش العثماني عام 1389 الذي يحضره أعضاء بارزون في الحكومة الصربية بمن فيهم ميلوسوفيتش ويستمعون فيه إلى شعراء يرثون الأبطال المسيحيين الذين ماتوا قبل ستمئة سنة، وهم يدافعون عن صربيا ضد الغزو الأجنبي ويترافق مع هذا طبعًا وصف المسلمين في يوغسلافيا السابقة بأنهم غزاة عثمانيون أجانب.[22]
ومع الخطاب الرمزي السياسي تشتغل ألية التنشئة الاجتماعية في العائلة، وفي المدرسة. ففي حادثة جرت مع إحدى الطالبات في رواندا دلالة على دور التنشئة المدرسية: فقد سأل مدرس واقف أمام قاعة الصف الطلاب: من منكم من التوتسي؟ ومن منكم من الهوتو؟ وعندما رفعت إحدى الطالبات يدها لتقول: إنها توتسية أصبحت موضوعًا للسخرية من الطلاب الهوتيين الذين طردوها إلى باحة المدرسة، وهم يرددون ما رسخ في أذهانهم من آبائهم عن أن التوتسي مرادف للشر.
وعندما أُحبط المدرس من الطلاب بسبب درجاتهم الضعيفة في مادة النحو صبّ اللوم على التوتسي، وكرّس أساتذة التاريخ سردية للتاريخ الرواندي تتمحور حول الظلم التوتسي للهوتو[23].
ولكي تتشكل هوية للآخر تبرر العنف ضده يعمد إلى رسم صورة نمطية له، فالروس دأبوا على تسمية الشيشانيين بأنهم قطاع طرق ومجرمون[24]والهوتيون[25] يصفون التوتسيين[26] بوصف صراصير وهناك مثل مشهور لديهم يقول: إن ألف صرصور لا يمكن أن يلدوا فراشة.[27]
والضحايا المدنيون في دارفور كانوا من قبائل تُطلق عليها القبائل العربية اسم” الزرقة”، وهو مصطلح يشير إلى بشر ذوي قيمة إنسانية أدنى من أصول غير عربية، أجلاف، وثنيين، ويحق استعبادهم واسترقاقهم.[28]
وفي المقابل يمثل الشماليون العرب في السودان، من العرب الممسكين بزمام السلطة، بالنسبة إلى خصومهم بشرًا مأزومين متحدرين من أب عربي وأم إفريقية، وسبب أزمتهم أنهم مصبوغون بصبغة الأم فعليًا، وعندما يبحثون في مرآتهم عن أبيهم الذي قد يكون متخيلًا في المرآة لا يجدونه، ومع ذلك يصرون على النظر إلى أنفسهم كعرب أصلاء، بينما ينظر إليهم العرب الأصلاء فلا يرون غير أمهم الإفريقية.
إنهم يقمعون أمهم، ويتماهون مع أبيهم، وهم يمارسون عملية القمع مع ذواتهم، ومع الإفريقيين الآخرين من غير العرب.[29]
ثالثًا: دور العاطفة في الحرب الأهلية
1- تعريف العاطفة
دينامية تطلق فعلًا لتلبية اهتمام ملح. وهي تواجه المواقف بطريقتين:
– إما إعلاء اهتمام على آخر، أو رغبة على أخرى.[30]
– أو تسليط الضوء على الإمكانيات المعرفية، والمادية اللازمة للاستجابة للموقف.[31]
وهي تفعل ذلك بالتوسط بين الإدراك والرغبة[32] .
2- توسط العاطفة بين الاعتقاد والرغبة
يمكن توضيح السلسلة السببية كالتالي:[33] موقف-مفهمة الموقف-عاطفة.
وهي متزامنة في حدوثها؛ ففي حال شرق أوروبا شكلت قوى التحديث مجموعات إثنية، رافقها إدراك لتمايز الجماعات من حيث القوة والضعف، وعلوّ المكانة وانخفاضها.
فدول البلطيق التي جربت الاستقلال، ثم الاحتلال السوفياتي بين عامي 1940 و1941، ثم الاحتلال الألماني، ثم العودة إلى الهيمنة السوفياتية؛ حدث فيها مع كل مرحلة تغيير في علاقات السلطة والمكانة بين الجماعات[34].
إدراك هذا التغيير البنيوي هو عملية المفهمة التي يمكن أن يُعبر عنها بتشكل الاعتقاد الخاص بالتغيير. هذا الاعتقاد الذي ربما يكون مضمونه أنّ تهديدًا تمثله جماعة لجماعة صاحب الاعتقاد، أحدثه التغيير البنيوي، تنتج عنه عاطفة تتوسط بين الاعتقاد -كما قلنا-، وبين ظهور رغبة في فعل معين.
وبدورها تنتج العاطفة تغذية راجعة تؤثر في المعلومة والاعتقاد، فمثلًا، عند وقوع المرء في قبضة شعور الخوف، سوف تتغلب المعلومات الخاصة بالتهديد والخطر على غيرها من المعلومات.
وعندما يقع المرء أسير عاطفة الاستياء، فإن الهيمنة تكون لمؤشرات مكانة الجماعة التي تتسرب بثبات مؤثر إلى اعتقادات الشخص.
في الأفعال الذرائعية (التي تنتج عن الاعتقاد ثم ترتد بتغذية راجعة إليه لتعززه) تؤثر العاطفة على الاعتقاد بتقويته، أما في عاطفة الحقد فإن العاطفة تشوّه الاعتقاد. ولأن العاطفة تولد رغبة فإن الهدف المحدد سيكون عائقًا أمام تحقيق هذه الرغبة.[35]
3- عاطفة الحقد
في حال الحقد تسبق العاطفة الإدراك، وبناء على حقائق علم النفس الاجتماعي يُحدث هذا تشويهًا في جمع المعلومة وتشكيل الاعتقاد. [36]
فالإلحاح القوي، في حال الحقد، على ارتكاب العنف يخلق حاجة لمعالجة معلومات متيسرة في مثل هذا السبيل؛ لإيجاد عدو ضحية، وتبرير العنف ضده، فإذا كان الهدف -الذي هو مصدر الإحباط- غير متيسر الهجوم عليه، فسوف يحلّ محله هدف آخر.
يتميز الحقد عن العواطف الأخرى في نواحي عديدة[37]:
– تشوهات الإدراك في انتقاء الأهداف.
– وجود أهداف بديلة واضحة.
– تبريرات غير متماسكة للعنف.
– صعوبة في تحديد مصدر محدد لبدء العنف.
4- عاطفة الاستياء
أما شعور الاستياء (وهو مترافق مع معظم حالات الحرب الأهلية)، فهو ينبثق من إدراك أن مجموعة الفرد متوضعة في مرتبة متدنية على سلم المكانة، وأن جماعة أخرى لا تملك حق الهيمنة تُخضع جماعته.
يفترض المفهوم أن العلاقات الاجتماعية مصبوغة بصبغة خفيفة بـ إيحاءات ثنائية الهيمنة/الخضوع. وأن التراتبيات القائمة يمكن أن يعاد تنظيمها من خلال سياسات العنف.
يرتبط الاستياء بعلاقات المكانة، وهي بدورها مرتبطة ببضعة مؤشرات:[38]
– لغة الحكومة اليومية.
– تركيب البيروقراطية.
– تركيبة السلك العسكري.
– رموز معينة مثل أسماء الشوارع.
– إعادة توزيع الأراضي.
فبعض الجماعات الإثنية يمكن أن تكون أغنى من غيرها، ولكن عندما تجبر على التحدث بلغة الآخرين في الأعمال اليومية، وعندما تكون تحت رقابة سياسية مختلفة إثنيًا، وعندما لا تستطيع التقدم في مراتب بيروقراطية الدولة، أو الجيش، وعندما يعاد توزيع الأراضي لمصلحة جماعة أخرى، فسوف تشغل مكانة أخفض في سلم المكانة.
كيف يؤثر المتغير البنيوي في علاقات المكانة؟[39]
يحدث ذلك بطريقتين:
أولًا- تغيرات بطيئة يحدثها التحديث عندما يخلق إدراكًا لعلاقات القوة، فالتحديث يترافق مع عقلنة لعمليات الدولة من خلال استخدام لغة عامة، وهذا يتطلب اختراق جماعات منعزلة سابقًا؛ من أجل تثقيف عمال مدربين، وشرائح أخرى كجباة الضرائب والجنود. وهي أنشطة تسهم في توضيح أي الجماعات أعلى، وأيها أسفل في سلم المكانة.
التحديث بدوره يحدث في اتجاهين:
1- عندما يزحف الفلاحون من ضواحيَ مكتظة بالسكان إلى المدن، ويكتسبون بالاحتكاك معلومات توضح مَن المتحكم بالعمل والمواقع البيروقراطية.
2- وعندما يتخلص جمهور غفير من الفلاحين من أميتهم، ويعرف الكثير من هذه الجموع أن آخرين يتحدثون مثل لغاتهم، ويعيشون تجاربهم مما يساعد في خلق ما أسماه بندكت اندرسون[40] الجماعة المتخيلة[41].
ثانيًا- تغيرات بنيوية سريعة تترافق مع حرب، أو احتلال، أو انهيار الدولة، تنتج عنها أيضًا معلومات توضح مَن الجماعة التي في القمة. فمثلًا يعيّن المحتل قوة شرطة، ويسلم مواقع معينة أساسية في بيروقراطية الدولة لجماعة يعدّها موالية له فتكون في قمة سلم المكانة.
رابعًا: أنطولوجيا العنف السياسي
ثمة تفسيران للحرب الأهلية:[42]
التفسير الهوبزي[43]: انهيار السلطة والفوضى التالية، ويمكن تتبع هذا بالعودة الى ثيوسيديس، وتكون هذه الحرب مشجعة على خصخصة العنف، واقتصار دوافعه على السلب والنهب.
التفسير الشميثي[44]: الذي يقوم على أنطولوجيا للحرب الأهلية يستند إلى اعتقادات وولاءات مجموعة مجردة يصبح عدوها خصمًا بفضل عداوة جمعية، وغير شخصية.
الحرب الأهلية عادة مزيج معقد من الهويات والأفعال “فمع المخلصين مجموعة من اللصوص، وهي ظاهرة موجودة في طرفي الصراع”[45].
فبعد سنوات من الحرب الأهلية الأميركية وصف لنكولن[46] الحرب الأهلية الأميركية بأنها جرائم قتل انتقامًا لأحقاد قديمة، وجرائم قتل لأجل المال تغطى بأي عباءة.[47]”
أما الحرب الأهلية الصينية فقد وصفت بأنها كانت قتالًا بين تحالفات متغيرة ومتعددة لقطاع طرق وميليشيات[48].
كان من الصعب التمييز بين أعضاء المقاومة ضد اليابان وقطاع طرق يتحركون من طرف إلى آخر حيث قدر أن 140000 من أصل 300000 عضو مقاومة كانت لهم خلفيات لصوص.[49]
وفي دراسة عن الفلبين وجد أن الاحتلال الياباني لها خلال الحرب العالمية الثانية ولّد حركة مقاومة، كما ولّد حربًا أهلية عندما انضم بعض الفلبينيين إلى السلطات اليابانية المحتلة.
كما خلصت الدراسة إلى أن حروب العصابات جندت داعميها من الفئة السياسية التي فشلت في الفوز في الانتخابات، بينما ذهب الفائزون إلى خدمة اليابانيين، فهي لم تكن في المحصلة مدفوعة إلا بدافع التنافس على المواقع.[50]
ويليام دالريميل دهش في زيارته لضاحية لبنانية باكتشاف أن ما فعلته ميلشيا جعجع[51] بميليشيا المردة كان صراعًا سياسيًا في ظاهره حيث تريد الكتائب تقسيم لبنان بينما يسعى فرنجية[52] إلى وحدته، والحقيقة أن له جذورًا في قرن من العداء الدامي بين البشري (منطقة جعجع) وزغرتا (معقل فرنجية) “عداء بين إقطاعيات عصور وسطى يتخفى خلف قشرة التمدن للسياسات اللبنانية”.[53]
فهم ديناميات الحرب الأهلية عبر صدوع محلية متسق مع فشل الصدع الأساسي في تفسير طبيعة الصراع وعنفه.
في تحليله للسياسات المحلية في سيريلانكا يقول جوناثان سبنسر “إن الناس لم يكونوا أعداء بالضرورة، لأنهم كانوا في أحزاب مختلفة ولكنهم انتهوا الى أحزاب مختلفة لأنهم كانوا أصلًا أعداء”.
الانقسامات المحلية تفتقر إلى مصطلح يصلح لوصفها؛ ولذلك يلجأ الفاعلون إلى الحقل السياسي ويستمدون منه هذا المصطلح[54].
إن الصدوع المحلية الموجودة قبل اندلاع الحرب الأهلية يمكن أن تدعم الصدع الأساسي، ويمكن أن تخربه ويمكن أن تتضاءل إلى مجرد توضيح له، ويمكن أن تبقى فعالة حتى بعد أن يلتئم الصدع الأساسي.
الصراع بين الملكيين والبرلمانيين خلال الحرب الأهلية الإنكليزية كان صراعًا بين عائلتين متنافستين على السيطرة على البلاد منذ منتصف القرن السادس عشر.[55]
إن تحليل ديناميات الحرب الأهلية مستحيل في غياب الاهتمام بالديناميات المحلية؛ لأن الاهتمام بها ضروري لتحقيق التناسب بين المستويين الجزئي والكلي[56] فالناس لا يمكن أن يعاملوا كموحدين، والهويات المسكوكة في المركز والمعممة على المستوى المحلي يمكن أن تكون مضللة؛ ولهذا فإن معرفة لماذا ينضم أفراد ولماذا ينشق آخرون، ولماذا يحدث العنف بهذا الشكل وهذا الاتجاه، وكيف ولماذا يستمر لا يكفي للإجابة عنها الصدع الأساسي أو الهويات الإثنية أو الطبقية أو غيرها.[57]
بتعبير آخر، دوافع العنف لا تشتق مباشرة من صدوع إثنية، أو طبقية، أو دينية. فمثلًا الهنود الذين تعاونوا مع المتمردين في غواتيمالا لم يكونوا عمال مزارع فقراء، وإنما كانوا رجالًا بارزين يعملون تجارًا، ورغبوا في أن يستثمروا حرب العصابات في عداء سياسي.[58]
وعلى الرغم من أن للطبقة دورًا في أحداث الثورة الأميركية، إلا أنه يوجد إجماع بين المؤرخين على أن التوتر الطبقي لا يمكن أن يشرح التنوع الواسع في أفعال العنف الوحشي ومستوياته في فرجينيا وكارولينا[59].
والعنف في أواخر 1980 وأوائل 1990 في إيرلندا لم يكن مسببًا عن صدع ديني في إيرلندا الشمالية، ولكنه كان تعبيرًا عن ثأر مر، ودورة عداء دموي متجدد بين قريتين ضد بعضهما.[60]
كما يمكن أن يختفي الدافع الشخصي خلف ظروف التطهير العرقي حيث يصف سجين سابق في البوسنة العنف الذي يمارسه السجانون الصربيون ضد المسلمين بما يصلح أن يكون مثالًا على هذه الدوافع الشخصية فيقول:” يومًا ما جاء حارس صربي في الليل، وأهان السجين الذي كان قاضيًا عاقبه مرة في أواخر السبعينيات بسبب مخالفة مرورية.[61]
وقد دأبت أدبيات الحرب الأهلية على عدّ المدنيين ضحايا أبرياء لهذه الحرب، ولكن الحقيقة أنهم مشاركون فيها، فكما تقول فلاحة باسكية عانت عائلتها على يد القوميين خلال الحرب الأهلية الإسبانية: “لم يكن فرانكو هو الذي أذانا لكنهم أناس من هنا من القرية”.[62]
قصة الصبي السوفياتي الذي رقاه النظام السوفياتي، وعده بطلًا وطنيًا؛ لأنه وضع مصلحة الدولة العليا فوق مصلحة العائلة عندما أفشى سر أبيه الذي كان يرأس الكولخوز، والذي ساعد معتقلي الكولاك على الهروب من قبضة الحكام لدى السلطات الستالينية.
الفحص الدقيق للدافع كشف عن أن أباه كان قد هجر أمه وإخوته، وذهب مع امرأة أخرى من القرية نفسها فإما أن الصبي قد استنكر فعل والده؛ لأنه حمّله مسؤولية العائلة في سن مبكرة، أو أنه حُرّض من جانب أمه، أو أنه حرض من جانب عمه الذي أراد أن يصبح بديلًا عن أبيه في المنصب.[63]
إن الحرب الأهلية يمكن أن تكون -عبر عدم الاكتفاء بالصدع السياسي لتفسيرها- أن تكون وسيلة للسلطة، ووسيلة لتحصيل فوائد محلية، وهو إطار بديل للإطار الهوبزي، وإطار شميث.
فالصراع المحلي الذي ينفجر في عنف مستديم لا ينفجر بسبب حرب أهلية هي مثال لفوضى هوبزية، ولا نتيجة لتصميمات وتلاعبات لاعبين فوق محليين، وإنما هي تفاعل بينهما.
يفترض أن الفاعلين المركزيين مرتبطون بدينامية معروفة هي الصدع الأساسي، ولكن هذا الصدع ينطوي على عوامل جزئية.
يمكن الربط بين المركز والأطراف عن طريق مفهوم التحالف وهو يسمح لمتعددين بدلًا من فاعل واحد بأن يكونوا سببًا في العنف ومشاركين فيه.
إن التحالف ينزع المركزية، ويعطي الصراع ميزة التوسع والعنف، ميزة البعدين الخاص والعام.[64] كما أنه يشمل الأفعال الاستراتيجية التي يتخذها فاعلون سياسيون، والأفعال الانتهازية التي يتخذها أفراد محليون.[65]
كما يسمح التحالف برؤية الحرب الأهلية كمجموعة صدوع محلية متنوعة تتجمع حول الصدع الرئيس على مدارات متفاوتة المسافة.[66].
يقول أوليفر روي في شرحه للحرب الأهلية في طاجكستان عام 1992: إن الصدع الأساسي محافظ/إسلامي قد انقسم إلى عدد من الصدوع الفرعية على أبعاد متنوعة مثل الدين والمهنة والموقع ضمن جهاز الدولة والإثنية.[67]
يلمح ثيوسيديس إلى دينامية التحالف عندما يناقش الحرب الأهلية في كورسيرا:
“في زمن السلم لا يوجد سبب للدعوة إلى تحالف خارجي ولكن في زمن الحرب عندما يتمكن كل طرف من الاعتماد على حليف لكي يسبب أذى لخصومه ويقوي في الوقت نفسه موقعه يصبح الاعتماد على حليف شيئًا طبيعيًا لكل من يريد التغيير أن يطلب مساعدة خارجية”[68].
عادة ما يكون الخاسرون في الصراعات المحلية هم أول من يطلب مساعدة خارجية. وتكون السلطات المحلية التي عانت التهميش مبادرة إليه كما حدث في مناطق عديدة كالموزامبيق وسيريلانكا[69].
الحرب الأهلية بهذا المعنى فرصة للخاسرين في صراعات سلطة محلية إضافة إلى أفراد يشعرون بالإهانة. الحرب الأهلية سياق يندمج فيه فاعلون محليون وغير محليين، أفراد ومنظمات يعقدون تحالفات لتحقيق أهداف متغايرة ليست سياسية فحسب -حسب الفرض الشميثي-، وإنما منها ما هو سياسي، ومنها ما هو خاص.
ليس صحيحًا أن صدعًا أساسيًا في بنية المجتمع، تشتق منه أيديولوجيات يستثمرها فاعلون، هو العلة لظاهرة الحرب الأهلية، فكما لاحظنا يتفرع الصدع الأساسي إلى صدوع فرعية كثيرة، لا يمكن إغفال دورها في نشوء الحرب الأهلية واستمرارها، فالعنف السياسي ليس سياسيًا بالضرورة، والأفعال والهويات لا يمكن اختزالها إلى قرارات تتخذها نخب.
وهي ليست بابًا يفتح على مصراعيه لفوضى هوبزية وعنف عشوائي؛ لأن هذا العنف الخاص محكوم بقيود بنيوية، وبسياق تاريخي كما يقيده التحالف الذي غالبًا ما يترافق مع الحرب.
إن الحرب الأهلية سياق يتفاعل فيه الدافع المحلي مع الالتزامات فوق المحلية، ويتفاعل فيه الفاعلون ليس مع هوياتهم فحسب، وإنما مع مصالحهم الشخصية.[70]
خاتمة
إن تصنيف الأفراد بحسب انتمائهم إلى الجماعات يمثل شرطًا ضروريًا، وغير كاف للتعصب، ولكنه يتحوَّل إلى تعصُّب إذا ارتبط ببعد تقويميّ لهذه الجماعة يقع على أحد قطبيه الأقصيين قيمة الخير بكلّ ما يندرج تحتها من صفات، وعلى القطب الآخر القيمة المضادَّة المتمثلة في قيمة الشّر، وما يندرج تحتها من صفات.[71]
إن إحدى الظواهر التي لا نكلف أنفسنا مؤونة كبيرة في ملاحظتها في المأساة السورية هي ظاهرة التصنيف المقترن ببعد تقويمي، فقد ساهم تصدر الفاعل السلفي للمشهد في تغليب هذه الظاهرة، التي لا يمكن للثورة أن تحافظ على نبلها بوجودها؛ فهذا الفاعل لا يكتفي بالتصنيف، ولكنَّه يفرز بشكل قاطع الـ “نحن” عن الـ “هم” متَّخذًا من القطب الأوَّل موقعًا للمنتمين إلى الطَّائفة السُّنيَّة، ومن القطب المقابل من لا ينتمون إليها، وفي مقدّمتهم من يطلق عليهم في هذا الفاعل اسم “النّصيريّة”.
وإذا كان النظام وحلفاؤه الطائفيون لا يتورعون عن إظهار عنصريتهم القبيحة، لأن الإناء بما فيه ينضح، فإن ضعف التيار الديمقراطي العلماني، هو أحد العوامل التي ساعدت في ترك الباب مشرعًا للمحكومين بقيم ميتافيزيقية وأحقاد طائفية لكي يسرقوا الضوء والمشهد.
كما ساهمت جرائم النظام في ثمانينيات القرن الماضي في فتح جرح لم يندمل، وهو ما أضاف إلى شعور الازدراء شعور الحقد، وهو حقد لا يعدم مبرراته.
كما أن الركون إلى الحلفاء، وإن كان فعلًا اضطراريًا، فإنه سمة من سمات الحرب الأهلية كما وضحنا آنفًا؛ ولأجل هذا فإن الاضطرار إليه يجب أن يكون بقصدية الثائر التي تبادر على أساس علمي بدالّة ما يتوخى الوصول إليه في ثورته، لا أن يكون تحالفًا منزوع الصلة بالأهداف البعيدة للثورة، ومقصودًا لإضعاف الخصم فحسب.
إن محاولة معرفة ديناميات الحرب الأهلية، وما تتسم به من خصائص مستخلصة باستقراء حالاتها يمكن أن يساعدنا في تجديد خطابنا، وجعله أكثر قدرة على توجيه مسار الثورة وجهة لا تذهب بها بعيدًا عن أهدافها، وفي المحافظة على جذوتها التي لا شك أنها تأبى أن تنطفئ، لأنها جذوة حق إنساني لا يمكن أن يزهقه باطل نظام استبدادي مسرف في غيّه، وضلاله، وإصراره على سلب المستحقين حقوقهم في العيش بحرية وكرامة، وفي بناء دولتهم المدنية الديمقراطية التعددية.
[1] دايفد هوتون، علم النفس السياسي، أوضاع وأفراد وحالات، ترجمة ياسمين حداد، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، الطبعة الأولى، 20155.
[2] RICHARD JACKSONA AND HELEN DEXTER, The Social Construction of Organized Political
Violence: An Analytical Framework, The National Centre for Peace and Conflict Studies, University of Otago, Dunedin,
New Zealand; department of Politics and International Relations, University of
Leicester, Leicester, UK, 2014, pp.4.
[3] Philip Wander, ‘The Rhetoric of American Foreign Policy’, Quarterly Journal of Speech 70/4 (1984)
pp.339–61.
[4] See Richard Jackson, Writing the War on Terrorism (Manchester: Manchester UP 2005); S. Croft,
Culture, Crisis and America’s War on Terror (Cambridge: Cambridge UP 2006); J. Murphy, ‘“Our
Mission and Our Moment”: George W. Bush and September 11’, Rhetoric and Public Affairs 6/4
(2003) pp.607–32.
[5] RICHARD JACKSONa AND HELEN DEXTER, pp.8.
[6]مناف الحمد، في أسباب كساد الماركة السياسية للمعارضة السورية، أنفاس، 2014.
http://www.anfasse.org/2010-12-29-18-25-49/2010-12-30-15-58-49/5669-2014-10-25-12-18-57
[7] Stuart Kaufman, Modern
Hatreds. The Symbolic Politics of Ethnic War (New York: Cornell UP 20
[8] Stathis N. Kalyvas, ‘The Ontology of “Political Violence”: Action and Identity in Civil Wars’,
Perspectives on Politics 1 (2003) pp.475–94.
[9] Ibid.
[10] Damian E. Hodgson, Discourse, Discipline and the Subject: A Foucauldian Analysis of the UK
Financial Service Industry (London: Ashgate 2000, p.62.
[11] RICHARD JACKSONa AND HELEN DEXTER, pp. 10.
[12] Ronald Krebs and Jennifer Lobasz, ‘Fixing the Meaning of 9/11: Hegemony, Coercion, and the
Road to War in Iraq’, Security Studies 16/3 (2007) pp.409–51; Michael Ryan and Les Switzer,
THE SOCIAL CONSTRUCTION OF ORGANISED POLITICAL VIOLENCE 21
Downloaded by [Université de Genève] at 05:08 19 February 2016
‘Propaganda and the Subversion of Objectivity: Media Coverage of the War on Terrorism in Iraq’,
Critical Studies on Terrorism 2/1 (2009) pp.45–64; Jack Lule, ‘War and Its Metaphors: News
Language and the Prelude to War in Iraq, 2003’, Journalism Studies 5/2 (2004) pp.179–90.
[13] Sharon Hutchinson, ‘Spiritual Fragments of an Unfinished War’ in N. Kastfeld (ed.) Religion and
African Civil Wars (London: C. Hurst 2005) pp.28–53.
[14] Terrence Ranger, ‘The Zimbabwe Presidential Election: A Personal Experience’, The Australasian
Review of African Studies XXIV/1 (2001) pp.9–24
[15] Ibid., p.15.
[16]روبرت موغابي، أول رئيس حكومة وثاني رئيس لزيمبابوي.
[17] Ibid., pp.18.
[18]الذراع العسكري للحركة الشعبية لتحرير السودان بزعامة جون قرنق، والتي أصبحت الحزب الحاكم لدولة جنوب السودان بعد إعلان استقلاله في 2011.
[19] Sharon Hutchinson, (see 11).
[20] Ibid.
[21] Elizabeth Neuffer, The Key to My Neighbor’s House: Seeking Justice in Bosnia and Rwanda
(London: Bloomsbury 2001), p.32.
[22] Glen Bowman, ‘Xenophobia, Fantasy and the Nation: The Logic of Ethnic Violence in Former
Yugoslavia’ in Victoria Goddard, Joseph Llobera and Chris Shore (eds) Anthropology of Europe:
Identity and Boundaries in Conflict (1994), online at ,http://www.ideologiesofwar.com/docs/
xenophobia-fantasy-and-the-nation/., accessed 3 Sept. 2013.
[23] Elizabeth Neuffer, p. 92.
[24] Vanora Bennett, Crying Wolf: The Return of War to Chechnya, Updated edition (London:
Pan Books 2001)
[25] إحدى القبيلتين اللتين سكنتا روندا، وقد كانت خاضعة للتوتسي على الرغم من أنها أكثر عددًا، بسبب قدرات التوتسي المادية الأكبر، وقد تشكلت جمهورية الهوتو المستقلة عام 19622.
[26] القبيلة الثانية في رواندا والتي تحولت من حاكمة للهوتو إلى محكومة، وارتكبت بحقها مجازر وعمليات تهجير، وقد شكل الجيل الثاني منها ما سمي بـ” الجبهة الوطنية الرواندية” بهدف قلب نظام حكم الهوتو.
[27] Elizabeth Neuffer, p.100.
[28]الباقر العفيف، ما وراء دارفور: الهوية والحرب الأهلية في السودان، ترجمة محمد سليمان، مركز القاهرة لدارسات حقوق الإنسان، الطبعة الأولى، 2006، ص. 57
[29] الباقر العفيف، ص. 23
[30] Rogerd D. Petersen, Understanding of ethnic violence, fear, hatred, and resentment in twentieth century eastern- euroupe. Press syndicate of the university of Cambridge, united kingdom, 2002, pp. 16-177.
[31] Ibid.
[32] Sidanius, Iyengar, Shanto (Ed); McGuire, William James (Ed), The psychology of group conflict and the dynamics of oppression: A social dominance perspective, Durham, NC, US: Duke University Press, ix, 1993, p.1899.
[33] Rogerd D. Petersen, p.20.
[34] Ibid.
[35] Ibid.
[36] Ibid., 29.
[37] Ibid., 30.
[38] Ibid. p.41
[39] Ibid. p. 42.
[40] مفكر أميركي متخصص في الدراسات الآسيوية، اشتهر بكتابه الصادر عام 1983 بعنوان” الجماعات المتخيلة” الذي يحاول فيه أن يستكشف أصول القومية
[41] وهو الوصف الذي سكه بنكت أندرسون للانتماء الذي يربط الفرد بآخرين لا يعرفهم ولكنه يشعر بالانتماء القوي إليهم
[42] Stathis N. Kalyvas, The Ontology of “Political Violence”: Action and Identity in Civil Wars, published by: American Political Science Association, 2011, p.4755.
[43]فيلسوف إنكليزي يعد من أهم فلاسفة القرن السابع عشر، كما يعد كتابه “اللوياثان” من الكتب المؤسسة للفكر السياسي الغربي.
[44] نسبة إلى كارل شميث، أحد أهم المفكرين الألمان في القرن العشرين، ويعد من أكبر نقاد الفلسفة الليبرالية في القرن الماضي، وأحد الممهدين لأطروحات المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأميركية.
[45] Stathis N. Kalyvas, p.476.
[46] الرئيس السادس عشر للولايات المتحدة الأميركية، من أهم إنجازاته القضاء على الحرب الأهلية الأميركية.
[47] Fellman, Michael. 1989. Inside War: The Guerrilla Conflict in
Missouri during the American Civil War. New York: Oxford
University Press, p. 85.
[48] Stathis N. Kalyvas, p.476.
[49] Ibid.
[50] Lear, Elmer. 1961. The Japanese occupation of the Philippines, Leyte, 1941-1945. Data Paper No. 42, Southeast
Asia Program, Department of Far Eastern Studies. Ithaca, N.Y.: Cornell University Press, p.234.
[51]سياسي لبناني، من أبرز المشاركين في الحرب الأهلية اللبنانية، ومن قادة حزب القوات اللبنانية، إحدى الميليشيات التي أدت دورًا مهمًا في الحرب الأهلية.
[52] سياسي لبناني، أسس ميليشيا المردة التي قادها في بدايات الحرب الأهلية اللبنانية، قبل أن تغتاله ميليشيا القوات اللبنانية في مجزرة إهدن.
[53] Dalrymple, William. 1997. From the Holy Mountain: A Journey
amongst the Christianso of the Middle East. New York:
Henry Holt.pp. 253.
[54] Spencer, Jonathan. 1990. A Sinhala Village in a Time of TroubleP: politics nd Change n Rurales ri Lanka.D elhi:
Oxford University Press, pp. 12, 80, 184.
[55] Everitt, Alan. 1997. The local community and the great rebellion. In the English civil Wars: L ocalA spectse, d. R. C.
Richardson. Phoenix Mill: Sutton, 15-36.
[56] Sambanis, Nicholas. 2002. A review of recent advances and future directions in the literature on civil war. Defense and Peace economics1 3:2, 215-433.
[57] Stathis N. Kalyvas, pp. 481.
[58] Stoll, David. 1993. Between Two Armies: In the Ixil Towns of Guatemala. New York: Columbia University press, pp.68, 76.
[59] Escott, Paul D., and Jeffrey J. Crow. 1986. The social order
and violent disorder: An analysis of North Carolina in the Revolution and Civil War. The Journal of Southern History 52:3, p. 373-402
[60] Toolis, Kevin. 1997. RebelH earts: J ourneysw ithin the IRAs
Soul. New York: St. Martin’s Griffin, pp.42.
[61] Kalyvas, pp.482.
[62] Zulaika, J oseba. 1988. BasqueV iolenceM: etaphora nd Sacrament.
Reno: University of Nevada Press, pp.21.
[63] FitzpatrickS, heila, and Robert Gellately.1 997. Introduction to the practices of denunciation in modern European
history. In AccusatorPy racticesD: enunciationi n Modern EuropeanH istory,1 789-1989, eds. Sheila Fitzpatrick
and Robert Gellately. Chicago: University of Chicago, Press, pp. 1-21.
[64] Kalyvas, pp.486.
[65] Ibid.
[66] Ibid.
[67] Roy, Olivier. 1999. Etat et recompositions identitaires: L’exempled u Tadjikistan.I n Guerresc iviles: E: E: E conomieds e la violence, d imensionsd e la civilite, e, e, e d. Jean Hannoyerr.
Paris: Karthala, pp. 221-34.
[68] Thucydides 1972, book 3, paragraph8 2.
[69] RichardsP, aul. Fightingfo r the Rain ForestW: ar, Y outh, And Resourciens SierraL eone.P. P ortsmouthN, H.: Heinemann, 1996, pp.88.
[70] Stathis N. Kalyvas, p.487.
[71]مناف الحمد، مصطلح الطائفة الكريمة ومفاعيله، الأوان، 2016.