تحاول تركيا توجيه بوصلتها لناحية الاتحاد الأوروبي بعد أن استشعرت جدية الأوروبيين في معاقبتها على سياساتها الخارجية وما تسببت فيه من توتر بين أنقرة وأغلب العواصم الأوروبية، وبعد أن شهدت علاقتها بروسيا توترا فشلت أنقرة في احتوائه، لكن سياسات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تحول دون تحقيق أي تقدم بما قد يعرض تركيا لخطر العزلة في وقت لا تبدو فيه علاقتها بالأميركيين أفضل حالا من علاقتها بالأوروبيين.
إسطنبول – في واحدة من أكثر المحاكمات السياسية إثارة للجدل بتركيا، في السنوات الأخيرة، برّأت محكمة بإسطنبول شخصيات بارزة في المجتمع المدني من تهم مرتبطة بمعارضة الحكومة في احتجاجات جيزي بارك في عام 2013، في قرار سرعان ما تراجع عنه الرئيس رجب طيب أردوغان وانتقده، ووصل الأمر حد التحقيق مع القضاة الذين أصدروا الحكم، في خطوة تعكس حالة التذبذب التي تعيشها تركيا، وهي انعكاس لعلاقاتها مع روسيا التي تشهد توترا يدفعها إلى التفكير في إعادة بوصلتها نحو الأوروبيين، لكن لهؤلاء شروط لا يبدو أن أردوغان مستعد للقبول بها الآن.
وأعلنت أنقرة يوم 18 فبراير 2019 عن قرار يقضي بإطلاق سراح تسعة مدعى عليهم، بمن فيهم الناشط الحقوقي البارز عثمان كافالا، في خطوة مفاجئة، عبر عنها كان أتالاي، وهو أحد المتهمين بقوله “لا أعرف ماذا أقول. لم نتوقع هذا أبد”، فيما قال الكاتب والصحافي توماس سيبيرت، إن هذا القرار “يبدو أنه تأثر برغبة أنقرة في إصلاح العلاقات مع الأوروبيين والأميركيين وسط الأزمة مع روسيا”.
وقال رئيس المحكمة، الذي أصدر حكم البراءة، إنه لم يكن هناك “دليل ملموس كاف” على أن كافالا والمدعى عليهم الخمسة عشر الآخرين سعوا للإطاحة بالحكومة خلال تنظيم احتجاجات جيزي بارك، التي اندلعت في مايو 2013 تنديدا بقرار حكومي يقضي ببناء مركز تجاري على أنقاض الحديقة الأهم في إسطنبول (جيزي بارك). وقد تطور الأمر من احتجاجات مدافعة عن البيئة إلى مظاهرات دموية ضد رجب طيب أردوغان، الذي كان رئيس الوزراء في ذلك الوقت. وشهدت تركيا في تلك الفترة عمليات اعتقال واسعة كشفت عن وجه آخر لأردوغان، وبدأ معها انحدار صورة تركيا في الخارج وتراجع ترتيبها في مؤشرات حقوق الإنسان والحريات العامة.
أصبح عثمان كافالا، الذي قضى أكثر من 800 يوم رهن الاحتجاز السابق للمحاكمة، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة في حالة إدانته، رمزا لما يقول المنتقدون إنه حملة قمع تم شنها ضد المجتمع المدني في تركيا تحت حكم أردوغان. وكان كافالا، الذي وصفه الرئيس التركي بأنه عميل لرجل الأعمال الأميركي جورج سوروس، شريكا للمؤسسات الأوروبية في مشاريع بتركيا.
وكانت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان دعت إلى إطلاق سراح كافالا العام الماضي. وقضت بأن لائحة الاتهام المؤلفة من 657 صفحة، تفتقر إلى “حقائق أو معلومات أو أدلة” لإثارة الشك وحتى عن أنه ساعد في تنظيم الاحتجاجات، ناهيك عن محاولة الإطاحة بالحكومة، ودعت إلى إطلاق سراحه على الفور.
ووجهت مؤسسات ومنظمات أوروبية انتقادات لاذعة لتركيا وأردوغان منددة بالمحاكمة غير القانونية. وقال مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط، وهي مجموعة للدفاع مقرها بالولايات المتحدة، في مذكرة موجزة، إن القضية “استهزأت بالإجراءات القانونية الواجبة وسيادة القانون”، فيما أشار مؤيدو كافالا إلى أنه كان مستهدفا لأنه كان يعمل على بناء جسور بين الانقسامات العرقية والاجتماعية التي غالبا ما كانت مزعزعة في تركيا، على عكس الخطاب القاسي الذي يفضله حزب العدالة والتنمية الحاكم.
الهيئة المشرفة على القضاة والمدعين العامين الأتراك فتحت تحقيقا ضد القضاة الثلاثة الذين برأوا عثمان كافالا وثمانية ناشطين آخرين
وبصفته رئيسا لمؤسسة ثقافة الأناضول، التي تعزز حقوق الإنسان من خلال الفن، سعى كافالا إلى بناء علاقات مع أرمينيا المجاورة، التي لا تربط تركيا بها علاقات دبلوماسية. وقال ماركوس بيكو، الأمين العام لمنظمة العفو الدولية في ألمانيا، في بيان “لقد تأخرت البراءة، بينما لم تتم المحاكمة بشكل كامل”.
لكن، وبينما كان مؤيدو كافالا ينتظرون الإفراج عنه، فوجئوا بإصدار المدعي العام في إسطنبول أمر اعتقال جديد بحقه، وهذه المرة بسبب صلات مزعومة بمحاولة الانقلاب الفاشلة في صيف 2016. واستنكر أردوغان ما اعتبره “محاولات تبرئة كافالا” وحث على احترام مذكرة الاعتقال الجديدة. ووصف احتجاجات جيزي بأنها “هجوم شنيع يشبه الانقلابات العسكرية والإنذارات الإرهابية” الذي كلف البلاد المليارات من الدولارات، رغم أنه قبل ساعات من الإدلاء بهذا التصريح كان أعلن عن براءة المتهمين ودورهم في الاحتجاجات.
وانتقدت مفوضة مجلس أوروبا لحقوق الإنسان، دنيا مياتوفيتش، إعادة اعتقال كافالا، قائلة إن التهم الجديدة الموجهة ضده “ليست لها مصداقية” وتصل إلى حد “سوء المعاملة”. كما انتقد الاتحاد الأوروبي القرار قائلا إنه “يضر بمصداقية القضاء التركي”. وأصدرت مياتوفيتش تقريرا منتقدا لتركيا. وحثت السلطات على احترام استقلال القضاء، والتوقف عن استهداف المدافعين عن حقوق الإنسان، الذين قالت إنهم يتعرضون للمحاكمة جراء ارتكابهم “أنشطة مشروعة”.
لم يستغرب المتابعون موقف أردوغان وإعادة اعتقال كافالا بتهمة المشاركة في انقلاب صيف 2016 الفاشل، لكن ما كان لافتا في التطورات الأخيرة هو موقف أردوغان من القضاء التركي وتصريحاته. فبينما كان ينتظر إطلاق سراح المتهمين، أعلنت محكمة أخرى في إسطنبول، غير التي صدرت عن قضاتها أحكام البراءة، عن تأجيل إصدار أحكامها في الـ11 ناشطا، وأجلت الإجراءات حتى 3 أبريل.
وفي الوقت نفسه، أعلنت وسائل إعلام حكومية تركية أن الهيئة المشرفة على القضاة والمدعين العامين الأتراك فتحت تحقيقا ضد القضاة الثلاثة الذين برأوا عثمان كافالا وثمانية ناشطين آخرين. وقالت وكالة الأناضول إن القضاة الثلاثة سيتم التحقيق معهم بسبب قصور حكمهم.
وجاء قرار التحقيق مع القضاة الثلاثة بعد ليسلط الضوء على استقلال القضاء في تركيا. وينظر المراقبون إلى الحديث عن التحقيق مع القضاة الثلاثة على أنه مسرحية الغاية منها التغطية على قرار العدول عن الحكم ببراءة المتهمين، فالقضاة ما كانوا ليصدروا مثل ذاك الحكم بمعزل عن استشارة الرئيس.
ويشير المحللون إلى تأثير الرئيس على القضاء وقالوا إن الاعتبارات السياسية حاسمة في قرار المحكمة. وقال سافاس جينس، الأستاذ في جامعة هايدلبرغ بألمانيا “لا يمكن لأي قاض في تركيا أن يسجن أو يحرر مدعى عليه من ضمن إحدى الشخصيات البارزة دون أن يتلقى الإشارة من القصر الرئاسي”.
واعتبر جينس “أحكام البراءة علامة على براغماتية أردوغان. إنه يريد أن يتجه نحو أوروبا مرة أخرى بسبب الأزمات في العلاقات مع روسيا”. وتعرضت العلاقات بين أنقرة وموسكو لضغوط بسبب الوضع في محافظة إدلب السورية، حيث تحتفظ الآلاف من القوات التركية بالأراضي لمنع تقدم الجيش السوري، الذي تدعمه روسيا.
ويشتبه سوات كينيكليوغلو، وهو نائب تركي سابق، في وجود عوامل سياسية خارجية وراء الحكم. وغرّد سوات كينيكليوغلو قائلا “أعتقد أن أنقرة تدرك أن الأمور مع موسكو تتجه حتما إلى اتجاه غير مرغوب فيه. ليست هناك حاجة إلى المزيد من الانعزال عن الأوروبيين في وقت قد تحتاج فيه أنقرة إلى دعم منهم في القضايا من إدلب إلى اللاجئين”.
ويؤيد كينيكليوغلو رأي جينس معتبرا بدوره أن الحكم بالبراءة للمتهمين في قضايا تتعلق باحتجاجات جيزي بارك دليل على السعي لاستعمال قوة البراغماتية في ظل تجاهل تام لأي مخاوف بشأن الأيديولوجيا أو الاستدامة. ويخلص النائب التركي السابق قائلا “يدور الأمر هنا حول إمكانية البقاء على قيد الحياة. يجب أن يكون مكيافيلي فخورا بهم”.
وجاءت تعليقات الخبيرين التركيين قبل صدور قرار تأجيل الحكم وانقلاب الموقف الذي فسره مراقبون آخرون على أنه انعكاس لغضب أردوغان من سياسة الحزم التي أظهرها الأوروبيون، في اليومين الأخيرين، تجاه تركيا، والخطوات الرادعة التي اتخذوها لمواجهة تداعيات سياساتها الخارجية، كما التنديد بالوضع المتردي لحقوق الإنسان والحريات العامة داخل البلاد.
وتعكس حيثيات المحاكمة الأخيرة حالة التخبط التي تعيشها تركيا، خاصة بعد أن قطع الأوروبيون الطريق أمام أي مسعى براغماتي للتقرب منهم أو التلاعب بالسياسات. وتجلى هذا الحزم في عدة خطوات من القرار الأوروبي مراقبة حظر السلاح إلى الأراضي الليبية في البحر المتوسط، وصولا إلى النقاشات الحادة التي شهدها البرلمان الأوروبي هذا الأسبوع وندواته حول السياسة التركية، كما تصريحات المسؤولين الأوروبيين.
وقال بيتر ستانو، المتحدث باسم خدمة الشؤون الخارجية للمفوضية الأوروبية، إن القضية المرفوعة عن كثب ضد المدير السابق لمنظمة العفو الدولية في تركيا وناشطين آخرين زادت من المخاوف بشأن معاملة تركيا للمدافعين عن حقوق الإنسان وساعدت في توتر علاقات تركيا مع الدول الأوروبية.
العرب