هل ستتراجع إيران عن تشددها؟

هل ستتراجع إيران عن تشددها؟

المناورة السياسية فن يبدو إن الإيرانيين يتقنونه بشكل جيد، وبات معروفا في أروقة الدبلوماسية حذاقة المفاوض الإيراني ونفسه الطويل، ولجوئه إلى اللين عندما تشتد الضغوط عليه، لكنه سرعان ما يسحب كل خيوط اللعبة بحزم متى ما أحس بامكانية التشدد في تفاوضه. هذه الآليات في علم النفس السياسي أصبحت معرفتها من المتطلبات الأساسية لكل مفاوض يدخل حلبة المفاوضات مع الجانب الإيراني.

ملفات عديدة شائكة، وصفحات إقليمية ساخنة فتحت بتتابع وتزامن جعل الموقف الإيراني عسيرا جدا، فقد ضيقت إدارة ترامب الخناق على الإيرانيين عبر حزم العقوبات المتعاقبة حتى كادت تقطع أنفاسهم، وكل هذا الضغط غايته هدف أساسي هو إجبار الحكومة الإيرانية على الجلوس والتفاوض في المشروع النووي على شروط جديدة يفرضها الجانب الأمريكي، بينما يتمسك الإيرانيون من جانبهم بالاتفاق الذي وقعوه مع الرئيس السابق بارك أوباما ويدينون سلوك الرئيس ترامب الذي انقلب على اتفاق دولي شرعي.

من جانب آخر وجهت ضربات قاسية لإيران إقليميا في ساحات نفوذها في الشرق الأوسط، فقد أطيح بحكومتي لبنان والعراق المدعومتين إيرانيا، من دون ان تستطيع طهران مدّ يد العون لحلفائها، ويبدو إن الأزمات في البلدين مستمرة في التدحرج نحو مزيد من الاشتعال. كذلك الحال في ساحتي الحرب التي فيها نفوذ إيراني في سوريا واليمن، إذ لا يبدو أن لهذا الصراع نهاية تلوح في الأفق، بل إن تحميل كاهل إيران بمزيد من النفقات قد وصل حدا خطيرا، ولم تعد خزائن طهران تتحمل ثقله. لتأتي ثالثة الاثافي “صفقة القرن” التي يبشر بها ترامب وحليفه نتنياهو، وتحشيدهما الإقليمي ضد إيران التي بدت حتى الآن عاجزة، أو على الأقل غير فاعلة في الوقوف بوجه هذا التحدي الاستراتيجي. كل هذه الملفات ربما دفعت المفاوض الإيراني إلى أن يبدي نوعا من اللين في عدد من جولات التفاوض.

الملف النووي وتداعياته

بعد أن صعدت إيران من لهجتها في الأسابيع الماضية، وشرعت بالعمل على كسر جميع القيود التي يفرضها الاتفاق على برنامجها ‏النووي، رداً على الانسحاب الأمريكي منه، وما تبعه من العقوبات الشاملة، ‏وفي محاولة من الجانب الإيراني لإيقاف مماطلات الترويكا الأوروبية (فرنسا، ألمانيا، بريطانيا) في تنفيذ تعهداتها الاقتصادية بما يساعد إيران على مواجهة العقوبات الأمريكية، أطلقت إيران تصريحاتها النارية بشأن تخليها عن التزامها بتعهداتها بشروط الاتفاق النووي، ما دفع الأطراف الأوروبية إلى الضغط عليها لإعادتها للالتزام بتعهداتها. وخلال الشهر الماضي، فَعَّل الأوروبيون آلية ‏‏”فضّ النزاع” لحلّ الخلافات بشأن تنفيذ الاتفاق النووي، في تدبير من شأنه إعادة الملف النووي ‏الإيراني إلى مجلس الأمن، وعودة فرض العقوبات الأممية على طهران مجدداً‎.

ويبدو أن حكومة طهران تحاول أن تناور وتظهر شيئا من اللين في مفاوضاتها في هذا الشأن، وبدت في نقاشات الرئيس حسن روحاني مع منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي ‏جوزيب بوريل، الذي كان في طهران قبل أيام بناء على دعوة رسمية وجهها له الرئيس الإيراني. ومن الواضح أن الهدف الأساس للدعوة هو محاولة اقناع الاتحاد الأوروبي بعدم اللجوء إلى آلية “فض النزاع” حول الاتفاق النووي، فقد أكد روحاني خلال اللقاء أن “بلاده جاهزة للعودة إلى تنفيذ التزاماتها بالاتفاق النووي، عندما ينفذ ‏الطرف المقابل التزاماته” مضيفا أن “مراقبة أنشطتنا النووية من قبل الوكالة الدولية سوف تستمر، ‏إلا في حال واجهنا ظروفا جديدة‎” وأبدى استعداد بلاده للتعاون مع الاتحاد الأوروبي لحل القضايا العالقة، لافتا إلى أن “الانسحاب ‏الأمريكي الأحادي من الاتفاق النووي خلق عوائق ومشكلات لجميع أطراف الاتفاق”.

كما سبق لوزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف أن بعث، برسالة إلى بوريل من 14 صفحة، مؤكداً خلالها عدم ‏صواب الموقف الأوروبي حول استخدام آلية “فض النزاع” من خلال أدلة وبراهين حقوقية.‎ وقال بوريل “إن الدول الأوروبية تسعى للحفاظ على الاتفاق النووي وحل القضايا ‏الخلافية للإبقاء عليه” مضيفا أنه سيبذل ما في وسعه من قدرات لخلق تعاون قوي يصب في إطار ‏الحفاظ على الاتفاق النووي.

إيران وإطاحة حلفائها في المنطقة

بات واضحا حرج الموقف الإيراني العاجز أمام ترنح حكومات حلفائها في بيروت وبغداد، فبعد كل العنف والقمع والتخوين الذي مورس ضد الحراكين الشعبيين في لبنان والعراق، أصبح الاستحقاق واضحا وواجب الدفع، مما أدى بطهران إلى الدفع باتجاه خطط بديلة للتخلص من صداع الانتفاضات المشتعلة في ما تعتبره طهران حديقتها الخلفية في بيروت وبغداد. فقد رتب حلفاء طهران حكومة حسان دياب الهزيلة التي أثارت موجة سخرية وسخطا في لبنان، صاحبها موجات عنف قامت بها ميليشيا حزب الله لقمع الاحتجاجات، وقد أعتبر المراقبون استمرار الاحتجاجات الشعبية الرافضة لحكومة دياب صرخة احتجاج ضد بسط نفوذ حزب الله أجندته الإيرانية على كل مفاصل الدولة اللبنانية. فحزب الله وحلفاؤه باتوا يسيطرون على موقع رئاسة الجمهورية، ومجلس النواب، والآن سيتمكن عبر حكومة حسان دياب من السيطرة الكاملة على رئاسة مجلس الوزراء، وبذلك يصبح متحكماً في الرئاسات الثلاث التي تشكل قواعد السلطة في لبنان.

أما تكليف محمد توفيق علاوي في بغداد بتشكيل الحكومة فهو أمر مشابه لما حدث في بيروت بتكليف دياب، فالمعروف إن علاوي شخصية ضعيفة، لا تحظى بدعم تيار سياسي قوي على الأرض، وبالتالي سيكون لعبة بيد أحزاب السلطة المقربة من طهران، ويكاد يعترف الجميع بأن “صفقة” تكليف محمد توفيق علاوي تم ترتيبها في مدينة قم الإيرانية، بين مقتدى الصدر زعيم كتلة سائرون، وهادي العامري زعيم كتلة البناء في البرلمان العراقي، على أن يأخذ الصدر على عاتقه مهمة تصفية ساحات الانتفاضة العراقية بعد أن عجزت حكومة عبد المهدي عن تنفيذ تلك المهمة. وقد ابتدأت فصائل الصدريين من “سرايا السلام” و”اليوم الموعود” و”القبعات الزرق” بالهجمات المنسقة على ساحات الاعتصام بغية الإجهاز على الانتفاضة، وبحجة ترتيب الوضع، وإشاعة الاستقرار، وفتح الشوارع، وإعادة الحياة الطبيعية في المؤسسات والجامعات والمدارس. لكن وكما هو حال الانتفاضة اللبنانية، ما زالت الانتفاضة العراقية مشتعلة وتواجه مخالب طهران الجديدة بصمود بطولي كما واجهت مخالب طهران القديمة طوال أربعة أشهر من القتل والخطف والترويع.

ويبدو أن طهران من جانبها تدافع باستماتة عن وجودها ونفوذها في العراق، لأنه بات يمثل لها الرئة التي تتنفس عبرها بعد أن أغلقت إدارة ترامب على الإيرانيين كل متنفساتهم، وإذا ما تعرض هذا الوجود إلى الخطر، فذلك يعني قرب الانهيار الكبير في الداخل الإيراني، لذلك نجد أن المعركة تزداد شراسة يوما بعد آخر، لكن ومن جانب آخر تحاول الخارجية الإيرانية فتح ممرات تفاهم خلفية مع أعداء إيران التقليديين في الخليج عبر وساطات عمانية تحاول رأب الصدع ومحاولة استثمار علاقات طبيعية قد تنعكس على شكل انفراج في الوضع الإقليمي الخليجي والشرق أوسطي. هذا ما رشح من الزيارات المكوكية التي قام بها وزير الخارجية العماني يوسف بن علوي إلى طهران، إذ كانت الملفات العالقة التي تم مناقشتها بين الطرفين، حسب أطراف مطلعة، أربعة محاور هي: التوتر بين إيران وأمريكا، وأمن الملاحة البحرية في المياه الخليجية، والأزمة اليمينية، والتحضير للحوار بين إيران والسعودية.

إيران و”صفقة القرن”

يبقى التوتر الإيراني الإسرائيلي قابعا في خلفية كل الصراعات والتوترات في الشرق الأوسط، واليوم باتت المنطقة ترقد على برميل بارود قد يفجرها في أي لحظة نتيجة خطة السلام التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والتي يسميها الإعلام بـ “صفقة القرن”. إيران كانت أبرز وأقوى الرافضين لهذا المشروع، مقابل مواقف خانعة أو مداهنة من دول الإقليم مثل دول مجلس التعاون ومصر. فهل ستستخدم إيران هذه الورقة للضغط شعبيا على خصومها الإقليميين؟ وهل ستقود ما يعرف بفصائل المقاومة الإسلامية في السعي لفرض واقع مغاير على الأرض؟

لقد وصف وزير خارجية إيران محمد جواد ظريف، خطة السلام في الشرق الأوسط “صفقة القرن” المُعلنة من قبل ترامب، بأنها “كابوس للمنطقة والعالم” وكتب في حسابه عبر تويتر، قائلا إن ما يسمى بـ”الرؤية من أجل السلام” يعتبر “مشروع وهمي لمطور عقاري مُفلس، لكنه كابوس للمنطقة والعالم” وأضاف ظريف: “نأمل بأن يكون هذا جرس إنذار لجميع المسلمين الذين يسيرون في الطريق الخاطئ” داعيًا إلى الاتحاد من أجل فلسطين.

بينما كان الموقف السعودي واضحاً في اجتماع منظمة التعاون الإسلامي، وذلك من خلال كلمة وزير خارجيتها فيصل بن فرحان، الذي دعا الدول الإسلامية للتضامن مع الفلسطينيين وقضيتهم، إلا أن توجه المملكة كان محط جدل منذ بداية الإعلان عن الصفقة، بعد تصريحها عن دعم مبادرة السلام وتأييد المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بالإضافة إلى تزايد تأييد بعض السعوديين لخطة ترامب. هذا الموقف السعودي، قابله موقف أكثر وضوحاً من غريمتها إيران، التي أعلنت منذ البداية رفضها للصفقة كاملة، ما فتح المجال للحديث عن مجال لتقارب جديد بين الفصائل الفلسطينية وإيران، وفرصة “لا تعوض” كما وصفها محللون، لنقل الخلاف الإيراني-السعودي إلى الساحة الفلسطينية.

هذان الموقفان، وعلى الرغم من اختلافهما يثيران تساؤلات حول ما إذا كانت الصفقة أداة في يد كلٍ من طهران والرياض لمحاولة فرض المزيد من السيطرة في الشرق الأوسط، وفي هذا يرى بعض المراقبين أن هذا التفاوت من الممكن أن يكون بداية لصراع جديد بين السعودية وإيران إقليميا، تقف في خلفيته الولايات المتحدة وإسرائيل لتجني أرباح الصراعات المقبلة، هذا ما ستفرزه أحداث الأيام المقبلة.

صادق الطائي

القدس العربي