شذى خليل *
تعد الصين محركا هاما لاستقرار وانتعاش الاقتصاد العالمي ، حيث وصل معدل مساهمة الصين في النمو الاقتصادي إلى حوالي 30% ، وأكدت دراسة أجراها بنك «إتش إس بي سي» العالمي ، أن الصين ستتفوق على الولايات المتحدة لتصبح أكبر اقتصاد في العالم بحلول عام 2030 ، بإجمالي ناتج محلي سيبلغ 26 تريليون دولار ، صعودا من 14.1 تريليون دولار حاليا .
وأشارت الدراسات المختصة ، على التوقعات الاقتصادية للسنوات الـ12 المقبلة ، وشملت 75 دولة حول العالم ، أنه في غضون عشر سنوات ، ستسيطر الاقتصادات الصين والهند على الغرب ، وستؤثر على قراراتها ، حيث تصبح اقتصادات العالم الناشئ ككل أكبر من اقتصادات العالم المتقدم.
وذكر بنك «إتش إس بي سي» في الدراسة ، أن الصين ستظل أكبر مساهم في النمو العالمي خلال السنوات العشر المقبلة ، حيث من المتوقع أن تسهم البلاد في 70% من التوسع العالمي بحلول عام 2030.
وتتنبأ الدراسة أيضاً بأن الهند ستتفوق على اليابان وألمانيا لتحرز لقب ثالث أكبر اقتصاد في العالم ، في حين ستخرج كل من أستراليا والنرويج من بين أكبر ثلاثين دولة ، نتيجة لعدد سكانها الصغير والشيخوخة ، كما سترتفع بنجلاديش ستة عشر مركزا وصولا إلى المركز السادس والعشرين .
وأظهرت البيانات الصادرة عن مصلحة الدولة الصينية للإحصاء في 28 فبراير الماضي ، أن حجم الناتج المحلي الإجمالي الصيني قد بلغ 82.7 تريليون يوان في عام 2017، بزيادة قدرها 6.9% عن العام السابق ( ما يعادل أكثر من 12 تريليون) وهو ما يمثل حوالي 15% من إجمالي الاقتصاد العالمي ، لتحتل المرتبة الثانية عالميا.
ووفقا للبيانات ، بلغ إجمالي واردات وصادرات السلع في الصين 27.8 تريليون يوان في عام 2017، حيث يتوقع أن تستعيد مكانتها الأولى عالميا ، وبلغ احتياطي النقد الأجنبي 3139.9 مليار دولار، حيث يأتي في المرتبة الأولى عالميا.
واستمر معدل التوظيف في الارتفاع وتراجع معدل البطالة ليصل إلى 3.9%، ما يمثل المستوى الأدنى خلال السنوات الأخيرة ، كما حافظ حجم إنتاج الحبوب على الاستقرار ليصل إلى أكثر من 600 مليون طن لمدة خمس سنوات متتالية ، وازداد دخل واستهلاك السكان باستمرار ، اذ ارتفع نصيب الفرد من الدخل المتاح بـ9% عن العام السابق ، وارتفع نصيب الفرد من الإنفاق الاستهلاكي بـ 7.1% عن العام السابق ، من جهة أخرى ، شهدت الصين تجديد وبناء 6796 كيلومترا من الطرق السريعة ، وبناء 2182 كيلومترا من خطوط السكك الحديدية فائقة السرعة ، وزيادة كابلات الألياف البصرية بـ705 كيلومترات ، اضافة إلى بناء أكبر شبكات الطرق السريعة والسكك الحديدية وشبكات الاتصالات في العالم.
وأكثر من مئة قطار على أهبة الاستعداد في محطة قطار ووهان ، وفواكه الفراولة التي تمت زراعتها في إحدى المزارع النموذجية بمدينة جينغشي بقوانغتشي على مساحة تفوق 500 مو (هكتار يساوي 15 موا) تدخل السوق.
وسجل مؤشر توظيف واستثمار بسوق العقارات الاميركية في الفترة بين 2010-2015 ، الصينيون في المركز الأول في هذا المؤشر بنحو 110 مليارات دولار ، ومن ثم يأتي الكنديون والهنود ، و ينظر الأميركان إلى هذا الاندفاع الصيني بنوع من الفتور والأسى ، على سبيل المثال يوبخ الرئيس الأميركي دونالد ترمب باستمرار الصينيين ويتهمهم “بمص دم” الاقتصاد الأميركي.
وهذا كله يدفع المرء للتفكير بخصوص واقع التحولات الجيوسياسية في عالمنا المعاصر ، أي كيف تبدو فعلا قائمة who is who.
وفي تقرير أعدته شركة Rosen Consulting Group العقارية بالاشتراك مع رابطة الدراسة الآسيوية في الولايات المتحدة ، جاء أن المشتري الصيني يفضل عادة أن يشتري في الولايات المتحدة ، البيت المتوسط المنفصل عن البيوت الأخرى بقيمة تزيد على 830 ألف دولار.
وخلال الفترة المذكورة أعلاه اشترى المستثمرون الصينيون فنادق ومكاتب بقيمة 17 مليار دولار ، أما المبلغ المتبقي فذهب لشراء العقارات السكنية وخاصة في كاليفورنيا.
ووصل الأمر بصحيفة Washington Post إلى اتهام الصينيين بحرمان ولاية مين الأميركية من آلاف فرص العمل ، وهم بالإضافة لذلك يلتهمون القسم الأكبر من جراد البحر “Lobster” الشهير في تلك الولاية.
طبعا عندما يشتري الصينيون العقارات والبضائع في الولايات المتحدة ، فهذا يجلب الفائدة الاقتصادية للبلاد ، إذن فهو جيد ، ولكن عندما يكون موضوع البيع والشراء عقارا أو شركة لها قيمة تاريخية ، فهنا تدخل في الموضوع العواطف ذات الطابع غير الاقتصادي ويطغي شعور الاعتزاز القومي.
والأمر هنا يكمن في ما هو الأقوى في هذه الحالة ، العواطف أو الفائدة المادية ، وكيف ستتصرف أميركا لاحقا كمنظومة سياسية وكحضارة.
وبشكل عام يقدم التقرير أرقاما تثير الاهتمام فعلا ، ومن بينها على سبيل المثال ، أن الاستثمارات الصينية في العقارات توفر 200 ألف فرصة عمل للأميركيين ، وخاصة في العقارات التجارية ، وترمب حتما يعرف ذلك جيدا ، لأن هذا مجال عمله ، ولكنه لن يتحدث عن ذلك خلال الحملة الانتخابية.
من المعروف أن الخزانة الأميركية مدانة للصين بشكل كبير ، لأن هذه الاخيرة تشتري بنشاط السندات الحكومية الأميركية ، ولكن المعروف أقل من ذلك ، هو أن الصين تعتبر أكبر وأول حائز أجنبي في العالم للسندات المالية الأميركية الأخرى ، بما في ذلك العقارية التي تصدرها شركات عقارية مالية من نوع فاني ماي وفريدي ماك ( التي باتت نصف حكومية) وهي مدانة حاليا للصين بمبالغ يصل الى 207,9 مليار دولار.
والملفت للنظر أن هذه الالتزامات مضمونة بالعقارات ، وفي حال لم تتمكن أي من هذه الشركات من تسديد الالتزام للطرف الصيني ، فهذا سيعني استلام هذا الطرف للمادة المرهونة أي العقارات.
و Fannie Mae and Freddie Mac تعتبر الرمز المعتاد لأزمة 2008 المالية (هذه الشركة أفلست خلال الأزمة وقامت الدولة بشرائها) وهذا يعني أن الصين في الواقع أنقذت الاقتصاد الأميركي من تلك الأزمة ، وهي تنقذه الآن من احتمال تكرارها.
وبشكل عام ، نرى ازدياد الارتباط المتبادل بين الاقتصاد الأول والثاني في العالم ، وهو أمر يدخل في أساس الاستراتيجية الجيوسياسية الصينية ، ويدفع الولايات المتحدة نحو توخي الحذر.
جاء في تقرير نشرته مؤخرا منظمة “أوكسفام” العالمية (مؤسسة خيرية تأسست سنة 1942، تحت اسم “لجنة أوكسفورد للإغاثة من المجاعة) أن اصحاب المليارات في العالم يترأسون الشركات العالمية العملاقة ويبلغ عددهم 62 شخصا ، وهم يملكون مثل ما يملكه نصف سكان الأرض مجتمعين ، وهم يشكلون كما يقال “حكومة الظل العالمية التي تعمل من وراء الكواليس” .
ويقول التقرير ، إن نصف هذه المجموعة (المؤلفة من 62 شخصا) يتواجدون في الولايات المتحدة وهناك ثمانية منهم من الصين وثلاثة من هونغ كونغ ، والباقون من أوروبا وبقية العالم.
تتمتع الصين ببعض المزايا التفضيلية في تجارة السلع:
لعل أبرزها : رخص أجور العمالة مقارنة بالأجور في الولايات المتحدة ، ما يعطيها ميزة تصدير السلع التي ترتفع فيها تكاليف العمالة ، ويجعلها أقوى على المنافسة مع الصناعات داخل الولايات المتحدة ، كما تتمتع الصين أيضا بعدد السكان الكبير الذي يتجاوز أربعة أضعاف سكان الولايات المتحدة ، ما يمنح صناعاتها مزايا اقتصاديات الحجم التي تسهم في خفض تكاليف عدد كبير من المنتجات.
وأسهمت السياسات الصينية التجارية المشجعة للتصدير ، في رفع قيم الصادرات الصينية ، كما أسهم دور الحكومة القوي في الصناعة في تشجيع التصدير ، وتسهم بسياسات التحكم في العملة في الحد من نمو قيمة العملة الصينية ، الذي يحد من ارتفاع أسعار السلع الصينية المصدرة للخارج ، ويجعلها أكثر تنافسية ، هناك سياسات صينية أخرى تسهم في زيادة تنافسية المنتجات الصينية ، كالقيود البيئية الأقل صرامة مقارنة بالقيود البيئية الأمريكية ، وكذلك السياسات العمالية المتراخية نوعا ما في الصين ، كما تسهم سياسات التمويل الصينية التي تتحكم فيه السلطات المركزية في خفض تكاليف التمويل داخل الصين.
من جهة أخرى ، تتمتع الولايات المتحدة بفائض كبير مع العالم الخارجي في قطاع الخدمات ، حيث تصدر خدمات تقدر قيمتها بنحو ثلاثة أرباع تريليون دولار ، وتستورد ما قيمته نصف تريليون دولار ، ويعتقد أن حجم تجارة الخدمات أكبر من ذلك ، بسبب النقص في المعلومات والإبلاغ عن تجارة الخدمات ، وتتمتع الولايات المتحدة بفائض في تجارة الخدمات مع الصين قد يتجاوز 40 مليار دولار سنويا.
وتستفيد الولايات المتحدة من الصادرات والاقتصاد الصيني من خلال عوائد استثمارات شركاتها الهائلة في الصين ، فشركة مثل جنرال موتورز تفوق مبيعاتها داخل الصين مبيعاتها الأمريكية ، كما تصنع شركة أبل معظم جوالاتها في الصين ، ويسري الحال على كثير من الشركات الأمريكية.
غير أن جزءا كبيرا من التجارة بين البلدين ، يعود إلى التجارة بين أفرع الشركات متعددة الجنسيات المنتشرة حول العالم ، حيث يقدر بعضهم أن ثلث التجارة العالمية هي بين أجزاء الشركات المتعددة الجنسيات ، التي يسيطر على جزء كبير منها مستثمرون أمريكيون ، لهذا ، فإن الولايات المتحدة تستفيد أيضا من الفائض التجاري الصيني مع العالم اجمع.
وتعاني التجارة الخارجية الأمريكية في السلع ، من عجز كبير لسنوات طويلة ، مع عديد من الدول الكبرى والصغرى ، وهذا يعني أن العجز التجاري الأمريكي لا يقتصر على الصين وحدها ، ما يؤكد أن هناك أسبابا تعود إلى الاقتصاد الأمريكي ، الذي يركز فيه على الخدمات أكثر من التصنيع ، وان انخفاض الدعم الحكومي الأمريكي للصناعة ، يعني انخفاض قدرة المنتجات الأمريكية على المنافسة مقارنة بالدول التي تدعم صناعاتها.
ويعود العجز إلى قدرة الولايات المتحدة على طبع النقود بلا حدود ، وقبول العالم بعملتها وسنداتها ، ما يرفع من قيمة الدولار الأمريكي مقارنة بالعملات الأخرى ، ويخفض تكاليف الدين الأمريكي ، وييسر لأمريكا استيراد واستهلاك مزيد من السلع بأسعار منخفضة مقارنة مع صناعاتها المحلية ، كما تسهم عادات الشعب الأمريكي ، التي تميل إلى الاستهلاك على حساب الادخار ، وغنى شرائح واسعة منه ، بزيادة الطلب على الواردات.
إذا ، لماذا يخاف دونالد ترمب (الرئيس الأمريكي) من الصين؟! يضع ترمب ، في أول ملفاته الملف الاقتصادي ، فقد وضع في خطته بخوض حرب تجارية مع الصين ، هذه الحرب باختصار كالتالي: بناءً على استطلاعات أجراها مستشارو ترمب ، دعوا الرئيس لحماية اقتصاد الولايات المتحدة ومنع انهياره ، فقرر ترمب على الفور محاربة الاقتصادات العالمية الأخرى ، وقال: “الحروب التجارية جيدة ، وسهل الانتصار فيها”، كما قام بتوجيه ضربة إلى الاقتصاد الصيني ، عبر فرض رسوم إضافية على الواردات الصينية ، حيث فرض رسوماً على بضائع صينية قيمتها 34 مليار دولار.
وردت الصين على ذلك ، عبر إضافة 25% كرسوم جمركية ، على 545 منتجًا أمريكيًا ، وقال بيان رسمي حكومي لبكين: “الصين ستقاتل حتى النهاية ، للدفاع عن مصالحها المشروعة ، بكل الإجراءات الضرورية والممكنة”، متهمة الولايات المتحدة ، ببدء أكبر حرب تجارية في التاريخ الاقتصادي.
بدورها ، ذكرت وسائل إعلام عالمية ، أن ثمة أسباب تدفع ترمب للخوف من اقتصاد الصين ، أهمها : امتلاك بكين 19%، من الديون الأجنبية على الولايات المتحدة الأمريكية ، بمعنى أن الصين تريد من أمريكا حوالي 1.2 تريليون دولار ديونًا على شكل سندات ، وبالتالي إذا ما أرادت حكومة الرئيس الصيني “شي جين بينغ” تصفية تلك الديون ، قد تدمر الاقتصاد الأمريكي ، ويبدو أن الصين تضع هذه الخطة في نهاية خياراتها ، لأنها ليس فقط ستؤثر على أمريكا بل على العالم ، وعلى الصين ذاتها.
ويبرر ترمب ، فرض الرسوم يهدف بالأساس لوقف “نقل التكنولوجيا الأمريكية، وحقوق الملكية الفكرية إلى الصين” ، حيث شدد على أن نقل هذه الأفكار إلى الصين غير عادل ، طالما كانت أمريكية ، كما أوضح أنه بذلك سيحمي الوظائف في بلاده ، بدلًا من استفادة الاقتصاد الصيني منها.
وحدة الدراسات الاقتصادية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاسراتيجية