إعلان الزعيم الشيعي مقتدى الصدر المقاومة المسلحة ضد الوجود الأميركي في العراق من مقرّه بمدينة قم الإيرانية أثار تساؤلات عموم العراقيين واستغرابهم لارتباط هذه الدعوة بمقتل قاسم سليماني وأبومهدي المهندس من قبل الأميركان، ولخروج هذا الإعلان الغامض من مدينة إيرانية وليس من بغداد يجعله يخدم أغراضاً سياسية مباشرة تخدم النشاطات التعبوية الإيرانية، قبل أن تكون دعوة مبدئية جدّية لعب على وترها مقتدى الصدر منذ الأيام الأولى للاحتلال الأميركي للعراق.
دوافع الشكوك والتساؤلات تأتي لترابط إعلان المقاومة المسلحة مع ما أطلق عليه الصدر “مليونية” التظاهر الجمعة المقبل، في الوقت الذي أصبح عمر الانتفاضة الشعبية العراقية قرابة الأربعة أشهر، والأكثر غرابة مشاركة الفصائل المسلحة الموالية لإيران في هاتين الفعاليتين. فيما أصبح موثقاً الآن دور العصابات المسلحة لتلك الميليشيات في قتل الشباب العراقي حسب شهادات منظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية. ولهذا رفض المعتصمون تلك الدعوة من الصدر وأحاطوها بموجة من الشكوك كونها تسعى إلى التشويش على الانتفاضة الشعبية حسب بيانهم.
هذه الخطوة الصدرية ترتبط بظروف سياسية حساسة، حيث تواجه الفصائل المسلحة في العراق أوضاعاً معقدة على المستويات البنيوية والتعبوية بعد غياب الموجه والمرشد الاستراتيجي والميداني سليماني ومساعده المهندس، ما أثار كثيراً من التكهنات والسيناريوهات الخاصة بزعامة وإدارة فعاليات الفصائل العراقية المسلحة الموالية لطهران، حيث راج قبل أيام خبر احتمال ملء الفراغ من قبل زعيم حزب الله اللبناني، حسن نصرالله، في وقت عصيب يمر به هذا الحزب بعد الموجة الجديدة من العقوبات الأميركية والبريطانية، حيث سيصبح التعامل مع هذا الحزب من قبيل المحرّمات.
وجد مقتدى الصدر فرصته بضرورة ملء هذا الفراغ باستعادة لصفحاته القديمة في المقاومة، خصوصاً أن زعماء الفصائل ممّن هم حوله الآن كانوا ضمن جيشه المهدي في الأيام الأولى من الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003. لكن موقفه يثير الكثير من علامات الاستفهام حول مدى جدّية الشعارات المرفوعة من قبله في مقاومة فساد نظام الحكم ومساندة المنتفضين بما يفسّره كثيرون أنه التفاف حول انتفاضتهم التاريخية، خصوصاً في دعواتها المستمرة للخلاص من الهيمنة الإيرانية على العراق ما يجعل زعامته أمام امتحان حقيقي.
على المستوى الشخصي المذهبي ليس مستغربا تواجد مقتدى الصدر في قم، فهو يواصل دراسته للفقه الشيعي على يد أستاذه الإيراني جعفر السبحاني، وهو من المدافعين عن نظرية ولاية الفقيه، التي لا يؤيدها الصدر على خطى والده. لكن ذلك يؤشر لعلاقة الصدر الملتبسة بإيران، فلماذا يذهب إلى قم ومدينته النجف هي مركز التشيّع وتحتضن كبار العلماء مثل علي السيستاني وغيره من المراجع حيث كان الإيرانيون يتلقون دراستهم في النجف كالخميني نفسه؟
الأسباب التي وفرت لمقتدى هذه المكانة السياسية هي أن الاحتلال الأميركي هو الذي جاء بقادة ورموز الإسلام السياسي إلى الحكم، ولو لم يكن كذلك وجيء بسياسيين مدنيين لتغيّرت الأحوال. ولأن والده الراحل، محمد صادق الصدر، كانت لديه مكانة مهمة بين المراجع العراقية، فقد أصبحت لوريثه الشاب هذه الخصوصية التي أراد ملأها من خلال دراسته الدينية. ومنذ أيام الاحتلال الأولى عام 2003 قدم نفسه قائداً لمقاومة الاحتلال الأميركي رغم أن المرجع علي السيستاني اختار الحل السياسي مع الأميركان.
لم يكن مقتدى الصدر وأنصاره الوحيدين الذين قاوموا الاحتلال الأميركي، بل قاومهم العرب السنة بضراوة وقدموا أعداداً كبيرة من الشهداء وتعرضت مدنهم للتدمير وأهينت نساؤهم وشّرد أطفالهم خصوصاً في الأنبار ومدينة الفلوجة التي سجلت مواقف قتالية يذكرها الأميركان وأصبحت عنواناً للكثير من أفلامهم التاريخية حول المقاومة العراقية، لكن ما حصل في ما بعد أن تحول المقاومون السنة إلى “إرهابيين” وطُوردوا واعتقلوا وما زال الكثير منهم في السجون، فيما حصل على الجاه والسلطة الشيعة الذين قادهم مقتدى الصدر وجيشه “المهدي” الذي ارتبط اسمه بمعظم الانتهاكات ضد حقوق الإنسان والتي دائماً ما يتبرأ منها ويصف مجموعاته بالوقحة. وقسم من هؤلاء تحوّلوا بعد انشقاقهم إلى قادة فصائل أصبحت حالياً تطلق على نفسها قيادة المقاومة “الإسلامية” التي تتجمع تحت قيادته لمقاومة الوجود الأميركي في العراق بعد أن اجتمع بهم في مدينة قم الإيرانية إلى جانب اجتماعه بهادي العامري لبحث مسألة رئيس الوزراء البديل بعد استقالة عادل عبدالمهدي.
يتساءل العراقيون، بحسن نيّة، حول دعوة مقتدى الصدر هذه: لماذا تم ربط المقاومة المسلحة ضد الوجود الأميركي في العراق بمقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني؟ وإذا كانت لطهران مشكلة مع الأميركان فلماذا يتم جعل العراق ساحة للصراع المسلح ويصبح أهله وقودا وحطبا لتلك الحرب التي تدعي إيران أنها لا تريدها، بل صرح قادتها رسمياً بأنهم لا يدعون إلى طرد القوات الأميركية من العراق؟ ثم إن دعوة محاربة الأميركان لا تحمل مبررات موضوعية وتاريخية وسياسية، ذلك أن الاحتلال الأميركي قد انتهى عام 2011 بعد توقيع الاتفاقية الأميركية – العراقية في عهد الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما.
وطُلبت نجدة الجيش الأميركي رسمياً من قبل رئيس الوزراء الأسبق، رئيس حزب الدعوة الإسلامي نوري المالكي، بعد اجتياح تنظيم داعش للعراق عام 2014 وفق اتفاقية ثنائية رسمية، فإذا ما وجدت الحكومة العراقية عدم حاجتها لمساعدة التحالف الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة فإن الأميركان لن يتشبّثوا بالبقاء، لكن على الجانب العراقي تحمّل التبعات الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي تشير إلى أخطار تهدد الوضع العراقي، والقضية ليست مجرد تعبير عن ولاء لطهران المأزومة. فعن أية مقاومة إسلامية يتحدث الصدر ورفاقه الجدد القدماء والذين كانوا يتهمونه بقربه من “المحور الأميركي”، وهي تهمة تصاعدت بعد زيارته إلى الرياض ولقائه بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان.
الظرف العراقي الحالي لا يتحمل اللعب بالشعارات لأن الانتفاضة الشعبية حسمت هذا الأمر بصمودها في وجه القتلة وإعلانها رفض الوجود الإيراني في العراق، إلى جانب مطالب التغيير السياسي. والطريق الوحيد أمام الصدر هو حسم خياراته النهائية؛ إما أن يكون مع الوجود الإيراني أو مع شباب الانتفاضة، وهو الامتحان النهائي للصدر.
العرب