بعد شهر ونصف على انطلاقة الانتفاضة اللبنانية، تبدو السلطة المستحكمة في لبنان أمام خيار وحيد لإعادة إنتاج السلطة نفسها، هذا الخيار هو الخارج بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، أي القوى الإقليمية والدولية المؤثرة، وليس الشعب اللبناني الذي يمارس فعل فضح السلطة، وتعريتها من خلال إصراره على مطالب الانتفاضة الواضحة والمُعلنة، تشكيل حكومة إنقاذية من المستقلين تمهّد لانتخابات نيابية مبكّرة.
السلطة هنا هي تلك التي تتركّز اليوم في المثلث الذي يقف على رأسه الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، ويمسك بزاويتيه رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النواب نبيه برّي.
لا يعني تغييب رئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري عن هذه السلطة، نفيا لوجوده في السلطة أو تبرئة له منها، إنما للإشارة إلى أنه، كما الزعيم الدرزي وليد جنبلاط والمسيحي سمير جعجع، خارج التقرير في هذه السلطة التي تتركّز في المثلث أعلاه إن لم يكن في رأسه نصرالله وحده.
قوة الانتفاضة تكمن في عوامل شتى، فإلى جانب لبنانيتها وامتدادها الديموغرافي والجغرافي غير المسبوق وطنيا، وحيويتها في ابتداع أشكال متجددة في المواجهة مع السلطة، فإن قوتها أنها تواجه سلطة مكللة بالفشل والفساد والعجز عن الاستجابة لمطالب الشعب، ليس في الإصلاح السياسي والديمقراطي، بل في أدنى من ذلك بكثير أي في مواجهة الأزمة المالية أو الاقتصادية وحتى المعيشية، فنظام المحاصصة أو بتعريف أدق نظام الفساد، هو أساس قوة السلطة وأطرافها، ومصدر القوة هذا هو ما أوصل الدولة اللبنانية إلى المأزق، وأي مواجهة جدية لهذا المأزق تتطلب تفكيك مصادر الفساد ومكافحتها، أي تفكيك منظومة السلطة، وتغيير قواعد اللعبة السياسية، بما يتيح إمكانية خروج لبنان من الأزمة التي يعاني منها على مختلف المستويات.
للمفارقة، أن حزب الله طالما كان يقاتل خصومه في عملية سيطرته على السلطة، باعتبارهم أدوات للخارج، رغم أنه هو نفسه الذراع الإيرانية التي لا لُبْس في ولائها لمن سماه نصرالله “حسين العصر” أي المرشد علي خامنئي، إلا أن المستجد اليوم أن حزب الله الذي يبحث عن منقذ خارجي، يتفادى عملية الإصلاح ووقف الفساد والهدر في الدولة ويستجدي عونا خارجيا، لأنه يدرك أن وقف الفساد والهدر هو نهاية سلطته التي ترتكز على معادلة واضحة قوامها الولاء لحزب الله مقابل إطلاق يد الفساد لمواليه من الحلفاء والشركاء وحمايتهم.
في ردّه على موقف الرئيس سعد الحريري الذي يشترط لأن يكون رئيس حكومة أن لا تضم في مكوّناتها شخصيات سياسية، قال رئيس المجلس السياسي في حزب الله إبراهيم أمين السيد في موقف لافت، إن “واشنطن لا تمانع أن يكون حزب الله مشاركا في الحكومة” في سياق ما يعتبره اتهاما للحريري بأنه هو من يرفض وجود سياسيين. وإن دلّ على شيء فإن هذا الموقف يشير إلى أن الحريري صادق في استجابته لمطلب المحتجين، سواء في استقالته من الحكومة أو في اشتراطه تشكيل حكومة من التكنوقراط. رغم أن الانتفاضة تتمسك بمطلب حكومة من المستقلين ولا تستثني الحريري نفسه من رئاستها أو المشاركة بها.
حزب الله يتمسك بالحريري كرئيس للحكومة المقبلة، لا احتراما لما يمثّله الحريري من تمثيل سياسي، بل لسببين؛ الأول أن حزب الله يعتبر شخص الحريري الأقدر بين الأطراف اللبنانية على مخاطبة الخارج وإقناعه بدعم لبنان ماليا واقتصاديا. والثاني أن تشكيل حكومة أحادية في الشكل والمضمون لا يلبس فيها حزب الله في داخلها قناع الحكومة المتعددة، سيجعله في موقع مباشر أمام اللبنانيين وأمام الخارج، وهذا ما لا يريد أن يفعله ولا يستطيع التنبؤ بتبعاته.
استجداء الخارج هو حقيقة موقف حزب الله اليوم، فهو لا يزال يراهن على أنّ أحدا ما سيأتي إلى لبنان محمّلا بهدايا الدعم المالي والاقتصادي، كما يأتي “بابا نويل” في عيد الميلاد محمّلا بالهدايا للأطفال. ولا يريد الإقرار بأن ثمّة انتفاضة لبنانية حقيقية لن ترضى بأقل من تغيير قواعد السلطة والحكم في لبنان، وأن اللبنانيين باتوا مقتنعين أن العودة إلى ما قبل 17 أكتوبر، لم تعد واردة. وأن الخارج ولاسيما واشنطن وباريس، التي أخذت على عاتقها تنظيم “مؤتمر سيدر” لدعم لبنان، ليس في وارد القبول بتسيير دعم مالي لسلطة فقدت ثقة الشعب، لجهة نزاهتها وجدارتها في إنقاذ البلاد، وبالتالي فإن التغيير لا يمكن أن يكون شكليا كما يحاول حزب الله الإيحاء بقبوله بتغيير عنوانه أوبالإتيان بحكومة تكنو- سياسية، هي بالفعل إعادة إنتاج للحكومة الحالية، أي لنفس قواعد اللعبة السياسية التي قامت الانتفاضة من أجل إلغائها وتقويضها.
كل ذلك يعكس الإرباك الذي وصلت إليه السلطة، والعجز عن مواكبة التغيير الذي عبّرت عنه الانتفاضة في الإصرار الشعبي على الخروج من دوامة الأزمة التي تمثّلها السلطة نفسها، وهو ما تُرجمَ في التباين الذي فرضه نظام المصالح بين حزب الله ورئيس الجمهورية. فالرئيس عون بات قلقا من أن إصرار حزب الله على ترئيس الحريري ينطوي على مخاطر إضعافه، لاسيما أن الأخير يتمسك باستبعاد صهر الرئيس ووريثه الوزير جبران باسيل، لذا بات المقرّبون منه يتحدثون بوضوح عن ضرورة تشكيل حكومة من دون الحريري، وما يزيد من هذا التباين أن رئيس الجمهورية وفريقه هما من أكثر الخاسرين، وحال الانتظار هذه تزيد من استنزافهما مسيحيا، وتظهرهما في موقع التابعين لحزب الله. في المقابل فإن حزب الله الذي يتمسك بعلاقته وبتحالفه مع رئيس الجمهورية، لما يوفرانه من غطاء مسيحي له ولو أنه تراجع وضعف، يدرك أن الرئيس وصهره لا يستطيعان أن يقدّما له أيّ خدمة خارجية بعدما استهلك كل طاقة الولاء لديهما، وباتا في المشهد اللبناني والدولي ملكيّين أكثر من الملك، لذا فإن من يريدهم حزب الله اليوم هم من يمكن أن يستمع لهم المجتمع الدولي.
ما تقدّم هو الإرباك، لأنه ينطلق من رهان لدى حزب الله أن المعادلات الخارجية والتفاهمات الإقليمية والدولية، كفيلة بأن تعيد الاستقرار للسلطة بين يديه، من دون وعي حقيقة باتت جلية أن لبنان دخل مرحلة جديدة على كل المستويات، وأن الرهان على الخارج لإنقاذه من أزماته لم يعد مجديا، بل إن التغيير أصبح قدرا وليس ترفا؛ التغيير في قواعد اللعبة التي يديرها حزب الله والانتقال إلى قواعد جديدة، يرتكزان بجوهرهما إلى أن دولة القانون والعدل هي الأساس وليست الدويلة.
العرب