أغرب ما يلاحظه المتابع في تعاملات إيران مع الغير هو ما يبدو وكأنه «الإصرار» على المواقف و«المبادئ»، التي يتوهمون بأنها على صواب.
مفاوضاتهم أوشكت على الانهيار مع الغرب بسبب تدخلات معينة يمليها الخامنئي، ولولا اندفاع وحماسة الإدارة الأميركية – وهو اندفاع يشوبه الكثير من الغموض – لانهارت هذه المفاوضات منذ بداياتها. الخميني وصف قبوله لإيقاف الحرب مع صدام حسين بأنه يشبه تجرع السم، ولم يوافق عليه إلا بعد أن دكت صواريخ العراق مدن إيران، ومات مئات الآلاف من شباب إيران على الجبهات ممن كانوا دون سن العشرين، بما كان آنذاك يعرف بالموجات البشرية.
وهاهم اليوم في سورية، ومن خلال الدعم المباشر للنظام أو الدعم عبر «حزب الله»، لا يكفون ولا يملون من تبذير أموال شعبهم الفقير الذي يتضور جوعاً، لنصرة نظام الأسد. قبل ذلك العراق الجريح، الذي لم تنقذه تدخلات إيران من الفرقة والتجاذب والدمار؛ مستغلين بذلك تنوع هذا البلد العريق طائفياً ودينياً.
أما آخر ساحات البحث عن الفتن، فهي دعمهم للحوثي في اليمن في غفلة من دول مجلس التعاون بل والعالم، لكن المفاجأة لهم كانت صادمة وعنيفة، عندما أقدمت المملكة وحلفاؤها على تحطيم حلم الحوثي وحلم «الجمهورية الإسلامية» في الاستيلاء على الحكم هناك، في مبادرة كبيرة وجريئة، بل وتاريخية دفعت بصناع القرار في إيران إلى الارتباك والاستعجال في ردود الفعل، بما قد يشبه الفضيحة في تورطه. إذاً، كان لا بد لإيران من اتخاذ موقف ولو لحفظ ماء الوجه أمام حلفائها الحوثيين وغيرهم ممن يطبل لسياساتهم العرجاء. من هنا ومنذ بدء «عاصفة الحزم» وإيران تحاول اختراق الحظر الجوي والبحري المفروض على اليمن، وتوظف قنواتها الإعلامية لإبراز ذلك عند تحرك سفينة أو إقلاع طائرة للتوجه إلى اليمن. القاسم المشترك بين كل هذه المحاولات هو الفشل المدوي.
جميعنا يعرف بالطبع أن إيران لا تستطيع مهاجمة المملكة مباشرة، وهي أجبن من أن تهاجم أي دولة مستقرة بهذا الشكل. حتى وجود بعض الخبراء الإيرانيين على الأرض في اليمن هو وجود خجول ويقع تحت دائرة الإنكار والنفي. الحقيقة أن وجودهم على الأرض لا يوجد إلا في كيانات فاشلة ومدمرة كالعراق بعد الانسحاب الأميركي، وسورية بعد الثورة. من هنا فقد لجأت إلى ما تحسن استخدامه.
إيران وعبر تاريخ ما يسمى بـ «الثورة الإسلامية»؛ تستغل تناحر الطوائف والمذاهب في المجتمعات والدول الأخرى المستهدفة، ثم تدعي وقوفها بجانب المذهب الشيعي وتبدأ بمحاولات إشعال الفتن. لا يهمهم في سبيل تأجيج الفتنة من يقع من الضحايا بمن فيهم الشيعة أنفسهم. لعلنا نتذكر تفجير بعض المواقع الخاصة بالحوثيين في اليمن قبل تقدم الحوثي إلى صنعاء، ومات في هذه الأحداث المئات من الحوثيين. ويا سبحان الله وكما في كل مرة، تخرج «القاعدة» وأحياناً «داعش» لتعلن مسؤوليتها عن هذه التفجيرات. الكاسب الأكبر بالطبع ليست «القاعدة» ولا «داعش»، بل إيران وادعاءاتها بمظلومية أصحاب المذهب وتكالب «الأعداء» عليهم. ما حدث في «الدالوة» قرب الأحساء قبل أشهر، وما حدث في «القديح» قبل أسبوع والدمام بالأمس وجميعها حملت بصمة «داعش»، يقع ضمن هذه الدائرة من دون أدنى شك. وقد أجاد المتألق مشاري الذايدي تحليل ذلك في حلقة الأربعاء الماضي من برنامج «مرايا» الذي تبثه قناة «العربية».
مما يؤسف له حقاً، واسمحوا لي أن أتحدث بصراحة ووضوح قد لا يعجبنا، علماً بأنني قد أشرت لذلك في عدد من مقالاتي السابقة، أن التعامل مع إشعال الفتنة الطائفية في المملكة لم يعد بتلك الصعوبة. «بعض» الشباب السعودي الذي تم حقن عقله وسلب إرادته بواسطة فكر التشدد والغلو ونشر الكراهية، والذي انتشر في العقود القليلة الماضية بواسطة العديد من الخطباء في جوامع المملكة، أصبح يشكل منفعة كبيرة للأعداء. يقال إن السعوديين ممن التحقوا بتنظيم «داعش» الإرهابي يقفون هذه الأيام دون غيرهم في طوابير الانتظار في سورية والعراق لتنفيذ العمليات الانتحارية.
إذاً، فمن ينفذ خططهم التي تتولى «داعش» ترتيبها في المملكة، ليسوا عملاء بالمعنى السياسي الاستخباراتي، ولا مواطنين من إيران نفسها، ولا هم حتى من بعض متطرفي الشيعة في المملكة، بل مجموعات معروفة من السذج ممن اعتدنا على تلقي الأذى منهم منذ تفجيرات العليا قبل 20 عاماً. شباب في عمر الزهور قيل لهم لا مانع من الاستعجال في الذهاب إلى الجنة للفوز بحورياتها ونعيمها.
أنا واثق إلى حد بعيد بأن دولتنا أقوى من أن ينجح بداخلها مخطط للفرقة بين مذاهب مواطنيها بهذه القذارة، لكنني أيضاً قلق من استمرار ظهور مثل هؤلاء الشباب، ولاسيما وقد انكشف للعالم بأسره خبث منهج التكفير وتلونه وبعده عن الإسلام. يكفي لوجود مثل هذا القلق أن نعلم أن القشعمي «بطل» القديح كان عمره خمس سنوات عندما وقعت حادثة سبتمبر ٢٠١١.
هنا، يجب أن نتوقف ونفكر من جديد، ونأتي بطرق قد تبدو مبتكرة، لعلها تسهم – بحول الله – في توقف هذا النزف الوطني المهم – الطاقة البشرية – من الانخراط في ساحات الظلام. أقول ذلك لأن محاولاتنا الماضية التي ركزت على الوعظ والمناصحة لم تنجح بالقدر المأمول؛ لأننا مع كل هذا الجهد صمتنا عن المحرضين الطلقاء. هذا إضافة إلى البطء الشديد في تنفيذ أحكام الله في الأفراد الذين تم القبض عليهم بالجرم المشهود، وهذا بحد ذاته أمر يثير الكثير من القلق لدى أي متابع لما يجري.
الحل الأقرب لتحقيق النجاح والوصول إلى الأهداف برأيي، إضافة إلى الحلول الأمنية الباهرة المتفوقة على الأرض، هو الاستعجال بقدر الإمكان وبما لا يسبب أي أضرار جانبية بسبب التنفيذ العاجل، إلى تأسيس مجتمع سعودي يخضع جميع أفراده إلى قانون واضح وصريح، ويرسخ لهوية وطنية صافية، لا تفرق بين عرق وآخر، ومذهب وآخر. قانون شامل وجامع، من بين مواده تجريم التحريض على الكراهية والعنف. قانون يراقب جمع الأموال، لاسيما ما هو متلبس بلباس «الخير»، ومنه ما يسمى بدفع «الخمس»، الذي يجب أن يخضع لمراقبة مؤسسة النقد كما نفعل مع بعض المؤسسات الخيرية في عموم المملكة. قوانين تراقب التجمعات المشبوهة التي تتلبس كثيراً بالدين، سواءً أكانت تابعة لجماعات خيرية أم لحلقات دروس معينة أم لتحفيظ القرآن كما يزعم بعضهم. نؤسس مجتمعاً طارداً في النهاية لكل محرض ومتطرف، بصرف النظر عن الطائفة التي ينتمي إليها. أنا بالمناسبة هنا لا أتحدث عن إعادة اختراع العجلة، بل نسخ ما يفيدنا من أمم سبقتنا ومرت عبر تاريخها الطويل بتجارب تشبه ما نمر به اليوم وإن بنسب متفاوتة. هل خسرت أميركا مثل هذا الرهان عندما حررت المسودة الأولى لدستورها، وأخضعت الجميع إلى احترام مواد هذا الدستور؟
لنتذكر أن العمل في بيئة كهذه يحمل فوائد جانبية أخرى لا حصر لها، وبعيدة عن الحالة الأمنية العسكرية التي تحدثنا عنها هنا. وجود بيئة خاضعة بقوة وحزم وعدالة لسيادة النظام «القانون»؛ يعني وجود بيئة خصبة للاستثمار أيضاً، وما أحوجنا إلى ذلك ونحن نستقبل كل عام مئات الآلاف من طالبي العمل الجدد. اجتماعياً ستخضع التحرشات الجنسية إلى طائلة القانون، وسيعاقب المتحرش بعقوبات لم يعتد عليها من قبل. أيضاً فهذه البيئة ستصحح الكثير من المفاهيم والحقوق في الأسرة، والأحوال الشخصية، ومسائل الخلع والطلاق والنفقة، بما قد يؤدي إلى الإقلال من مسببات الخلاف المؤدي إلى تفكك بعض الأسر.
ماذا ننتظر إذاً للانتقال إلى مرحلة التطبيق؟ ما الذي قد يمنعنا من الإقدام على ذلك؟ أمن وحصن شامخ ضد الاختراقات، توقف عن التحريض، بناء أفضل للأجيال، تنمية وبيئة ناضجة واستقرار اجتماعي وربما نفسي، وتوجه صريح وواضح للتنافس والقوة والتنمية.
عندما نفعل ذلك، وبالمواصفات العالية الجودة في التطبيق؛ فلن تفشل مخططات إيران لإلحاق الأذى بالمملكة فقط، بل سيفشل أي مخطط آخر يحاك ضد هذه البلاد. توكلوا على الله وابدأوا بدولة القانون والمؤسسات، وفعّلوا تطبيق كل موادها بعزيمة وإصرار قبل أن يصبح تفعيلها في ما بعد غير ذي جدوى.
فهد الدغيثر
الحياة