ظهير اجتماعي: مشروع قناة السويس بين عوائد السياسة والاقتصاد

ظهير اجتماعي: مشروع قناة السويس بين عوائد السياسة والاقتصاد

قناة السويس داخل

يحرم الدستور المصري الحالي الرئيس عبدالفتاح السيسي من تكوين حزب سياسي أو رئاسة أي من الأحزاب الموجودة، ولأن الرئيس جاء من المؤسسة العسكرية إلى القصر مباشرة، ولم يمارس السياسة من قبل، طالبه كثيرون أن يصنع ظهيراً اجتماعياً له؛ فجاء مشروع حفر تفريعة جديدة لقناة السويس وتعميق جزء كبير من القناة القديمة، ليوجد هذا الظهير، الذي يتمثل في العدد الهائل من المصريين الذي اشتروا شهادات بنحو 64 مليار جنيه (8.5 مليار دولار) في أقل من أسبوع، وينتظرون الآن جني فوائد ما اشتروه، وبالتالي ربط السيسي بين وجوده في الحكم ونجاح مشروع القناة.

عائد سياسي مضمون

لذا كان من الطبيعي أن ينبري الغالبية بقوة للدفاع عن المشروع، والتصدي عبر على مواقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك وتويتر) لكل ما ينتقده، أو يطرح أسئلة حول تكلفته وجدواه ومستقبله على المسؤولين عنه، والمتحمسين له.

وحول هؤلاء المنتفعين اقتصادياً من المشروع هناك ملايين المصريين ممن لم يشتروا تلك الشهادات، لكنهم كانوا في حاجة ماسة إلى دفعة معنوية قوية تعزز الثقة في إمكانية أن يذهبوا نحو المستقبل بخطى سريعة نسبياً، بعد أن راوحوا سنوات في مكانهم، في ظل العثرات التي تعرضت لها ثورة يناير، إثر تآمر أطراف عدة عليها، بما أدى إلى إطالة أمد الاضطراب السياسي والاجتماعي في مصر، وجعل السؤال الذي يلح رجل الشارع العادي على إجابته هو: “إلى أين نحن ذاهبون؟”.

ويبدو أن الرئيس السيسي كان ينظر إلى العائد السياسي أولاً حين أطلق هذا المشروع، دون إعلان “دراسة جدوى” من قبل الحكومة المصرية، وهو عائد لا ينتظره على المستوى الداخلي فحسب، بل على المستوى الخارجي. ولعل الشعار الذي رفع على هامة المشروع يدل على هذا بجلاء إذ يقول: “من أم الدنيا إلى كل الدنيا”، أي أن السلطة الحالية التي بدأت رحلتها في ظروف صعبة عقب الإطاحة بحكم جماعة الإخوان التي حاولت سرقة ثورة يناير، ها هي تبرهن للعالم على أنها تفعل ما يفيده، لأن تعزيز قدرة قناة السويس على خدمة التجارة الدولية أمر حيوي للناس في مشارق الأرض ومغاربها، وفي هذا مزيد من تعزيز شرعية السلطة، التي كان الإخوان يراهنون على حصارها وعزلتها، وهو ما راح يفشل بالتدريج، ومشروع القناة يعمق هذا الفشل، من دون شك.

رأيان بشأن العائد الاقتصادي

أما العائد الاقتصادي فيبدو أنه لن يأتي سريعاً في ضوء الأرقام المتاحة عن حجم التجارة الدولية في السنوات القليلة المقبلة، وإن كانت إمكانية تحققه بقوة قائمة إن لم تكتفِ السلطة المصرية بحفر التفريعة، وشرعت على الفور في تنفيذ مشروع تنمية إقليم قناة السويس، بحيث يتحول الممر الملاحي إلى مركز أعمال عالمي متكامل يقدم خدمات النقل البحري من إصلاح سفن، وإمدادها بالوقود، وخدمات الإنقاذ وصيانة ودهان وتنظيف السفن، وكذلك خدمات الشحن والتفريغ. علاوة على إقامة مجمعات صناعية جديدة، وأخرى للتعبئة والتغليف، ومراكز للإمداد والتموين، وموانئ محورية على مدخلي القناة في الذهاب والإياب، بما يجعل لمصر موقعاً متقدماً على خريطة سلاسل الإمداد العالمية، ويربط مصير جزء من منظومة التجارة الدولية بقناة السويس.

ويشترط تحقيق هذا جذب استثمارات غزيرة، وهذا يتطلب ابتداءً كبح جماح جهاز بيروقراطي يتسم بالجمود والبطء، وسن قوانين جديدة تسهل حصول الشركات على التراخيص والأراضي، دون جور على حقوق جموع المصريين، الذين سارعوا إلى تمويل بداية المشروع، وضربوا، قبل أي فرد وأي أحد، كبيراً كان أو صغيراً، مثلا عظيماً في إمكانية الاعتماد على الذات والوقوف خلف الوطن حين تتأزم أموره وتصعب أحواله ويتهدد أمنه، ويريد أن يفتح نافذة على المستقبل.

ويبقى أنه بوسع مصر أن تعمل على تحويل الممر الملاحي البحري الأكبر في العالم الذي يربط أوروبا بآسيا إلى منطقة اقتصادية كبرى، تدر عائداً أكبر بكثير من 5 مليارات دولار سنوياً تمثل دخل القناة حالياً، وهذا فقط هو ما يجعل المشروع ذا جدوى اقتصادية، أما الوقوف عند حد ما جرى في المرحلة الأولى من المشروع، وهو حفر تلك التفريعة، سيجعله يشكل عبئاً على الاقتصاد الوطني في المدى القصير، خاصة بعد أن تم تمويل المشروع من خلال شهادات اشتراها مصريون بفوائد مرتفعة، وسيكون على الحكومة أن تدبر الأموال اللازمة لدفع هذه الفوائد، فإن لم يأتِ المشروع بعوائد سريعة لتسديدها، سيتم الدفع من الدخل الحالي للقناة، والذي يشكل مصدراً رئيسياً للدخل القومي.

علاوة على هذا فإن جزءاً من الطاقة الاستيعابية للقناة، قبل حفر الفرع الجديد، كان غير مستغل، فالقناة بوسعها أن تتحمل مرور 76 سفينة يومياً، ولا يعبرها الآن سوى 49 سفينة فقط. ويزيد على هذا تلك الدراسات التي تبين أن إصرار الرئيس على إنجاز المشروع في سنة واحدة، بدلا من ثلاث كما كان مقرراً، أدى إلى زيادة تكلفة الحفر بنحو 11 مليار جنيه، وهو رقم ليس بالقليل بالنسبة لدولة استدانت تكلفة المشروع، حتى لو كان صاحب الدين هو جزء من الشعب المصري.

ويبدو في نظر البعض أن توسيع القناة وتعميقها أمر مهم لمقابلة توقعات تقول إن نسبة 30% من حجم التجارة العالمية ستمر بالقناة بحلول عام 2030، أي تزيد ثلاث مرات عما هي عليه الآن، في ضوء تنامي حجم تجارة الصين مع أوروبا، وفي ضوء هذا يتطلع المسئولون إلى أن يصل عائد القناة بحلول عام 2023 إلى 13.2 مليار دولار.

لكن هناك رأياً آخرَ يقول إن السفن العملاقة التي يحتاج مرورها توسيع وتعميق القناة تخص نقل النفط، والدولتان اللتان ستتوسعان في الصناعة خلال ربع القرن المقبل هما الصين والهند، وبالتالي ستستهلكان الجزء الأكبر من نفط العالم، ولن تمر وارداتهما من هذه السلعة الاستراتيجية من قناة السويس، حيث الخليج العربي أقرب إليهما، وإن حصلتا على نفط من شرق أفريقيا سيكون عبر المحيط الهندي مباشرة، وإن كان من غرب أفريقيا فعن طريق رأس الرجاء الصالح.

كما أن إقدام الشركات الأوروبية الكبرى على بناء مصانع لمنتجاتها على أرض بلدان في شرق وجنوب شرق آسيا، لرخص العمالة وتوافر بعض المواد الخام وضخامة السوق، قد يؤدي إلى تراجع حجم التبادل التجاري بين الشرق والغرب في المستقبل، والذي يعتمد على قناة السويس اعتماداً كبيراً.

إن هذا التباين في تقدير العوائد الاقتصادية على المديين القصير والطويل، لا يمنع الاتفاق على العوائد السياسية، التي جنتها السلطة الحالية في مصر بإنشاء هذا المشروع، فالرئيس سيبدو في نظر الشعب قادراً على الإيفاء بما وعد، حتى وإن أدى ضغط الوقت إلى رفع كلفة المشروع كما سبقت الإشارة.

ولعل الاحتفالات الكبرى التي تصاحب إطلاق المشروع تقدم دليلاً قاطعاً على أن الرئيس السيسي يريد استغلال المناسبة في تعزيز شعبيته التي تراجعت نسبياً في الشهور الأخيرة مقارنة بحالتها فور توليه السلطة، جنباً إلى جنب مع حفز الطاقات الكامنة لدى المصريين بأن بوسعهم أن يصنعوا المعجزات إن أرادوا، وأخلصوا وتماسكوا وأتقنوا العمل.

د. عمار علي حسن

مركز المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة