لم يتغير الكثير: القاذفات الإسرائيلية، الطائرات بلا طيار، القناصون، وحشية التدمير المنهجي، والهدف الرئيسي هو قتل المدنيين. شهداء غزة المقاومة يتزايدون. الزنانة، طائرات الاستطلاع، تغتال شابا في فالوجة غزة. لم تعد آلة الكيان الصهيوني النهمة تشبع من استهداف مقاتلين يدافعون عن ارضهم أو شبانا يطالبون بحقهم بالحياة والكرامة، أو محمد الدرة ابن العاشرة، أو الأطفال الأربعة من عائلة واحدة الذين مزقت جثثهم على رمال شاطئ غزة وهم يلعبون: اسماعيل (9 سنة)، وزكريا (10 سنة)، وعاهد (10 سنة)، ومحمد رامز (11 سنة).
يوما بعد يوم، ازدادت شهية الوحش، بات ينشد دماء الضحايا ممن هم أصغر سنا حتى وصل الرضع والأجنة ببطون أمهاتهم. فكانت الرضيعة صبا محمود أبو عرار (14 شهرا) وأمها فلسطين صالح أبو عرار (37 سنة) وجنينها الذي كانت تريد ان تسميه عبد الله.
في الأسبوع الماضي، شاهدنا، عبر قناة الجزيرة، صبا، وهي موضوعة في ثلاجة الموتى، محتضنة نفسها، في غياب الأم، كأنها نائمة ببراءة لولا معرفتنا المسبقة باغتيالها، ولولا كثرة عدسات التصوير المتحلقة حولها، لتودعها بصورة أخيرة بعد ان زينت أمها شعرها بضفائر صغيرة وورود ملونة. انها وجه غزة تحت 150 غارة خلال 24 ساعة.
في عام 2004، شاهدنا أبا يبكي وهو يحتضن النصف العلوي من جسد طفلته المحروق بجيل جديد من النابالم، رشته قوات الاحتلال الأمريكي على مدينة المقاومة، الفلوجة، غرب العراق.
في عام 2006، شاهدنا على الهواء مباشرة، عبر قناة الجزيرة، أيضا، كيف تمكن عمال الإنقاذ اللبنانيون، في قانا المتعرضة لقصف الكيان الصهيوني، من سحب جثث 27 طفلاً من تحت الأنقاض. شاهدنا رجلاً يحمل فتاة في الرابعة من العمر ترتدي ثوبًا بلا أكمام تزينه زهورا صغيرة. كان وجهها وذراعيها وساقيها العاريتين مغطاة بالتراب.
في ذات العام، أغتصب جنود الاحتلال الأمريكي الطفلة عبير قاسم الجنابي (14 عاما) من بلدة المحمودية، جنوب بغداد، ثم قتلوها وحرقوها سوية مع أمها وأبيها وشقيقتها الصغرى هديل (5 سنوات).
منذ عقود ونحن نرى وجوه الأطفال، يغطيها الموت، الواحد تلو الآخر، من بلد عربي الى آخر وهي جامدة، بعيون مفتوحة على سعتها، تحدق بنا، ذعرا. ضحايا يصبحون، كلهم، بلا استثناء، في لحظات الشهادة، طفلا واحدا، هو طفلنا. كم يتشابه ضحايا الجرائم البشعة! من جنين وغزة في فلسطين إلى الفلوجة وحديثة وإسحاقي في العراق إلى بيروت وقانا في لبنان، من تمكنت عدسات المصورين تخليد لحظاتهم الأخيرة مع من لم يحظ بتلك الثانية المجمدة بالزمن.
وفي كل مرة نغضب ونبكي الشهداء، من الأطفال، ونشعر بالذنب لأننا خذلناهم لأننا لم نحمهم، لأننا لم نوفر لهم فرصة ان يعيشوا سنوات عمرهم. لأننا لانزال أحياء. حتى نكاد والقلب يدمع دما، ان يخامرنا الشك: هل نحن القتلة؟ هل صحيح اننا لا نحب أطفالنا؟ هل يتوجب علينا الوقوف بين الجثامين والانقاض لطلب المغفرة قائلين: «سامحونا»؟
إن تجدد آليات محاربة الشعوب، بكل المستويات قصفا وقمعا وحصارا، يعني شيئا واحدا. إنها، على الرغم من كل الإمكانيات المادية والعسكرية، لم ولن تنجح. وإن روح مقاومة الشعوب الحية، للمستعمر والمستبد، هي الباقية
اثناء قصف بغداد في حملة «الصدمة والترويع» التي شنتها أمريكا ضد الشعب العراقي، عام 2003، وأمام منظر الخراب وحالة الخوف من ان يمحى العراق وأهله، خرجت امرأة أردنية، في أواسط العمر، الى الشارع، مرتلة مثل كاهنة بمعبد تحوك طلب المغفرة، قائلة: «سامحنا يا عراق».
نحن، أهل البلدان المحتلة، المستعمرة، المعرضة للقصف والاغتيالات، نغضب ونبكي ويخامرنا الشك لأننا لسنا غزاة إرهابيين، ننتشي بالموت. الارهابيون لا يتساءلون، لا ينتابهم الشك، لأنهم يتمتعون بالقتل ويطلقون صرخات الابتهاج لحظة سقوط الضحايا مضرجين بدمائهم. يطلق القاتل الصهيوني، ضحكات هستيرية مشتركة مع جنديين آخرين، في فيديو متوفر على اليوتيوب، بعد اصابته شابا فلسطينيا أعزل: «ها… ها… لقد أصبته ابن ال…»..
جنود جيش الاحتلال الاستيطاني، لا يقتلون لأنهم ينفذون الأوامر فقط، بل لأنهم يجدون لذة في القتل، كما تثبت افعالهم، وبتشجيع من المسؤولين. «أفضل الجنود الذين يضحكون وهم يطلقون النار»، يقول عضو الكنيست بيتسالئيل سموتريش. ويصف وزير الأمن صرخات الابتهاج بقتل الفلسطينيين بأنها «ردود فعل إنسانية»، ويؤيده وزير الدفاع قائلا انهم ينتمون الى «الجيش الأخلاقي بالعالم». وبينما تمتد وتتسع مستوطنات الكيان الصهيوني باحتقار كلي للقانون الدولي والاتفاقيات الدولية، يفتخر المستوطنون بتسجيل فيديو يحتفلون فيه بقتل الرضيع الفلسطيني علي دوابشة حرقا مع والديه وهم أحياء في قرية دوما بالضفة الغربية.
ماذا عن الحكومات والشعوب العربية؟ معظم الحكومات، ترى في زمن انحطاطها، ان فلسطين باتت عبئا عليها وليس احتلالا يجب التخلص منه. بعد ان كانت فلسطين في فترات التحرر الوطني جزءا لا يتجزأ من هوية الأمة والحق الذي لا يساوم عليه. وما كان عارا يتم التستر عليه وانكاره إذا ما كشف بات شرفا يتسابق الحكام على نيله بذريعة القبول بالأمر الواقع. وتبقى صورة السلطان قابوس، الواقف منكمشا، في قصره، في العاصمة مسقط، مع نتنياهو، رئيس «مستوطنة إسرائيل»، هي النموذج الأقوى للذل الذي انحدر اليه الحاكم العربي. في لحظة تماهى فيها الخنوع بالخوف من ان يترك وحيدا أمام شعبه. ماذا عنا؟ كيف تمكن الحاكم الذي نتفق على انه لا يمثلنا من خلع حتى ملابس الامبراطور أمامنا؟
علينا الاعتراف بان تعاون الحاكم العربي مع القوى الاستعمارية أعمق مما نتصور. وهي علاقة تتجدد فيها آليات محاربة الشعوب حسب الحاجة المرحلية. ويتماشى نجاحها مع قدرة الحاكم على استقطاب شرائح مجتمعية يرتبط بقاؤها ومصالحها به أو، وهو ما نراه بوضوح حاليا، تفتيت كل شعب الى عدة شعوب، وكل منها يعيش في غيتو يتم التحكم بحياة افراده الاقتصادية والأمنية، فلا يستطيع التفكير أبعد من الهم المعيشي اليومي. انها السياسة الاستعمارية القديمة « فرق تسد» بمسميات جديدة.
ان تجدد آليات محاربة الشعوب، بكل المستويات قصفا وقمعا وحصارا، يعني شيئا واحدا. إنها، على الرغم من كل الإمكانيات المادية والعسكرية، لم ولن تنجح. وإن روح مقاومة الشعوب الحية، للمستعمر والمستبد، هي الباقية. وإلا كيف يواصل الشعبان السوداني والجزائري الثورة وهم يرفعون العلم الفلسطيني بجانب اعلامهم؟ ولم تخش أكبر قوة عسكرية بالمنطقة الجنين الفلسطيني وهو الذي لم يولد بعد؟
القدس العربي