قطاع غزة خاص في الساحة الفلسطينية بسبب تاريخه ومزاياه الجغرافية والديمغرافية والسياسية. إن قطْع القطاع، سواء عن إسرائيل أم عن حكم السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، بدأ قبل أكثر من عقد، في أعقاب فك الارتباط الإسرائيلي عنه في 2005 وبعد سيطرة حماس عليه في 2007. تصمم قطاع غزة، وهو تحت سيطرة حماس على مدى السنين، في صيغة ساحة شبه دولة منفصلة عن السلطة الفلسطينية، التي تقف بحد ذاتها وتطرح على إسرائيل تهديدات وتحديات خاصة. وفي السنوات المنصرمة منذ صعود حكم حماس، اتخذت حكومة إسرائيل سياسة عزل بين قطاع غزة والضفة الغربية لإضعاف قدرات حماس ومنع تعاظمها العسكري، وللتحدي السياسي سواء لحماس أم السلطة الفلسطينية. ساهمت هذه السياسة في الفصل الجوهري الذي نشأ بين شطري الإقليم الفلسطيني، وثبتت حماس في أعقابه مكانتها في القطاع وأصبحت صاحبة السيادة فيها. ويجد التعاظم العسكري لحماس والقطيعة المتسعة بين القطاع والضفة تعبيرهما بوجود منظومتين للحكم منفصلتين لا تنجحان في التعاون أو في تحديد أهداف مشتركة، بل إحداهما تنافس الأخرى على قيادة الشعب الفلسطيني وتحديد جدول الأعمال الفلسطيني الوطني تجاه إسرائيل.
عني الخطاب السياسي في إسرائيل في العقد الأخير بثلاثة بدائل استراتيجية أساسية للتصدي لقطاع غزة: إسقاط حكم حماس؛ وإبقاء حماس ضعيفة ومردوعة الحكم في قطاع غزة؛ والاعتراف العملي بحكم حماس، بإعطاء مساعدة لإعمار القطاع، رغم أن معنى الأمر هو تثبيت حكم حماس. تتردد إسرائيل كل الوقت بين الإمكانيتين الثانية والثالثة، وتختار مرة هذه ومرة تلك. وأحياناً تدفع إلى الأمام بالاستقرار الأمني من خلال تحقيق تفاهمات أو ترتيبات مع حماس، وأحياناً تكبح إجراءات الإعمار في القطاع خوفاً من تعزيز حماس وحكمها، وتسمح بمواصلة التعاظم العسكري. ولإضعاف حماس، تفرض إسرائيل إغلاقاً على القطاع وترد على هجماته الصاروخية بشكل اعتيادي تقريباً بهجمات موضعية في القطاع. خرج الجيش الإسرائيلي ثلاث مرات في العقد الأخير إلى حملات عسكرية واسعة النطاق في القطاع. وبالتوازي، في إطار تسويات وقف النار وتحقيق الاستقرار، توصلت إسرائيل عدة مرات إلى تفاهمات مع حماس، معناها عملياً الاعتراف بسيادة حماس على القطاع.
لبدائل سياسة إسرائيل تجاه حماس في القطاع
1- إدارة النزاع القائمة على منطق التكيف والردع. معنى هذا البديل هو ممارسة الضغط المتواصل على حماس لإضعافها وتحقيق تهدئة أمنية طويلة بواسطة تعزيز الردع.
2- وقف نار طويل المدى بين إسرائيل وحماس (“تهدئة”) القائم على منطق التسوية.ومعنى هذا البديل هو الاعتراف بأن إسرائيل هي العنوان المسؤول الوحيد في القطاع.
3- القطع التام للقطاع عن إسرائيل والضفة الغربية،القائم على أساس منطق الانفصال.وينشأ من هذا البديل إغلاق المعابر بين قطاع غزة وإسرائيل وفتحه على مخرج بحري وعلى شبه جزيرة سيناء.
4- حملة عسكرية لإسقاط الذراع العسكري لحماس وفقاً لمنطق الحسم العسكري. وبعد تحقيق الحسم، ثمة حاجة إلى تنفيذ إجراءات غايتها استقرار المنطقة وتصميمها. يمكن لهذا البديل أن يكون المقدمة للدفع إلى الأمام ببدائل أخرى مثل الإبقاء على حكم حماس، ولكن بمكانة ضعيفة، أو عودة السلطة إلى القطاع كي تصبح العنوان المسؤول هناك، أو فرض نظام وصاية دولي على القطاع (فرص تحقق الخيار الأخير متدنية).
5- خلق ظروف لمصالحة فلسطينية داخلية ودعم الخطوات في هذا الاتجاه وفقاًللمنطق الذي يقولإن كل تسوية يجب أن تكون مع السلطة فقط، إذ يجب أن نرى فيها الجهة الوحيدة التي تمثل المعسكر الفلسطيني بكل تراكيبه.
الخلاصة والاستنتاجات
لا يوجد حل سحري يحدث تغييراً إيجابياً جوهرياً في وضع قطاع غزة. ومع ذلك، يتبين من البحث أن البديل الأفضل هو الوصول إلى وقف نار طويل المدى بين إسرائيل وحماس بوساطة مصرية. ويتضمن وقف النار هذا تسهيلات كبيرة في الإغلاق على القطاع والدفع إلى الأمام بمشاريع في مجال البنى التحتية.
لرفع قيمة هذا البديل ستحتاج إسرائيل إلى آليات استقرار ورقابة خارجية، ولا سيما تعهد مصري لدعم تلك الآليات. كما ينبغي أن يتضمن وقف النار وضع عوائق في وجه التعاظم العسكري لحماس. ويمكن بلورة تفاهمات لوقف النار من موقع تفوق، على أساس الردع المعزز بعد حملة عسكرية واسعة النطاق، ولكن ثمة شك في الحاجة إلى ذلك. كما يمكن الوصول إلى تفاهمات بهذه الروح من خلال مفاوضات غير مباشرة بوساطة مصرية دون كلفة عالية في الأرواح والممتلكات، ترافق بالتأكيد كل حملة عسكرية.
من المقارنة بين البدائل، يتبين أن شروط التسوية في ختام حملة عسكرية واسعة النطاق لن تكون أحسن بشكل واضح مقارنة بما يمكن تحقيقه حتى دون مثل هذه الحملة.
إن بديل وقف النار والتسوية مع حماس سيبقي على مكانة حماس الحالية؛ كونها العنوان المسؤول الوحيد في القطاع. وهذا البديل سيعزز هذه المكانة في مواجهة محافل السلفيين الجهاديين الساعين إلى ضعضعة حكم حماس أو صرفه عن التزاماته المدنية نحو بعد المقاومة من خلال إطلاق النار على إسرائيل وجرها إلى خطوة عسكرية.
إن الخيار الأفضل لإسرائيل هو سيطرة السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، ولكن بغياب ظروف إعادة حكم السلطة الفلسطينية إلى القطاع، فإن حكم حماس هو أهون الشرور من ناحية إسرائيل. وذلك لأن وقف النار المتفق عليه سيعزز التنسيق بين إسرائيل وحماس. إن الفهم بأنه يجب التسليم بحقيقة حكم حماس سيشجع التنسيق بين إسرائيل ومصر. وبالنسبة للأردن، فعلى إسرائيل أن تقنعه بأن التسوية مع حماس ليس فيها ما يمس بمكانة السلطة الفلسطينية في المنظومة الفلسطينية العامة، وأن هذه التسوية تستهدف أساساً الهدوء والاستقرار في المنطقة، ما يتناسب والمصلحة الأردنية.
أما حكم الرئيس السيسي في مصر الذي يتخذ سياسة براغماتية في قطاع غزة، فسيواصل دعم هذا البديل طالما يرى فيه حلاً مؤقتاً لن يسد الطريق في وجه عودة السلطة الفلسطينية إلى قطاع غزة والحل السياسي بين إسرائيل والسلطة. على المستوى العملي، يمكن تحقيق وقف النار سواء في المنظومة السياسية الإسرائيلية أم في منظومة حماس.
إن تحقيق بديل وقف النار طويل الأمد سيستوجب استعداداً مكملاً هدفه منع إضعاف مكانة السلطة في الساحة الفلسطينية تجاه حماس. وهذه إجراءات تشجع التحسن في الوضع الاقتصادي ونسيج الحياة في الضفة الغربية إلى جانب تعزيز أداء السلطة والاستقرار في أراضيها. وهكذا سيكون ممكناً المساعدة في توسيع التأييد الجماهيري لها. بكلمات أخرى: على إسرائيل أن تتأكد من أنه مقابل إنجازات حماس – كما ستعتبر وتتجسد على أرض القطاع – ستجد إنجازات لا تقل بل وأكثر إبهاراً تعرضها السلطة الفلسطينية على سكان الضفة. ثمة إنجاز عظيم الأهمية يمكن أن تلوح به السلطة لترسيخ مكانتها وهو تحريك مسيرة سياسية تترافق وامتناع إسرائيل عن خطوات ضم لأراض في الضفة. هذه خطوات متعلقة بإسرائيل وحدها.
إن التنفيذ الأفضل لبديل التسوية يتطلب سياسة ذات بعدين مع جناحي الساحة الفلسطينية: فإلى جانب التسوية مع حماس، ستكون حاجة إلى السعي لتسوية مع السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية. أما تطبيق المخطط للانفصال عن الفلسطينيين في الضفة الغربية، كما يقترح معهد بحوث الأمن القومي، فسيساعد في تحسين الوضع الاقتصادي ونسيج الحياة في الضفة الغربية. ومن أجل تجنيد الدعم الدولي والمالي لمشاريع في القطاع، ثمة حاجة لانخراط السلطة الفلسطينية في هذه العملية. وبالتالي، من الحيوي تجنيد السلطة لتأييد الهدوء في القطاع ومنحها مكانة خاصة في بناء البنى التحتية هناك، ما يقلص الصورة التي ترغب حماس في أن تخلقها لنفسها بأنها هي التي تبني القطاع. إن تسوية بين إسرائيل وحماس دون خطوات نحو السلطة الفلسطينية ستسمح لحماس بأن تملي لون النزاع الإسرائيلي – الفلسطيني.
كل البدائل التي درست، باستثناء سيطرة الجيش الإسرائيلي على القطاع وتفكيك الذراع العسكري لحماس، لا تتضمن جواباً ناجعاً لتعاظم حماس العسكري، وليس فيها وعد بأن يضمن في المدى الأبعد تجريد القطاع من القدرات العسكرية وشبكات الإرهاب.
أما المصالحة بين فتح والسلطة من جهة، وحماس من الجهة الأخرى، فيمكن أن تكون رافعة لإعادة حكم السلطة إلى القطاع. هذا الوضع أفضل من الفصل بين الضفة والقطاع، الذي هو اليوم العنصر المركزي في سياسة حكم إسرائيل. إسرائيل مطالبة بأن تواصل الآليات التي تتجاوز حماس في العلاقة مع الوسط المدني الخاص في القطاع وإشراك السلطة الفلسطينية في هذا الوسط للإشارة إلى الهدف البعيد المدى في عودة السلطة الفلسطينية لحكم القطاع، وكونها العنوان الوحيد للمفاوضات نحو تسوية إسرائيلية – فلسطينية.