خلافاً للسنوات السابقة، فإن تقدير “أمان” (الاستخبارات العسكرية) للعام 2020، الذي عُرض الأسبوع الماضي، كان حدثاً إعلامياً بارزاً. عناوين الصحف والنشرات الإخبارية تسابقت لتسأل ما إذا سيكون لإيران قنبلة نووية في نهاية السنة المقبلة أم بعد سنتين؟ أوصى مراسلو الشؤون العسكرية للجمهور تقدير قسم الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي بمفاهيم اعتادوا على سماعها. وللحظة ، بدا أن التصريحات اليومية لرئيس الحكومة نتنياهو بأن “إيران تسارع نحو إنتاج القنبلة” تحظى بمصادقة الجهاز، لكنها في الحقيقة ليست كذلك. من المؤسف أن “أمان” المقدرة الوطنية للوضع لا تنشر مثل نظيرتها في أمريكا، رواية مرتبة أو سرية لتقرير الاستخبارات السنوي الذي تقدمه للمسؤولين. ودون أي خيار، سنضطر إلى الاكتفاء بالتسريبات والتوجيهات المنتقاة التي تتناول أحياناً مواضيع تقنية معقدة مثل نسبة تخصيب اليورانيوم التي تميل إلى عدم الدقة. في هذا المقال سنحلل تقديرات “أمان” حول المشروع النووي الإيراني، في محاولة لفصل الأمور الحقيقية عن الأصوات الخلفية الصاخبة.
المعطيات حول الكمية –التقنية هي التي برزت في تقارير وسائل الإعلام حول تقديرات “أمان”. وقد ورد بأن لدى إيران الآن 850 كغم يورانيوم مخصب بمستوى مدني منخفض (4 في المئة)، وأنه من المحتمل أن تبلغ حتى نهاية السنة 1300 كغم. وهي كمية كافية لإنتاج قنبلة نووية أولى. ويبدو أن هناك معطيات رقمية تشير إلى قنبلة إيرانية في المدى القصير، لكن هذه الأرقام، عملياً، لا تتحدث بذاتها، وهي بحاجة إلى التفسير والتوضيح.
في مقال سابق، قلت إن خطاب التحذير حول “اختراقة سريعة” نحو القنبلة الأولى يستند إلى تحليل نظري بسيط لقياس الزمن. الحديث لا يدور عن حساب علمي وموضوعي يبشر بتهديد حاسم وفوري. “زمن الاختراق” هو الزمن المطلوب، حسب عدد من الافتراضات المسبقة، لإنتاج ما يكفي من اليورانيوم المخصب بمستوى عسكري مرتفع (90 في المئة) من أجل إنتاج القنبلة الأولى، إذا قررت إيران إنتاجها.
الفشل الرئيسي في سيناريو الكمية المطلوبة لاختراق سريع ينبع من حقيقة أنها تعتمد على تخصيب اليورانيوم في المنشآت النووية المدنية في إيران. المشروع النووي المدني الإيراني في الجمهورية الإسلامية هو تحت نظام الرقابة الأكثر اختراقاً في تاريخ الذرة: رقابة مستمرة من قبل مراقبي الوكالة الدولية للطاقة النووية وإرسال التقارير في الوقت الحقيقي إلى الوكالة في فيينا. واستناداً إلى “البروتوكول الإضافي” للوكالة الدولية للطاقة النووية، يتم إجراء زيارات مع تبليغ قبل وقت قصير للمنشآت غير المعلن عنها. في هذا الوضع، ستجد إيران صعوبة في تحويل اليورانيوم المخصب بمستوى مدني منخفض –المسموح لها حسب الاتفاق النووي ووفقاً لعضويتها في ميثاق عدم نشر السلاح النووي “ان.بي.تي”– إلى يورانيوم مخصب بمستوى عسكري. وسبب وجود الوكالة الدولية للطاقة النووية الرئيسي هو اإطاء تحذير لهذا التحويل. وبناء على ذلك، فإن الـ 1300 كغم من اليورانيوم المخصب للأغراض السلمية برقابة الوكالة في العام 2020 لا يعني بالضرورة خطاً مباشراً وسريعاً من أجل تخصيب اليورانيوم بغرض الحصول على مواد متفجرة من أجل القنبلة. ومن أجل اختراق سريع والحصول على يورانيوم مخصب بمستوى عسكري مرتفع ستكون إيران ملزمة بطرد جميع المراقبين للوكالة والانسحاب من ميثاق “أن.بي.تي”. وهذه الخطوات الضرورية قامت بها كوريا الشمالية من أجل تطوير مشروعها النووي.
إن انعكاس تقديرات “أمان” في تقارير وسائل الإعلام (لم يتم نشر نص معتمد) يشير إلى أن ضباط الأبحاث العسكرية لا يتفقون مع السيناريو التحذيري. ومن تقدير “أمان” يمكن الفهم بأنه حتى بعد الخروقات الإيرانية للاتفاق النووي مؤخراً، لم تسقط السماء. وحتى لو لم يقل هذا بشكل صريح، فالأمر في هذه المرحلة يتعلق بعدة مئات قليلة من اليورانيوم المخصب بمستوى مدني منخفض، وليس عودة إلى الوضع الذي كان سائداً قبل التوقيع على الاتفاق النووي الذي كان الحديث فيه يدور عن 8 طن من اليورانيوم المخصب بواسطة 19 ألف جهاز للطرد المركزي. خروقات إيران في مجال تخصيب اليورانيوم ينظر إليها بصورة غير مهمة وبصيغة دبلوماسية وليس عسكرية. وقد تم الإبلاغ بأنها -حسب ضباط الأبحاث في الاستخبارات العسكرية- خصصت لغاية المفاوضات واستخدام ضغط على الشركاء الأوروبيين في الاتفاق (بريطانيا وفرنسا وألمانيا) لإعادة الوضع إلى سابق عهده. أي، صد العقوبات أحادية الجانب التي فرضتها الولايات المتحدة أو كبديل عن ذلك، تجميع أوراق مساومة قبل التوقيع على اتفاق نووي مستقبلي.
تقدير “أمان” لا يشخص وجود تسريع إيراني لإنتاج سلاح نووي. وإضافة إلى ذلك، لم تلغ إيران التزامها بالاتفاق النووي. وثمة أدلة على المقاربة الواقعية المعتدلة في “أمان” يمكن العثور عليها فيما لم يشمله التقرير السنوي. “أمان” لا تتحدث عن احتمالية إنتاج سلاح نووي بمسار البلوتونيوم، وذلك من خلال إدراك البند المهم الذي ما زال قائماً في الاتفاق النووي، الذي ستقوم بريطانيا والصين، بحسبه، ببناء مفاعل للمياه الثقيلة في أراك (بدل المفاعل القديم والخطير الذي تم تفكيكه في إطار الاتفاق)، بصورة لا تسمح بإنتاج البلوتونيوم للقنبلة.
بنفس الدرجة، من المؤسف أن “أمان” لم تشر في توجيهاتها إلى أن الحديث -وبخصوص الخرق الذي يعتبر الأكثر أهمية في سلسلة خروقات إيران في مجال تخصيب اليورانيوم، أي استئناف النشاط في منشأة بوردو – لا يدور عن العودة إلى الفترة التي سبقت الاتفاق النووي، أي نفس “مجال الحصانة” تحت الأرض الذي يتم فيه تخصيب اليورانيوم بمستوى 20 في المئة، والذي يشكل المسار السريع لتخصيب عسكري محتمل. وفقط ثلث الألف جهاز للطرد المركزي في بوردو استأنفت تخصيب اليورانيوم، ولكن بمستوى مدن منخفض، وليس مثلما كان في السابق. الثلث المتبقي مخصص لاستمرار إجراء أبحاث النظائر المشعة المدنية وليس من أجل تخصيب اليورانيوم. البحث يتم كجزء من نشاط مركز أبحاث دولي برئاسة روسيا، مثلما حدد في الاتفاق النووي. ويجب التأكيد على أن مراقبي الوكالة الدولية للطاقة النووية يتواجدون باستمرار في بوردو.
يمكن الإجمال والقول بأن تقدير “أمان” غمر بالخطاب الممأسس نغمات لم نسمعها منذ زمن. وليس فقط معلومات تقنية عن أعمال كمية “صعبة” وروتين التوقعات التحذيرية، بل وعن تحليل يأخذ في الحسبان المركبات النوعية “الناعمة” للدبلوماسية والمواثيق الدولية. الفحص التحليلي المركب الذي تحاول “أمان” من خلاله متابعة التطورات الأخيرة عن كثب حول الاتفاق النووي، لا سيما الحوار المتوتر بين إيران والدول الأوروبية الثلاث التي وقعت على الاتفاق، يشير إلى أن إيران لا تسارع نحو إنتاج القنبلة النووية. وهذا يناقض بشكل بارز موقف نتنياهو المعلن ونظرته السلبية للمسار الدبلوماسي والاتفاق النووي. حسب رأيه، هذا يشكل إعادة بث لاتفاق ميونيخ في العام 1938.
رئيس الحكومة والجهاز العسكري لا ينظران بالمنظار نفسه إلى المشروع النووي الإيراني. وسيكون لاختلاف المفاهيم الذي طرح هنا تأثيرات على تقدير التطورات في المستقبل وعلى طرق رد إسرائيل. كما بخصوص سيناريو الحرب الوقائية الذي فكر نتنياهو باحتماله في خطابه الذي ألقاه في ذكرى حرب يوم الغفران.
القدس العربي