بعد أربعين سنة من الحكم الاستبدادي في ليبيا، يخال للمرء أن المسؤولين الذين انتُخبوا بالسبل الديمقراطية سيحظون باحترام أكبر من ذاك الذي حاز عليه سلفهم السئ السمعة، معمر القذافي. إلا أن المؤتمر الوطني العام المنتخب سنة 2012 ومجلس النواب الذي خلفه سنة 2014 لم يتمكنوا من نيل ثقة الشعب، ما أدى إلى بروز دعوات مطالبة بانحلالهما وقبل أن يمضي حتى شهر واحد على بدء ولاياتهما.
فمنذ انتفاضة العام 2011، والزعماء الليبيون يواجهون صعوبة في ترك صدىً إيجابي لدى شريحة مهمة من الشعب الليبي. ويعود ذلك جزئيًا إلى غياب المؤسسات السياسية الفاعلة، لكن الأهم هو انعدام الثقة لدى الشعب الذي اعتاد الخضوع للسلطة الاستبدادية إنما بات اليوم يرفضها. فكسب ثقة الليبيين وتعاونهم يتطلب مقاربة جديدة وأفقية للحكم والقيادة، فالقائد الذي يتبنى النهج الأفقي لا يتربع على عرشه بل يضطلع بدور الموظف الحكومي الذي يتشاور مع المواطنين لاتخاذ القرارات ويشجعهم على تبني رؤية موحدة. وعلى أساس هذا النموذج يتحمل الشعب والمسؤول المنتخب على حدٍّ سواء عبء القيادة.
في هذا الإطار، ثمة ثلاث خطوات يحتاج الزعماء الليبيون إلى اتخاذها من أجل إرساء الأمن والاستقرار وتحقيق العملية الانتقالية التقدمية، ألا وهي: معالجة الشكاوى ومشاعر السخط الراسخة في النفوس، ووضع توقعات قابلة للتحقيق لتفادي الخيبة، والالتزام بإرساء نظام ديمقراطي—وهذه كلها تستوجب فلسفة قيادية جديدة.
فالطغيان الذي دام عقودًا من الزمن والانتفاضة الدموية غذّيا مشاعر السخط التي لا يمكن معالجتها بسبب ضعف مؤسسات الأمن والقضاء في ليبيا. وفي غياب الحلول الجاهزة، عمدت شخصيات راديكالية إلى تعبئة الأفراد المحرومين من حقوقهم ضد من اعتبروه عدوًا مشتركًا، ما أدى إلى نشوب الحرب الأهلية. وإذا بالإسلاميين وأفراد المعارضة السابقين والأقليات المقموعة وأبناء البلدات التي تعرضت لضربات النظام خلال الانتفاضة يتحالفون ضد بقايا نظام القذافي، فيما يتحالف من الجهة الأخرى كل من لم يعد مستعدًا لتحمل المحاولات المستمرة التي يقوم بها المتطرفون والحركات المسلحة لتقويض الجهود الساعية لبسط الأمن والاستقرار، وتحالفهم هذا يأتي في سياق “الحرب على الإرهاب.” وفي غضون أقل من سنة، تمكن القادة الراديكاليون من حشد الليبيين حول حروب أسطورية أنتجت الظلم والقتل والعقاب أكثر من أي وقت مضى.
من الواضح جدّاً أن الدولة الليبية ضعيفة وهذا يعني أن البلاد باتت أكثر عرضة للتنظيمات الطفيلية. والمأساة في ما حصل هي أن الذين كانوا يدعمون العدالة الاجتماعية والتنمية من كلا الجانبين تحالفوا مع الإرهابيين والحركات المعادية للديمقراطية.
أمام هذا الواقع الذي لا يبشر بالخير، يجب على القادة الذين يعون أن هناك حاجة ملحّة لإنهاء الحرب وإعادة بناء الدولة أن يعيدوا النظر بولاءتهم أولاً، والاعتراف بمشاعر السخط التي يعاني منها المواطنون منذ مدة طويلة ومعالجتها. بهذه الطريقة يصبح بالإمكان تكوين تحالفات بين الأفرقاء المستفيدين من دولة مستقرة وديمقراطية، ليفصلوا بذلك أنفسهم عن الجهات المستفيدة من الوضع الهزيل والفوضوي.
ثانياً، يجب على القادة الاعتراف بالأزمة التي ورثناها والمتمثلة بغياب الدولة وبأن عملية تحقيق الأمن والاستقرار تتطلب تعاون وتضحيات وجهود كبيرة. ليبيا ليست دولة فعّالة، فهي لا تملك المؤسسات اللازمة لتنفيذ المشاريع الإنمائية الضخمة بشفافية ونجاح، كما أنها تسير نحو الإفلاس.
لذلك، فإن ضبط التوقعات يخلق المساحة المطلوبة لوضع السياسات بشكل فعّال ويستحث صبر الشعب وتعاونه. وهنا يتعين على القادة أن يتخذوا تدابير غير مسبوقة في مجال الشفافية والمساءلة، وهي تدابير تتطلب إرادةً سياسية.
وأخيرأ هناك حاجة للعملية الديمقراطية، التي أغفلناها لسوء الحظ، علماً أنها تعتبر المكون الرئيسي الذي يعتمد عليه نجاحنا.
عمدت ليبيا منذ الثورة إلى المبادلة بعجلٍ بين أكثر آليات الديمقراطية سطحيةً، وذلك على حساب مبدأ حكم الشعب الذي يعد من المبادئ الأساسية للنظام الديمقراطي. فالتزمنا بالنموذج الاستبدادي الذي ورثناه وتعاملنا مع الديمقراطية على أنها انتخابات تنقل السلطة من يد مسؤول لتضعها في يد آخر بدل أن تكون عملية تمنح القوة للمواطنين.
لقد شهدتُ على مدى السنتين الماضيتين على عشرات الحملات الحسنة التنظيم والتمويل والحائزة على دعم واسع، إلا أنها كانت تدخل وتخرج من المؤتمر الوطني العام بدون أن تسترعي انتباهًا يذكر. ولم تكن هذه الحملات هامشية، بل كانت عبارة عن مطالبات متعلقة بالحقوق الأساسية وبحق النفاذ إلى المعلومات وضرورة تنفيذ إجراءات المساءلة. في البداية لاقت هذه الحملات ترحابًا كبيرًا، ولكن سرعان ما هيمنت الألاعيب الحزبية على أجندة المؤتمر الوطني بهدف الاستحواذ على السلطة، شأنها شأن السياسات التي انبثقت عن الاحتياجات الوجودية للجناح العسكري الخاص بكل حزب.
تحاول الأمم المتحدة والقيادات الليبية تشكيل حكومة وحدة وطنية تمثل الأطراف السياسية نفسها التي تألف منها المؤتمر الوطني الذي مني بالفشل، لكنهم لا ينوون التطرق إلى عملية الحكم الغير ديمقراطية التي تنتهجها ليبيا والتي تغذي النزاع المسلح وتحافظ على حالة الفوضى.
إنّ بناء دولة ليبية آمنة وفعّالة يتطلب منّا التخلص من نماذج القيادة القديمة، ولن ينجح أي اتفاق لتشارك السلطة بدون مشاركة فاعلة من قبل ملايين الليبيين المهمشين حالياً. فهؤلاء يلعبون دورًا جوهريًا في إرساء الأمن والاستقرار، وبالتالي يجب على القادة الليبيين إجراء نقلة مدروسة تعيد إلى الشعب دوره الشرعي كالمصدر المطلق للسلطة في ليبيا اليوم.
رحاب الحاج
منتدى فكرة