على أوروبا لوم نفسها لتراجع تأثيرها في الأزمات المتداخلة في جوارها. ويشهد هذا الجوار المباشر، انطلاقاً من سوريا وصولاً إلى ليبيا، تحوّلاً ستشكّل نتائجه النظام السياسي الإقليمي والداخلي لهذا الجوار للأجيال المقبلة، وكذلك النظام الأوروبي على حدّ سواءً.
وعلى الرغم من ذلك، يبدو الاتّحاد الأوروبي غافلاً عن أهميّة هذا التحوّل. وحتّى عندما يحاول الاتّحاد أو قوى أوروبيّة كبرى وضع سياسة معيّنة، عادةً ما تكون سياسةً قصيرة النظر ومبنيّة على افتراضات خاطئة. ولسنوات خلَت، ظلّت أوجه القصور هذه التي تشوب السياسة الأوروبيّة واضحة أيّما وضوح، انطلاقاً من سوريا وصولاً إلى ليبيا.
بادئ ذي بدء، إنّ تشخيص أوروبا للأزمة (أو لمجموعة من الأزمات) خاطئ. فهي تختزل أساساً أزمات جوارها في أزمات مرتبطة بالإرهاب واللاجئين. بعبارةٍ أخرى، مضت أوروبا قدماً في انتهاج سياسة مكافحة الإرهاب ومكافحة اللاجئين، وليس سياسة ليبيا أو سوريا لتحقيق أهداف مستدامة وطويلة الأمد في هذَين البلدَين. وفي كلتا الحالتَين، شغلت أوروبا المقعد الخلفي عوضاً عن المقعد القيادي، وأنفقت معظم طاقتها على التجاوب مع استراتيجيّات قوى أخرى. وقد فشلت في بلورة رؤية سياسيّة عمليّة تخصّها، ترمي إلى التعامل مع هذه الصراعات.
تجدر الإشارة إلى أنّ عدّة مفاهيم، كالشرعيّة السياسيّة والحكم الرشيد وإلى حدّ أقلّ التغيير الديمقراطي وحقوق الإنسان، أشرفت على التبخّر من المعجم الأوروبي. ويُستعاض عنها بسعي فارغ وغامض إلى الاستقرار، الأمر الذي يُترجم أصلاً في تغاضي أوروبا عن السلطويّة الكاملة في جوارها. وهذا الموضوع على وجه التحديد مغلوطٌ، نظراً إلى أنّ الانتفاضات العربيّة في العام 2011 قوّضت إمكانيّة بقاء نموذج السلطوية-الاستقرار، وعودة الاحتجاجات في الجزائر والسودان والعراق ولبنان وغيرها من البلدان التي تقوم بذلك مجدّداً. وما يزيد من الطابع المأساوي اعتبار الأوروبيّين أنّه من الأسهل التوقيع على اتّفاقات مشكوك فيها أخلاقيّاً متعلّقة باللاجئين وإغداق الأموال عليها، بهدف الحيلولة دون توجّه الناس إلى أوروبا، عوضاً عن وضع سياسة جوار متماسكة وطويلة الأمد.
وهذا الأمر يجعل من أوروبا أشبه بالمتفرّج أمام التحوّل الذي يشهده جوارها. وفي الحقيقة أنّ الصورة التي انبثقت عن موسكو الاثنَين المنصرم، والتي حاولت فيها روسيا وتركيا الوصول إلى اتّفاق وقف إطلاق النار في ليبيا، جسّدت الدور المتنامي الذي تضطلع به كلتا الدولتَين في تشكيل جوار أوروبا. وجسّدت الصورة أيضاً العجز المتزايد لهذه القارّة، إن لم يكن عدم جدواها، حينما يتعلّق الأمر بأزمات الشرق الأوسط المتفاقمة.
فالنشاط الدبلوماسي الأوروبي الناجم عن ذلك والذي قادته ألمانيا، بصرف النظر عن الانقسامات الفرنسيّة-الإيطاليّة حول دعم المشير خليفة حفتر، نتجَ عن ردّ فعل على المبادرات التركيّة-الروسيّة. لكنّ اتّخاذ موقف تفاعلي أو عديم الجدوى هو موقف سياسي لا تستطيع أوروبا تحمّله.
وكلّ ما يحدث على الشواطئ الجنوبيّة للبحر الأبيض المتوسّط سيؤثّر في السياسة على الشواطئ الشماليّة للمتوسّط. ففي جميع الأحوال، يرتبط الشرق الأوسط بأوروبا ارتباطاً وثيقاً. وإذا لم تستثمر أوروبا في تحوّل الشرق الأوسط، ستترك أحداث المنطقة بصمات في المشهد العام لأوروبا وفي سياستها. وبالنظر إلى أنّ اللاجئين والتطرّف، كلاهما نتاج انهيار الأنظمة السياسية الداخلية في الشرق الأوسط، قد أسهما مباشرةً في زيادة الشعبويّة والتطرّف السياسي في أوروبا، هذا ما يحدث فعلاً.
والأزمة الليبيّة بالتحديد تقدّم مثالاً حيّاً عن المشكلة في سياسة أوروبا تجاه جوارها. وستكون عمليّة برلين المرتقبة ومؤتمرها الذي سيُعقد في 19 يناير اختباراً حاسماً سيكشف عن إمكانيّة ارتقاء الغرب عموماً، وأوروبا خصوصاً، إلى مستوى المهمّة في ليبيا.
لا يمكن لأوروبا أن تتجاهل تركيا وروسيا، نظراً إلى دورهما الحاسم في الأزمة الليبيّة. فمصالح تركيا الاقتصاديّة والماليّة، وتنافسها على القوّة مع خصوم إقليميّين آخرين كمصر والإمارات، بالإضافة إلى سعيها وراء الخروج من عزلتها في منطقة شرقي المتوسّط، كلها تحفّز استراتيجيّة تركيا الاستباقيّة تجاه ليبيا. والأمر سيّان بالنسبة إلى روسيا، إذ أنّ مصالح الطاقة والمال، والسعي إلى توسيع دورها الإقليمي والدولي، بالإضافة إلى تنامي وجودها في منطقة شرقي المتوسّط، كلّها عناصر أساسيّة في استراتيجيّة روسيا.
بيد أنّ إجراء عمليّة أستانا جديدة، بالتعويل على المنطق عينه الذي أثّر في مسار الوضع المعقّد في سوريا، فكرةٌ سيّئة لليبيا. فعمليّة أستانا، وكذلك عمليّة سوشي التي صمّمتها روسيا، أعادتا هيكلة الحرب الأهليّة في سوريا بطريقةٍ أفادت النظام وأفلست المعارضة. وحسبما اتضّح من الأزمة الإنسانيّة المستمرّة في إدلب، لم تقدّم ترتيبات خفض التصعيد المتّفق عليها في خلال هذه العمليّة شيئاً يُذكر لتخفيض تصعيد الصراع فعليّاً. عوضاً عن ذلك، اضطلعت هذه الترتيبات بدور عامل هدوء مؤقّت في الصراع قبل إفساح المجال لعودة التصعيد حتّى تنحّت المعارضة. بالتالي، أسهمت هاتان العمليّتان في تيسير انتصار النظام في سوريا، فيما نزعت العمليّتان عينهما شرعيّة المعارضة وحوّلتها بشكل فعّال إلى مجموعة مقاتلين بالوكالة.
وينبغي بأوروبا إذاً أن تتأكّد من عدم إمكانيّة قيام روسيا بالعمل عينه في ليبيا باسم حفتر. ومن المهمّ تذكّر درسَين أساسيَّين أثّرا في طبيعة التدخّل العسكري الروسي في سوريا: التدخّل العسكري الغربي في ليبيا في العام 2011 أوّلاً، والمأزق الذي تمخّض عن الغزو السوفياتي لأفغانستان ثانياً. وترى روسيا أنّ الغرب خدعها في ليبيا، موجّهةً إليه أصابع الاتّهام في سوء استخدام القرار 1973 لمجلس الأمن للإطاحة بالنظام. ومن ثمّ، قرّرت روسيا عدم السماح بإحداث سيناريو مشابه لتغيير النظام في سوريا. ولكن لا ينبغي أن تدفع ليبيا ثمن انتقام روسيا من الغرب.
وتتمتّع موسكو وأنقرة بنفوذٍ محدودٍ نسبيّاً في ليبيا، مقارنةً بالوضع في سوريا، كما اتّضح عندما ازدرى حفتر الروس وغادر موسكو بدون التوقيع على اتّفاق وقف إطلاق النار. فللمسرح اللّيبي عدّة لاعبين إقليميّين ودوليّين نافذين، يملك الكثير منهم السبيل والقدرة على تقويض جهود الآخرين. بالتالي، لكي تكون أي مبادرة مستدامةً، لا بدّ من أن تنطوي على لاعبين أساسيّين، بما فيهم البلدان الشديدة التأثّر بالتطوّرات الحاصلة في ليبيا. وفي هذا الصدد، كانت دعوة الجزائر إلى حضور مؤتمر برلين عبارة عن تطوّر إيجابي. أمّا عدم دعوة تونس، البلد المجاور المتأثّر بالعوامل الخارجيّة السلبيّة التي نجمت عن الوضع الليبي المستعصي، فهو وجه قصور.
وعلى المنوال عينه، لا ينبغي بعمليّة موسكو ولا بعمليّة برلين أن ترميا حصراً إلى تجميد الصراع بشكله الحالي. وللتوضيح، لا ينبغي بتجميد الصراع، وهو الخطوة الضروريّة الأولى لتسهيل العمليّة السياسيّة، أن يمهّد الطريق لإضفاء الشرعيّة على الوضع الراهن. عوضاً عن ذلك، وكجزءٍ من العمليّة السياسيّة، يجب أن يكمن الهدف في سحب القوّات إلى جبهات قتال ما قبل أبريل، عندما شنّ حفتر حملة دمويّة للاستيلاء على طرابلس من الحكومة التي تعترف بها الأمم المتّحدة. وعدم القيام بذلك قد يرسل رسالة واضحة إلى كلّ أمراء الحرب وقادة الميليشيات، مفادها أنّهم من الأفضل خلق “وقائع على الأرض” قد تتخّذ لاحقاً صفة الشرعيّة عن طريق العمليّات الدوليّة. وفي حال تحقّق ذلك بفعاليّة، ستتمتّع الجهات الفاعلة الدوليّة بالنفوذ اللازم على الأطراف المتنازعة في ليبيا لإرغامها على تقديم حلول توفيقيّة وتنازلات كبيرة. وفي هذا السياق، يجدر بعمليّة برلين أن تصرّ على تعهّد المشاركين بسحب فِرق المرتزقة التابعة لهم من ليبيا، هذه الفِرق التي أجّجت الصراعات حتّى الآن إلى حدٍّ كبير. عموماً، يتعيّن على أوروبا تحسين عملها على تحقيق التوازن ما بين مصالحها وقيمها في ليبيا. فهي حتّى الآن تخسر على كلا الصعيدَين.
معهد بروكنجز