ظهر منذ سنوات حديث عن رسم خارطة عراقية جديدة تتضمن إقليما سنيّا عربيّا واضح المعالم والحدود. لكن، خفّ صدى ذلك الحديث، واختفى، ليعود إلى الظهور بين الفينة والأخرى وفق ما تقتضيه المرحلة. ومؤخرا صعدت هذه الدعوة إلى السطح لتزيد من الضجيج القادم من الساحة العراقية، لترفع من حرارة المشهد الذي يمرّ بمرحلة حاسمة تسطرها عملية الشدّ والجذب بين المتظاهرين والسلطة العراقية، وإيران.
فلليوم التاسع على التوالي، يتواصل الجدل في العراق بشأن صحة ما تناقلته وسائل إعلام محلية، فضلاً عن ناشطين على مواقع التواصل، وعدد من السياسيين، عن اجتماع عقد الأسبوع الماضي في مدينة دبي الإماراتية، وجمع عدداً من السياسيين العراقيين، بينهم رئيس البرلمان محمد الحلبوسي ونواب برلمان وقادة كتل سياسية، وصفوا بأنهم ممثلون عن “العرب السنة”، وأعيد خلاله طرح ما يعرف بمشروع “الإقليم السني”، الذي يضم محافظات شمال وغربي البلاد، تحت البند الخامس من الدستور العراقي الجديد، الذي يتيح للمحافظة أو عدة محافظات المطالبة بإقليم إداري ضمن نظام العراق الاتحادي الفيدرالي، على غرار إقليم كردستان الحالي.
ورغم أن المشروع بشكله الطائفي الحالي لم يختلف عن طرح سابق ذي بعد طائفي أيضاً تبنته قوى سياسية عراقية مختلفة عام 2013، في ذروة الانتهاكات التي ارتكبت بمدن شمال وغرب العراق من قبل حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، إلا أن طرحه اليوم، ومع ارتفاع مستوى الخطاب الوطني من خلال انتفاضة العراقيين، التي تلاشت معها الطروحات الطائفية والمناطقية، يعتبره مسؤولون عراقيون وسياسيون بأنه “متعمد وعن قصد من أطراف محددة لها مصلحة بإشعال الجدل وإعادة الحس الطائفي داخل العراق بشكل مقزز”.
تاريخيًا، كان اتحاد القوى السنية من أكثر الداعين إلى قيام “إقليم عربي سنّي” تزامنا مع دعوة إقليم كردستان إلى الاستفتاء على الاستقلال عن العراق عام 2016. وقرّر هذا التجمّع السياسي السنّي برئاسة أسامة النجيفي تشكيل مجلس قيادي لـ6 محافظات سنية وتنسيق المواقف بشأن الإقليم السنّي، وسط مباركات من بعض السياسيين السنّة للاستفتاء الكردي حيث وصفه البرلماني السابق ناجح الميزان بأنه “ضرورة استغلال الحدث والخروج من عباءة حكومة بغداد”، معتبرا أن الحكومة الاتحادية التي تتحدث باسم السنّة تمثّل إرادة ولاية الفقيه وكردستان تمثّل إرادة شعب.
وكانت القوى السنية تعتقد أنها أمام فرصة لإرغام حكومة حيدر العبادي على قبول مشروع “إقليم سني” يحقّق استقلالا ذاتيا لمحافظاتهم ولتخفيف تذمّر أهالي المحافظات من ممارسات الحكومة ومجموعات الحشد الشعبي. وعكست تلك الخطوة حينها تعويلا متناميا في الأوساط السُنيّة على آمالها بتطور الخلاف الشيعي الكردي لإيجاد صيغة “اتحادية جديدة” تحكم معادلة السلطة، ويكون السنّة فيها أحد اللاعبين الثلاثة الكبار، لكن تلك الآمال فشلت بفشل مشروع الاستفتاء.
ويربط خبراء بين توقيت الحديث عن “الإقليم السنّي” وما يجري في العراق، خاصة على مستوى الاحتجاجات. ويعتبرون أن محاولة تجييش السنّة في مثل هذا الوقت، ليست سوى ورقة أخرى يلعبها المسؤولون في العراق من أجل التأثير في الاحتجاجات، وتوجيه دفّتها نحو قضايا أخرى بعيدا عن التركيز على الحكومة والمسؤولين وإيران وأنصارها.
وهنا، لا يختلف هذا الطرح “السنّي”، عند البعض من المتابعين، عن محاولة أخرى تستهدف إضعاف صفّ المحتجّين، قادها رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، وإن اتخذت طريقا مختلفا، وذلك من خلال دعوته إلى تظاهرة مليونية الجمعة الفائت ضد التواجد الأميركي في العراق.
ويقضي المشروع بضمّ محافظات شمال وغربي البلاد، تحت البند الخامس من الدستور العراقي الجديد، الذي يتيح للمحافظة أو عدة محافظات المطالبة بإقليم إداري ضمن نظام العراق الاتحادي الفيدرالي، على غرار إقليم كردستان.
ورأت جبهة الإنقاذ التي يتزعمها السياسي السني أسامة النجيفي، في قرار مجلس النواب العراقي إخراج القوات الأميركية من العراق استهدافا لوحدة البلاد، ما يؤكد الإشارات القديمة إلى أن السنة في العراق يرهنون مستقبلهم السياسي بالوجود الأميركي في بلادهم.
وقالت الجبهة التي تشكلت قبل أشهر، إن “ما جرى في جلسة مجلس النواب حول إخراج القوات الأجنبية، يمثل نهجا جديدا قوامه ضرب اللحمة الوطنية، ومحاولة الانفراد باتخاذ قرارات تؤثر على الشعب كله”، مشيرة إلى أن “هذا النهج الخطير سيترك عواقب وخيمة. منها تفتيت البلد لصالح أجندات لا تمثل إرادة الشعب”، فيما دعت “العقلاء إلى تدارك ذلك حفاظا على الوحدة الوطنية التي تعرضت إلى تهديد جدي”.
وترى الجبهة أن “الحراك الشعبي وتضحيات شباب التظاهرات التي انطلقت في الأول من تشرين الأول/ أكتوبر وما زالت في تصاعد برغم مئات الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى، كل ذلك ينسجم تماما مع موجبات تشكيل جبهة الإنقاذ والتنمية، وخارطة الحل التي قدمتها في وقت مبكر حول استقالة الحكومة وإنجاز قانون الانتخابات، وتشكيل مفوضية انتخابات جديدة، ثم حكومة انتقالية لا تشارك في الانتخابات المقبلة، ومهمتها محددة في إنجاز القوانين المطلوبة وإحالة المسؤولين عن عمليات القتل التي استهدفت المتظاهرين إلى القضاء، ثم الاعداد لانتخابات مبكرة في ظل إشراف ومشاركة المجتمع الدولي بعد حل البرلمان”.
وترى الجبهة أن “المطالبات المتكررة بإقامة الأقاليم، حق دستوري وقانوني، أما ما يشاع حول الدعوة إلى تشكيل إقليم سني، فإن الجبهة تؤكد أنها لم تطرح هذا الأمر على الإطلاق، لأنه يصطدم بقناعتها حول عدم التعارض مع الدستور، برغم ذلك ترى الجبهة أن المطالبة بتشكيل الأقاليم في الوقت الراهن ليست مناسبة، ولا تتوفر الآليات التي يمكن أن تسهل إقامته في ظل هذه الظروف”، داعية إلى “إبعاد العراق والنأي به عن أي صراع إقليمي أو دولي، وبخاصة الصراع الأميركي الإيراني”.
ورغم نفي رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي وجود أي تحرك من هذا القبيل، مبينا، في تصريحات لمحطة تلفزيون محلية عراقية، بأنه “لا وجود لأي طرح يتعلق بتشكيل أقاليم”، مضيفا بالقول “كنا ولا زلنا وسنبقى نؤمن ونعمل على وحدة العراق أرضا وشعبا”، إلا أن السياسي العراقي من محافظة صلاح الدين ناجح الميزان قال، لـ”العربي الجديد”، إن “قضية إنشاء أقاليم طرحت في الحقيقة، لكن ليس إنشاء الإقليم السني، كما روج البعض، بل هناك فكرة بأن تكون كل محافظة من محافظات شمال وغرب العراق هي إقليم، أي تكون نينوى إقليما والأنبار إقليما، وصلاح الدين إقليما، وهكذا، وليس كل المحافظات في إقليم واحد وتحت عنوان طائفي”.
وأكد الميزان: ” عملنا على هذا المشروع في السنوات السابقة، إذ تم جميع تواقيع لأعضاء مجالس المحافظات في صلاح الدين ونينوى وحتى ديالى، وسلمت إلى مفوضية الانتخابات لإكمال الإجراءات القانونية، لكن احتلال داعش أوقف هذا المشروع”.
واعتبر أن “قضية تحويل محافظات إلى أقاليم لا يعني تقسيم العراق، بل هو عمل تنظيمي إداري، وهذا الأمر منصوص عليه في الدستور، وقد عاد من جديد إلى الواجهة بهذا التوقيت، بعد اتخاذ قرارات مهمة من قبل قوى سياسية من مكون واحد، تخص إنهاء الوجود الأجنبي في العراق، دون أخذ رأي المكون السني، وحتى الكردي”.
وختم بالقول: “وجود القوات الأجنبية في العراق مهم جداً، خصوصاً من أجل حفظ التوازن، ومنع تحويل العراق إلى محافظة إيرانية، كما أن وجودها ضرورة في محاربة ما تبقى من تنظيم داعش”، وفقاً لقوله.
ويرى المتابعون للشأن العراقي إن موضوع الإقليم السني أثير أول مرة مع تصويت مجلس النواب العراقي عبر أعضائه من العرب الشيعة وغياب كردي سني على إخراج القوات الأميركية من العراق، وأن “مسؤولين أميركيين بدأوا التلميح خلال اتصالاتهم واجتماعاتهم مع العراقيين أخيرا إلى أن القواعد الأميركية موجودة في مناطق سنية، شمال وغرب العراق، ثم انتقلوا إلى كون قرار مجلس النواب العراقي ليس بإجماع عراقي مكوناتي كامل، وغير شرعي، ثم اتجهوا بشكل يعيد كواليس عام 2003 و2004 إلى التعامل الفردي في العراق على أساس المكونات مرة أخرى، ويعقدون اجتماعات مع مسؤولين وسياسيين عراقيين على أساس تمثيلهم الطائفي لا تمثيلهم الرسمي أو الحزبي”.
ويرى المراقبون أيضًا أن بعض الشخصيات السياسية العربية السنية بدأت تلوح بأن خيار الذهاب إلى الإقليم هو المتاح في حال كان البديل عن الأميركيين هو إيران، التي ستتسبب بعزلة العراق عن محيطه أكثر”، معتبرين أن “جهات عدة مرتبطة بإيران لها مصلحة أيضا في إعادة العزف على الوتر الطائفي، خاصة مع انحسار شعبيتها في الجنوب إلى أدنى مستوى له منذ الاحتلال الأميركي للبلاد”.
وأقروا أن طرح إقليم سني في هذه الأثناء، فضلاً عن كونه مشروعاً طائفياً، فهو “غير واقعي، ليس من جهة أنها مدن أطلال ومدمرة وثلث أهلها نازحون، لكن أيضاً لأن الفاعل الإقليمي والمحلي وحتى الدولي غير مهيأ لذلك، مع وجود جوار سوري مرتبك، وجدل تركي حول منطقة آمنة على حدوده، فضلا عن ضعف الدولة المركزية”. ويروا بأن يتحوّل هذا الإدراك إلى إرادة تتجسد فكريا وعمليا بعدم التصادم مع الواقع الدولي أولا. وثانيا بربط الهوية بالأرض وليس بأي عامل فكري أو قومي أو ديني عابر للحدود، والقبول بالنموذج الفيدرالي العلماني والتعاطي مع الدستور وفق النموذج الكردي”.
وذهب عمر النداوي، محلل الشؤون العراقية بمعهد واشنطن، إلى أكثر من ذلك في بحثه المعنون “حالة النزاع السنّي في العراق”، مشيرا إلى أن العرب السنّة يفتقدون إلى المرجعية الدينية والسياسية ويتميّزون بتعدد الرعاة الإقليميين بعكس الشيعة.
ويلفت إلى أن الفرص تتقلص أمام القيادات السنية العربية المجزأة لتقديم رؤية موحدة عن دورها وأهدافها المستقبلية في العراق، وإنه آن الأوان لإيلاء الأولوية للمسائل المتعلقة بالحكم والتسوية السياسية لفترة ما بعد تنظيم داعش. ويضيف النداوي. أن التاريخ يشهد أن السنّة العرب يفتقرون إلى مرجعية دينية مركزية تتمكّن من الاضطلاع بالدور عينه الذي تؤديه مرجعية النجف في صفوف الشيعة.
ويقول مراقبون. إن الحكم على مدى جدية مشروع الإقليم القديم الجديد في العراق، يتوقف على الموقف الأميركي، ومدى استعداد الولايات المتحدة للتعامل مع تطور بهذا الحجم، لاسيما في ظل احتمالات تراجع حدة التأثيرات الإيرانية في المنطقة على خلفية مقتل سليماني.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية