النظام الإيراني يدير حرباً في جبهات عدة، دبلوماسية واقتصادية وذرية، أمام سياسة “الحد الأقصى من الضغوط” التي تشنها عليه الإدارة الأمريكية منذ انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي (أيار 2018). مصادر إيرانية اعتبرت سياسة إيران حداً أعلى من المقاومة التي أساسها رفض مستمر لاقتراحات الالتقاء مع الإدارة الأمريكية، وبالتأكيد إجراء لقاء بمستوى عال مع الرئيس ترامب شخصياً، طالما أن العقوبات المفروضة عليها سارية المفعول. الرئيس ترامب الذي يركز على جهود من أجل إعادة إيران إلى طاولة المفاوضات للدفع قدماً باتفاق نووي أفضل، حسب وجهة النظر الأمريكية، قام بإرسال رسائل ومبعوثين إلى طهران مع التوضيح بأنه لا ينوي تأييد تغيير النظام في طهران، بل ومستعد لمساعدة النظام الحالي على الازدهار إذا استجاب لمحادثات تنتهي باتفاق نووي جديد.
في إطار هذه السياسة، حظر على وزير الخارجية الإيراني، محمد ظريف، الالتقاء مع الرئيس ترامب بعد أن أرسلت له دعوة إلى البيت الأبيض من قبل السناتور راند بول. أما الجهود الأخيرة الأهم لبلورة صيغة مقبولة للطرفين فقد تمت من قبل الرئيس الفرنسي ماكرون، أثناء لقاء “جي 7” الذي عقد مؤخراً في فرنسا. دعي ظريف في حينه بشكل مفاجئ إلى فرنسا من أجل الحصول على تحديثات، بمصادقة من الرئيس ترامب نفسه. في أعقاب جهود فرنسا، صادق ترامب على إمكانية إجراء لقاء مع نظيره الإيراني حسن روحاني الذي قال في أعقاب التحديثات التي تلقاها ظريف: “لو كان يعرف أن الذهاب للقاء أو إجراء زيارة شخصية معينة ستساعد على تطوير دولته وستحل مشكلات المواطنين لما فوت ذلك”. وقد أكد أنه يجب على إيران عدم تفويت أي فرصة حتى لو كانت احتمالاتها ضئيلة.
كما هو متوقع، أقوال روحاني أثارت الانتقاد الشديد في المعسكر المحافظ في إيران. عشرات من أعضاء البرلمان وقعوا على عريضة طلبوا فيها الامتناع عن الحوار مع الولايات المتحدة، وصحيفة “كيهان” التي يرأس تحريرها مقرب من الزعيم الروحي الأعلى علي خامنئي، ويعتبر أحد الأشخاص الذين يعبرون عن مواقفهم، هاجم إمكانية استئناف الحوار، وكرر الموقف المؤيد بعدم الثقة بالولايات المتحدة والاستمرار في سياسة الصمود الاقتصادية. من خلال انتقاد فكرة الحوار مع الإدارة الأمريكية برز موقف شخصية مهمة في جهاز الأمن في إيران، سكرتير المجلس الأعلى للأمن القومي، علي شمخاني، الذي كان وزير الدفاع والمسؤول عن تنفيذ المشروع النووي العسكري. في مقابلة نادرة مع “ان.بي.سي نيوز” قال شمخاني: لم يكن هناك مكان للتوقيع على الاتفاق النووي. وهذا كان موقفه أيضاً أثناء بلورة الاتفاق. قد يكون هذا هو موقفه في النقاشات التي تجري في الوقت الحالي في قمة الهرم في إيران. ومقابل الانتقاد الشديد الذي أثارته أقوال الرئيس روحاني، فقد تراجع عن أقواله وسارع إلى التوضيح بأن شرط استئناف المفاوضات مع الولايات المتحدة هو رفع العقوبات. مؤخراً، تشدد في موقفه وقال إن “إيران لن تجري أي محادثات ثنائية في أي يوم مع الولايات المتحدة. وإذا رفعت واشنطن جميع العقوبات، فستكون جزءاً من “بي خمسة زائد واحد”، وهي مجموعة الدول التي بلورت الاتفاق النووي مع إيران. وفي الوقت نفسه، عاد روحاني وأكد بأنه إذا تقدمت إيران بخطوة ثالثة من قضم الاتفاق النووي، التي يتوقع اتخاذها قريباً، إذا تم تنفيذ الشروط، فيمكنها العودة إلى النقطة التي كانت فيها في إطار الاتفاق.
في هذه الأثناء، يستمر الرئيس ماكرون في إجراء المحادثات مع الشركاء الأوروبيين في الاتفاق النووي، بريطانيا وألمانيا، ويبدو أنه يدفع قدماً في أعقاب محادثاته مع الرئيس ترامب باقتراح يتناول تسهيلات معينة لإيران في كل ما يتعلق ببيع النفط و/أو تقديم اعتماد بمبلغ 15 مليار دولار في السنة. يدور الحديث عن مبلغ اعتبره ظريف نفسه ربع المبلغ المطلوب لإيران من أجل نفقاتها الأساسية، في حين أن الباقي تستكمله إيران من خلال التصدير للدول الأخرى. وقال الرئيس ترامب إن إيران يمكنها الحصول على اعتماد قصير المدى أو قرض ما “إذا نضجت الظروف”.
على الصعيد الدبلوماسي، وبهدف إثبات عدم نجاعة العقوبات الشخصية التي فرضتها الولايات المتحدة عليه شخصياً، سافر ظريف في جولة زيارات إلى الدول الإسكندنافية. وبعد ذلك وصل (23 آب) إلى باريس عشية لقاء “جي 7”. وتم الإبلاغ عن قمة ثلاثية بين روسيا وإيران وتركيا، خطط لها قريباً في أنقرة. في إطار جولة زيارات في الشرق الأقصى، زار ظريف اليابان والصين وماليزيا. وفي 2 أيلول خرج ظريف برئاسة وفد لزيارة رسمية في موسكو. وهناك، من المخطط إجراء محادثات موسعة في عدد متنوع من المواضيع وعلى رأسها مستقبل الاتفاق النووي، استمراراً للمحادثات الجارية مع الرئيس الفرنسي.
في خطوة استثنائية، عقد الزعيم الإيراني علي خامنئي، في طهران، لقاء علنياً ومغطى إعلامياً مع بعثة من حوثيي اليمن، وأظهر فيه دعمه لهم من خلال إبراز العلاقة معهم (التي لم تعد إيران تخفيها). تطور مهم آخر سجل أثناء زيارة بعثة الحوثيين هو اللقاء الذي نظمه الإيرانيون مع سفراء فرنسا وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا. هذه الخطوة جسدت فهم الدول الأوروبية لأهمية دمج إيران في التسوية باليمن، وهو يعزز فعليًا مكانتها كجهة تستطيع المساعدة في الحل، وليس اعتبارها المشكلة الرئيسية، مثلما يتم عرضها من قبل الإدارة الأمريكية.
على الصعيد النووي، إيران توضح، كما قلنا، أنها تنوي مواصلة سياسة القضم التدريجي لالتزاماتها في الاتفاق النووي. في هذا الإطار طبقت المرحلتين الأولى والثانية؛ واجتازت حدود الـ 300 كغم من اليورانيوم المخصب بمستوى منخفض المسموح لها حسب الاتفاق، الذي تحتفظ فيها على أرضها، وهي تخصب بما يتجاوز نسبة 3.67 في المئة المسموحة. إيران تنوي الإعلان في 6 أيلول عن خطواتها المقبلة في إطار المرحلة الثالثة، ما اعتبرته هي نفسها عملية متعددة المراحل من قضم الاتفاق، رداً على ما تعتبره إيران انسحاب الدول الموقعة عليه من التزاماتها. رئيس الوكالة الإيرانية للطاقة النووية، علي أكبر صلاحي، أعلن أنه تم تركيب أجهزة طرد مركزية متقدمة من نوع “6 آي.آر” في قاعات جديدة خصصت لهذا الغرض. ومسؤولون في إيران قالوا إنه تم تجميع 33 جهاز طرد مركزي جديداً، لكن في 10 منها فقط جرى ضخ غاز “6 يو. اف”، إن هذه العملية ستمكن الأوروبيين من اعتبار هذه الخطوة في المنطقة الرمادية من الاتفاق؛ أي أنها لم تشكل خرقاً فاضحاً يمكنه أن يجبرها على اتخاذ خطوات مضادة. وأوضح صالحي نية نشر إعلان إيراني في الأشهر القريبة حول مفاعل المياه الثقيلة في آراك. وحسب الاتفاق النووي، فإن إيران أخرجت قلب المفاعل وملأته بالإسمنت. في المقابل، تبين أنها قامت بشراء أنابيب يمكنها استبدالها بالتي كانت ألغت استخدامها. وثمة مصادر في البرلمان الإيراني أشارت إلى خطوات أخرى يمكن لإيران اتخاذها، منها تشغيل أجهزة طرد مركزي أكثر تطوراً (على فرض أن هذا ليس تبجحاً). ولكن الإيرانيين يوضحون مرة تلو الأخرى بأن جميع الخطوات التي يتخذونها قابلة للإلغاء إذا وجدت الدول الأوروبية الشريكة في الاتفاق حلاً يعوض الثمن الذي تدفعه إيران بسبب العقوبات الأمريكية.
على الصعيد الاقتصادي. في محاولة للدفع قدماً بمسارات تتجاوز العقوبات والإثبات للإدارة بأن الضغط الاقتصادي لن يحقق أهدافها، استثمرت إيران مؤخراً جهوداً كبيرة في توسيع علاقاتها الاقتصادية، خاصة مع الدول المجاورة لها. يدور الحديث في معظم الحالات عن إعلان نوايا ما زالت بعيدة عن التطبيق، لكن الاتصالات مع كازاخستان وروسيا في مجال التجارة بالقمع، ومع الباكستان في موضوع التسهيلات البيروقراطية من أجل زيادة التجارة، ومع جورجيا في موضوع خطوط النقل، ومع أفغانستان في مجال الكهرباء، كلها تعكس قراراً إيرانياً متزناً لتوسيع الاحتمالات وتنويع المداخيل خارج مجال النفط.
هذه الخطوات الإيرانية تعكس قراراً مصمماً للنظام كي يواجه في كل الصعد المحتملة سياسة الضغوط الأمريكية. القيادة العليا في إيران تعود وتعلن بأنها لن تأتي إلى المفاوضات تحت الضغط. وحتى إذا استمر النقاش في إيران حول إمكانية استئناف الحوار مع أمريكا فهناك اتفاق شامل بخصوص الحاجة إلى مواصلة الخطوات في مجال الذرة. وهذه تعتبر لطهران ورقة ضغط مهمة على الدول الأوروبية من أجل إيجاد حلول ممكنة لمسألة العقوبات، أو ورقة مساوة مع الإدارة الأمريكية قبيل استئناف محتمل للمفاوضات. وتؤكد القيادة في إيران أن اعتباراتها غير مشروطة بالرئيس الأمريكي المقبل. وقد أوضح ظريف مؤخراً أن بلاده تقدر بأن ترامب سينتخب لولاية أخرى، وهذا يعني أن إيران لا تعتمد في بناء سياستها على قاعدة التقدير بأن رئيساً ديمقراطياً سيغير الاتجاه السياسي الأمريكي الحالي.
باختصار، رغم أن إيران ترى في نهاية المطاف حاجة إلى إجراء مفاوضات لحل الأزمة الحالية، فهي تقدر بأن هذا هو الوقت المناسب: الرئيس الأمريكي معني بلقاء علني، وهذا أمر مهم بشكل خاص له في سنته الانتخابية، أما الدول الأوروبية فمستعدة للذهاب بعيداً من أجل منع تصعيد التوتر في الموضوع النووي وخلق محادثات أمريكية – إيرانية، هذا طالما أن إيران تستطيع احتواء الضغوط الاقتصادية من أجل الدفع قدماً بتحقيق أهدافها المعروضة كشرط لإجراء المفاوضات.
القدس العربي