كيف يدير البيت الأبيض السياسة الخارجية الأمريكية؟

كيف يدير البيت الأبيض السياسة الخارجية الأمريكية؟

عندما تولت “سوزان رايس” منصب مستشارة الرئيس أوباما للأمن القومي قبل عامين، كانت مندهشة من نمو البيت الأبيض؛ فمنذ أن كانت رايس عضوة في مجلس الأمن القومي في عهد إدارة كلينتون، ازداد عدد الموظفين إلى أربعة أضعافهم تقريبًا، إذ وصل عددهم إلى 400 موظف.

في وقت سابق من هذا العام حاولت رايس تقليل هذا العدد، على أمل جعل عملية صنع القرار أكثر مرونة. وبحلول منتصف يوليو الماضي، قالت في مقابلة صحفية إنّه تم خفض عدد الموظفين بنسبة 6 %.

ولكن ربما يكون فات الأوان لتغيير الانطباعات عن بيروقراطية مجلس الأمن القومي الذي أصبحت رمزًا لغطرسة وجنون العظمة التي أصابت البيت الأبيض الذي يصرّ على السيطرة على أدق تفاصيل السياسة الأمريكية، في كثير من الأحيان على حساب القرارات المناسبة والفعّالة.

في وزارة الدفاع -حيث استمرت عدم الثقة في البيت الأبيض منذ بدء الإدارة- وُصِف أوباما بأنه حازم وجريء عند يتعلق الأمر بأي قرار تنفيذي سريع بشأن العمليات؛ مثل عمليات إنقاذ الرهائن واستهداف الأسرى، وعمليات القتل.

ومع ذلك، عندما أراد الرئيس التحرك بسرعة بشأن بعض المبادرات السياسية الطموح -الانفتاح على كوبا والمفاوضات النووية الإيرانية- تحايل على الممارسة المعتادة لصنع القرار، وأبقى على علاقة وثيقة بالبيت الأبيض.

تولى اثنان من كبار مسؤولي مجلس الأمن القومي -نائب مستشار الأمن القومي بنيامين رودس، والدبلوماسي الأمريكي اللاتيني ريكاردو زونيجا- المحادثات السرية التي أدت إلى إعلان الانفتاح مع كوبا في ديسمبر الماضي. لم يبلغ البيت الأبيض وزير الخارجية جون كيري حتى كانت المناقشات تسير على قدم وساق، ثم عرف مسؤولو وزارة الخارجية المسؤولين عن المنطقة بشأن هذه المناقشات مع اقترابها من الانتهاء.

نجاح تلك السياسات -جنبًا إلى جنب مع اتفاق بشأن المناخ مع الصين، والاتفاقات التجارية وغيرها من الإنجازات في الأشهر الأخيرة- عزز المعنويات الداخلية، وبالنسبة للبعض أكّد صحة الطريقة التي تعمل بها الإدارة الأمريكية.

ولكن فيما يتعلق بمجموعة من القضايا الهامة الأخرى، فإنّ مجلس الأمن القومي- الذي تأسس في عهد الرئيس الأمريكي هاري ترومان لتنسيق وجهات النظر الدبلوماسية والدفاعية المتضاربة- لا يزال يُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره المكان الذي تتجمد فيه السياسة من خلال التردد، وتتباطأ عملية اتخاذ القرار عدة أشهر، وأحيانًا سنوات من الاجتماعات المتكررة للبيت الأبيض.

في ظل معالجة تحديات وجود خلاف داخلي أو عدم وجود خيارات جيدة -الحرب الأهلية في سوريا، والروس في أوكرانيا والديكتاتورية العسكرية في مصر على سبيل المثال- كانت السياسات الأمريكية “متصلبة في أحسن الأحوال، ومكبوحة في أسوأها”، وذلك وفقًا لما ذكره مسؤول كبير في وزارة الدفاع.

وقال المسؤول: “يبدو أنّ الوقت هو المنتج الوحيد لهذه العملية. المزيد من الوقت والاجتماعات والمزيد من المناقشات”.

البعض الآخر يستشيط غضبًا من أن مجلس الأمن القومي تولى التعامل مع قضايا كان ينبغي أن يتم التعامل معها في أي مكان آخر بالحكومة. مدير وكالة المخابرات المركزية ووزير الدفاع السابق ليون بانيتا، الذي ترك الإدارة في فبراير عام 2013، تحدث عن “المركزية المتزايدة للسُلطة في البيت الأبيض” و”النزعة إلى السيطرة” التي شملت، في حالته، تقديم الخطب، وطلبات إجراء المقابلات للحصول على موافقة البيت الأبيض.

هيكل الإدارة الأمريكية في عهد جيمي كارتر (1977)

أما سلفه في وزارة الدفاع، روبرت غيتس، قال إنّ “الإدارة التفصيلية” من قِبل البيت الأبيض في عهد أوباما “تدفعني إلى الجنون”.

الكثيرون داخل الإدارات والوكالات بمجلس الوزراء يشكون من أنّ خبراتهم وتجاربهم يتم الاستخفاف بها، وأنهم خاضعون لأهواء المسؤولين الأقل دراية في مجلس الأمن القومي. مع هذا الهيكل الكبير الذي يطابق إداراتهم في بعض المجالات، يرى كبار المسؤولين مجلس الأمن القومي باعتباره مغتصب لسلطتهم ومسؤولياتهم، ويجعلهم يشعرون بالإحباط وبأنّه لا قيمة لهم.

وقال مسؤول رفيع المستوى ترك الإدارة مؤخرًا: “إذا كان وكلاء الوزراء، والنواب المساعدون ليس لديهم شعور بالسلطة والمساءلة، فإنهم يميلون إلى الشعور بالإحباط. وعندما لا تشعر الوزارات الكبيرة مثل وزارة الدفاع أو الخارجية أو غيرهما بقدر من المشاركة في صناعة القرار، تحدث معاناة في عملية التنفيذ. إنها الطبيعة البشرية”.

هناك آخرون أقل دبلوماسية في ردود أفعالهم من بينهم مسؤول كبير في وزارة الخارجية الذي صرّح قائلًا:”أي مسؤول غبي من مجلس الأمن القومي يمكن أن يدعو إلى عقد اجتماع ووضع جدول الأعمال أيضًا”.

أكثر من اثني عشر من كبار المسؤولين الحاليين والسابقين في الإدارات والأجهزة الأمنية القومية، وفي البيت الأبيض، تحدثوا عن مجلس الأمن القومي في هذا المقال، وبعضهم ناقش هذا الموضوع في العديد من المقابلات. تحدث معظمهم بشرط عدم الكشف عن هويته، سواء عند الانتقاد أو الثناء.

خارج الإدارة الأمريكية، انتقد بعض المشرعين وخبراء السياسة والباحثين التضخم الكبير في عدد موظفي مجلس الأمن القومي، وأنّه يعجّ بما يصفونهم بالمساعدين الذين لا يثقون في باقي أعضاء الحكومة ويرون حماية الرئيس على أنها وظيفتهم الأساسية، وأنّ ذلك ساعد في جعل السياسة الخارجية لأوباما غير فعّالة، ومتجنبة للمخاطر.

وقال ديفيد روثكوبف، الذي كتب كثيرًا عن تاريخ وبنية مجلس الأمن القومي وخدم في إدارة كلينتون: “هناك مشاكل تتطلب حلولاً من الحكومة بأكملها. أنا لم أر قط إدارة تقول ولا تفعل“.

التذمر حول كيفية عمل البيت الأبيض ليس بالأمر الجديد في إدارة أوباما فحسب. لقد ازداد عدد موظفي مجلس الأمن القومي إلى حد كبير في عهد كل رئيس أمريكي منذ جيمي كارتر، ولكن حجم وتدخل مجلس الأمن القومي في عهد أوباما جعل منه هدفًا بارزًا.

يعتقد البيت الابيض أنّ بعض مسؤولي الإدارة يلقون باللوم على مجلس الأمن القومي؛ لإخفاء الفوضى والخلافات داخل إداراتهم، أو عندما لا يتم تنفيذ القرارات.

وقال رودس: “أنا لا أقول إنه ليست هناك إدارة تفصيلية في مجلس الأمن القومي؛ بل هناك بالفعل إدارة تفصيلية داخل المجلس. لكن في بعض الأحيان أعتقد أن مجلس الأمن القومي يصبح بمثابة البعبع“.

عدم الوصول إلى مرحلة “نعم ولا”

“هذا ومن المرجح أن يُزعج الجميع،” هكذا قال أوباما في اجتماع بمجلس الأمن القومي في مارس الماضي، عندما قرر إنهاء الجدل الداخلي الذي استمر 18 شهرًا من خلال الإفراج عن شحنات الأسلحة، وإرسالها إلى مصر.

هذه الأسلحة -F-16 طائرة، ودبابات ابرامز وصواريخ هاربون- كانت معلقة منذ الانقلاب العسكري في يوليو 2013 ضد الرئيس المنتخب محمد مرسي، وتنصيب الجنرال عبد الفتاح السيسي رئيسًا لمصر.

وتبع ذلك عدة أشهر من الجدل حول ما إذا كان يجب وصف هذا الإجراء العسكري بالانقلاب أم لا- وهي تسمية من شأنها وقف جميع المساعدات العسكرية- قرر البيت الأبيض أن يُبقي على جميع خياراته مفتوحة.

ستستمر بعض المساعدات في حين سيتم حجب المعدات العسكرية الكبيرة كرسالة تشير إلى عدم الموافقة. أمر أوباما بإعادة النظر في العلاقة الشاملة للمساعدات الأمريكية مع مصر، الحليف الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وقال إنّه لن تتم استعادة الشراكة الكاملة بين البلدين حتى يتخذ السيسي خطوات نحو الديمقراطية المستدامة، وغير العنيفة.

ومع استمرار تلك المراجعة لعدة أشهر، زاد الغضب الداخلي.

قال جون كيري وتشاك هاجل وزير الدفاع -آنذاك- إنّ الولايات المتحدة تحتاج مصر باعتبارها حليفًا مسلحًا بشكل جيد ويمكن الاعتماد عليه في المنطقة، ومن ثم يجب استعادة مساعدات الأسلحة. لكنّ الدول الشريكة في منطقة الخليج -الغاضبة بسبب رفض أوباما للقيام بعمل عسكري في سوريا-  حذّرت من أنّ الإدارة الأمريكية كانت تُقصي مصر في الوقت الذي كان يجب فيه أن تعمل معها.

الآخرون، بمن فيهم مسؤولو الإدارات برئاسة كل من كيري وهاجل، إلى جانب سامانثا السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة والمدافعين عن حقوق الإنسان في الخارج، كان لهم وجهة نظر مختلفة. وأصروا على أنّ أوباما بحاجة إلى علامة من المصريين تدل على أنهم مستعدون لوقف اعتقال المعارضين السياسيين والصحفيين، والإفراج عن المعتقلين، ووقف التعامل مع المعارضة من خلال القتل والإعدام.

وفي الوقت الذي قرر فيه أوباما رفع الحظر المفروض على الطائرات وغيرها من المعدات العسكرية باهظة الثمن، لم تتغير وجهة نظر المسؤولين. ولم يتم تحقيق الكثير في مجال حقوق الإنسان. ومن ثم تعمقت عدم ثقة السيسي في الإدارة الأمريكية، ورأى شركاء الخليج أنّ الإدارة خذلتهم مرة أخرى.

بالنسبة للكثيرين في الداخل، كانت سياسة مصر مثالاً بارزًا على فشل مجلس الأمن القومي للجمع بين وجهات النظر المتباينة داخل مجلس الوزراء وبين الخيارات الجديدة لقرار رئاسي في الوقت المناسب.

يرى البيت الأبيض ظواهر مختلفة في العمل؛ منها عدم قدرة وكلاء الوزارات على تحقيق الوحدة داخل الوزارات، والشعور بالاستياء في الجانب الخاسر. وفيما يتعلق بمصر وأوكرانيا، حيث كان هناك تردد مماثل بشأن اتخاذ قرارات نهائية، كان هناك اختلاف جانبي بين الوزراء والمسؤولين. وفي كلا البلدين هناك مجموعة من القضايا كان يجب أن تذهب القرارات المتعلقة بها مباشرة إلى الرئيس ولكن لم يتم الإعلان عن تلك القرارات.

وقال أحد المسؤولين البارزين: “إننا نعمل على إصلاح ذلك. إنها مشكلة الجميع، وهذا أمر محبط للغاية“.

ومع ذلك، ظل البعض غير راضٍ. كما تحدث مسؤول كبير في وزارة الخارجية عن اجتماعات البيت الأبيض التي تُعقد كل أربعة أو خمسة أيام بشأن المسائل الحالية المثيرة للقلق، مع القليل من الوقت المستغرق لإعداد وتنسيق الوثائق اللازمة، أو النظر فيما ستتم مناقشته في اليوم السابق. في كثير من الأحيان، تكون تلك الاجتماعات مجرد إضاعة للوقت، وتكرار لنفس الحجج السابقة.

وفي مثال آخر، أشارت وزارة العدل في اجتماع رفيع المستوى في الصيف الماضي إلى أن الاقتراح المقدم بشأن وقف اعتقال الأطفال كبار السن الذين عبروا الحدود المكسيكية مع آبائهم هو أمر غير قانوني. لكنّ الاقتراح ذاته ظهر مرارًا وتكرارًا على جدول الأعمال للمناقشة من كبار المسؤولين، حتى وصل إلى أوباما في النهاية الذي أشار إلى أنه بالإضافة إلى كونه غير حكيم، فهو غير قانوني على الأرجح.

في بعض القضايا، كانت الاجتماعات على مستوى نواب الوزراء -المكان الذي من المفترض أن يتم فيه تصفية الخيارات قبل مداولة رؤساء الإدارات ومن ثم الرئيس- متكررة حتى العام الماضي لدرجة أنّ النواب توقفوا عن الحضور، وأرسلوا وكلاءهم.

وقال أحد المسؤولين: “لقد كان مثل يوم فأر الأرض دون أي تقدم ولا تحسن. وحتى أكون منصفًا، كانت هذه مسائل صعبة. ولكن في نهاية المطاف، لا بدّ من الاختيار“.

وقال مسؤول سابق في البيت الأبيض: أعتقد أنّ الشيء الخاطئ بالأساس في طريقة عمل مجلس الأمن القومي هو أن هناك الكثير من الإجراءات. هناك الكثير من النقاش في وجهات نظر وتوصيات كل الوكالات، والقليل من القرارات. لا بدّ أن يكون هناك صانع قرار، ويضيف: “نحن في طريقنا للقيام بهذا، ونحن لن نفعل ذلك“.

تتعلق التأخيرات الحاسمة بما ستبدو عليه تلك السياسة بقدر ما تتعلق بحقيقة السياسة نفسها. أثناء جلسات مجلس الأمن القومي في مطلع العام الماضي بشأن قائمة أوكرانيا بالمساعدات العسكرية المطلوبة “تم النظر إلى معظم المعدات بأنها عسكرية بدرجة كبيرة“، وذلك وفقًا لما ذكره مسؤول كبير في وزارة الدفاع. “لم نكن متأكدين حول مدى استعداد روسيا لمساعدة الانفصاليين، وما إذا كان هذا من شأنه أن يستفزهم“.

في البداية، تمّت الموافقة على الحاجة الملحة من الجيش الأوكراني للبطانيات والوجبات المعبئة. وكان السؤال يدور حول كيفية نقل هذه الأشياء إلى هناك.

وأوضح المسؤول أنّه خلال اجتماعات مجلس الأمن القومي المتعددة، كان هناك الكثير من النقاش حول البصريات، وما إذا كان سيتم إرسال المعدات عن طريق طائرة شحن عسكرية، أو عبر الطريق البري.

في نهاية المطاف، تقرر شحن الإمدادات عبر شاحنات أوروبية مرخصة لتجنب المشهد الاستفزازي لطائرات النقل العسكرية الأمريكية على الأرض. ولكن بعد بضعة أسابيع، طار هذا المسؤول إلى مطار كييف؛ لعقد اجتماع مع المسؤولين الأوكرانيين، ليرى طائرة C-130 التابعة للجيش الأمريكي على المدرج. كان نائب الرئيس بايدن يزور البلاد، وكانت الطائرات هناك لتوصيل معدات الاتصالات وبعض الأجهزة الحساسة الأخرى.

وقال المسؤول في نقاش مطول: “مثل هذه الأمور تغيّر الحالة المزاجية وتثير الغضب. عندما كنت تتنازع بشأن كل الأمور الصغيرة، فإنّ هذا يجعل الأمور الكبيرة أسوأ من ذلك“.

المناقشات بشأن طلب أوكرانيا الحصول على أسلحة مستمرة منذ أكثر من عام حتى الآن. ولم يقل البيت الأبيض نعم، ولكنه أيضًا لم يقل لا.

النمو مع كل رئيس

تأسس مجلس الأمن القومي في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية لمساعدة الرئيس على التنسيق والتوفيق بين وجهات النظر الدبلوماسية والعسكرية، وفي البداية كان المجلس يضم الرئيس ووزيري الخارجية والدفاع. ومنذ إدارة ترومان، أضاف كل رئيس تنفيذي، أو في مناسبات نادرة قلّل، بعض القاعدين على طاولة رئاسة المجلس.

تطورت السكرتارية الصغيرة إلى هيئة موظفي الرئاسة بقيادة مستشار الأمن القومي. كما استخدم الرؤساء الموظفين بطرق مختلفة، ولكن جميعهم تقريبًا زادوا من عدد هيئة الموظفين المعروفة الآن باسم “مجلس الأمن القومي”.

عمل جيمي كارتر مع ما يقرب من 25 من موظفي مجلس الأمن القومي، ومع مستشار أمن قومي قوي وصريح هو زبيغنيو بريجنسكي، الذي تفوق على وكلاء الوزراء. بينما تعامل رونالد ريغان مع ستة من مستشاري الأمن القومي في ثماني سنوات، ومع مجلس الأمن القومي “التنفيذي” الذي تعرض إلى بعض الإخفاقات مثل فضيحة إيران كونترا.

برنت سكوكروفت، مستشار الأمن القومي لجورج بوش الابن، كثيرًا ما يُضرب به المثل باعتباره “المعيار الذهبي” لكيفية إدارة مجلس الأمن القومي بشكل فعّال. كان يخشى سكوكروفت من أن موظفي المجلس سوف يسيطرون على الوزارات، ولذلك قلّل العدد إلى 50 شخصًا.

وقال سكوكروفت في مقابلة: “لقد كان الغرض من ذلك هو التكامل بين وجهات النظر وخلق سياسة أمنية وطنية متماسكة، وليس استبدال الإدارات. وهذا دائمًا ما يكون شيئًا غريزيًا؛ فهؤلاء الرجال لا يجيدون عمل شيء يمكننا أن نفعله بأنفسنا. لكني حاولت ألّا أفعل ذلك“.

في عهد بيل كلينتون، تضاعف عدد موظفي مجلس الأمن القومي إلى ما يقرب من 100 شخص. وفي عهد جورج دبليو بوش تضاعف مرة أخرى إلى 200 شخص.

وجاء أول مؤشر بشأن كيف ينوي أوباما استخدام مجلس الأمن القومي مع التوجيه الرئاسي السياسي الأول، الذي صدر بعد ثلاثة أسابيع من توليه الرئاسة. وفقًا للهيكل الذي صممه سكوكروفت، أنشأ المجلس لجنة من وكلاء الوزراء وكبار المسؤولين في الوكالة، برئاسة مستشار الأمن القومي، لتكون المحطة الأخيرة قبل وصول الخيارات السياسية للرئيس.

لجنة النواب، المكّونة من المسؤولين من المرتبة الثانية في المجلس، تحلل القضايا والخيارات قبل أن تصل إلى رؤساء الإدارات، وتتعامل مع تنفيذ سياسة إدارة الأزمات، والأجهزة الرقابية بشكل يومي.

على المستوى الثالث، تحدد اللجان المشتركة ما سيتم رفعه إلى النواب. وفي الإدارات السابقة، تترأس اللجان إدارة أو وزارة قيادية؛ مثل وزارتي الخارجية أو الدفاع. ووجه أوباما نقل تلك اللجان إلى البيت الأبيض، برئاسة مجلس الأمن القومي.

المسؤولون السابقون الذين شاركوا في الفترة الانتقالية لأوباما في البيت الأبيض، والذين عملوا بعد ذلك في الوظائف العليا بالإدارة، وصفوا هذا القرار بأنّه محرك حاسم نحو مزيد من المركزية. وقال أحدهم: “لقد كان قرارًا واعيًا لرفع دور مجلس الأمن القومي من خلال رئاسته لتلك اللجان“.

ولكنه لم يكن السبب الوحيد للزيادة في عدد موظفي المجلس.

ازداد عدد الموظفين بنسبة 35% تقريبًا، عندما دمج أوباما مجلس الأمن الوطني الذي أسسه سلفه في مجلس الأمن القومي. وأكثر من نصف موظفي مجلس الأمن القومي اليومي -وكثير منهم من الموظفين المستعارين من الوكالات الأخرى الذين لا يتقاضون رواتبهم من البيت الأبيض- هم كما تصفهم رايس “رجال سياسة.” وتنقسم البقية بين الموظفين في الإدارة وفي قسم الموارد البشرية وحوالي 100 موظف من مزودي خدمات الدعم التقني، بما في ذلك من يحرسون غرفة العمليات في البيت الأبيض في نوبات عمل على مدار 24 ساعة في اليوم.

التوظيف في “الإدارات” التقليدية و”لجان التنسيق” التابعة لمجلس الأمن القومي يُجري تنظيمه من خلال المناطق الجغرافية، لكنه يتضخم مع كل أزمة جديدة. في الآونة الأخيرة، أدت القضايا المثيرة مثل الأمن الإلكتروني والصحي -بما في ذلك فيروس إيبولا- إلى زيادة في عدد الموظفين.

وتعقد كل منطقة اجتماعات يديرها البيت الأبيض، في كثير من الأحيان تكون جلسات متداخلة من رؤساء لجان مجلس الأمن القومي بشأن الجوانب الأمنية والاقتصادية والدبلوماسية لنفس المشكلة. في كل اجتماع، يتم تكليف كل من مجلس الأمن القومي والموظفين بكتابة ورقة عن القضايا والخيارات المتاحة تتخطى عشرات الصفحات.

رايس، التي تولت العمل مع تجربة سابقة فريدة من نوعها في مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية وكعضوة في مجلس الوزراء خلال فترة أوباما الأولى، قاومت رغبتها الأولي في خفض الموظفين حتى فهمت أسباب النمو. هذا العام، وكجزء من مراجعتها، أدرجت مكاتب مجلس الأمن القومي المنفصلة والمسؤولة عن شؤون أفغانستان وباكستان مرة أخرى في إدارة جنوب آسيا. وقد استند تنفيذ الاتفاق النووي الإيراني الأخير في وزارة الخارجية، جنبًا إلى جنب مع منسق التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ضد تنظيم الدولة الإسلامية.

كما تم إغلاق المكتب الذي اُفتتح في مجلس الأمن القومي في العام الماضي لتنسيق الاستجابة بين الإدارات بشأن وباء الإيبولا، في ظل انتهاء تلك الأزمة.

لكن رايس دافعت بقوة عن المؤسسة في المقام الأول. بمشاركة مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها، ووزارة الدفاع ودوائر الصحة والخدمات الإنسانية، والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، وقالت رايس: إنّ الرد الأمريكي “لم يكن ناجحًا حتى رجعنا إلى البيت الأبيض، واستخدم الرئيس نفوذه الشخصي“.

الجميع يشارك في إدارة السياسة الخارجية

في صباح كل خميس منذ هجمات سبتمبر عام 2012 على السفارة الأمريكية في بنغازي، يتجمع كبار المسؤولين من خمس إدارات حكومية في البيت الابيض؛ لإجراء محادثات حول أمن المنشآت الأمريكية والأفراد في الخارج.

حماية الدبلوماسيين وغيرهم من الأمريكان في الخارج هي مسؤولية أساسية تقع على عاتق وزارة الخارجية. ولكنّ عقد محادثات أسبوعية من قِبل مجلس الأمن القومي برئاسة ليزا موناكو، كبيرة مستشاري أوباما لمكافحة الإرهاب، التي توجّه المناقشات نحو أماكن التهديدات الخطيرة وأي نوع من الحماية ينبغي أن تكون متاحة.

بالنسبة للبيت الأبيض، هذا يؤدي إلى الشعور بالكمال. العديد من الإدارات لديها موظفون يعملون في الخارج، والعديد من الموارد المقررة لحمايتهم توجد خارج وزارة الخارجية.

وقال مسؤول سابق في البيت الأبيض: “كان المعتاد هو أن تدير وزارة الخارجية السياسة الخارجية. والآن، بات الجميع يشارك في هذا الأمر. حول الطاولة، يحصل الجميع على نصيبه، جميع الإدارات لديها عاملون في الميدان، ومن ثم تجب إدارة كل هذه الأمور“.

ولكن هناك مسؤولين آخرين يربطون بين إدارة البيت الأبيض لهذه المسألة والإحراج السياسي الذي تسببت فيه هجمات بنغازي، التي أسفرت عن مقتل أربعة مسؤولين أمريكان. بعد ما يقرب من ثلاث سنوات، ما زالت هناك لجنة تابعة للكونغرس بقيادة الجمهوريين تبحث عن دليل دامغ حول إخفاء الإدارة الأمريكية لمعلومات عن هذه القضية.

وقال المسؤول السابق: “بنغازي مثال جيد، ومرض الإيبولا أيضًا. هذه القضايا لا يمكن تركها لمراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها ووزارة الخارجية وغيرها من الإدارات. يجب أن يكون هناك قائد وفريق كامل من الأفراد. ولمَ ذلك؟ لأنّ السياسات في هذه المسألة أصبحت مزعجة ومتحدية، ولذا من الطبيعي أن يقول البيت الأبيض يجب علينا أن نراقب هذا. يجب أن نراقب كل شيء“.

كثير ما تعثرت الاجتماعات الأمنية للسفارات بشأن قضايا بسيطة، مثل ما إذا كان سيتم نشر عدد قليل من قوات العمليات الخاصة أو الموافقة على طلب وزارة الخارجية بتعيين 10 دبلوماسيين إضافيين في السفارة. وذكر أحد المسؤولين أن رقابة البيت الأبيض امتدت إلى عمليات الانتشار الخارجي لمدربي الكلاب البوليسية الخاصة.

الضغط من أجل سياسة أفضل

“إنّ أول شيء سأقوم به هو وقف الإدارة التفصيلية لمجلس الأمن القومي“، هكذا قال أنتوني بلينكن، نائب وزير الخارجية الأمريكي مازحًا، والذي ترأس أول اجتماع لكبار الموظفين في وزارة الخارجية في ديسمبر الماضي، بعد انتقاله من وظيفته بالبيت الأبيض إلى العمل كنائب للمستشارة رايس.

بلينكن، الذي عمل في العديد من الإدارات، يعرف أكثر من غيره أن منصب المرء عادة ما يشير إلى موقفه بشأن القضايا المختلفة.

وقال مسؤول آخر عن الإدارة التفصيلية: “عندما تنظر إلى الأمر من وجهة نظر البيت الأبيض، وتشعر بالقلق لأنّ هناك شيئًا يسير بشكل خاطئ، وتكون مستعدًا لما هو قادم، يمكن حينها أن تفهم كيف يحدث ذلك“.

في يناير الماضي، ومع ظل تصاعد شكاوى الإدارة الداخلية بشأن مجلس الأمن القومي، اعترفت رايس بهذه المشاكل، ولكنها أثنت على نتائج السياسات.

وقالت إذا نظرتم إلى حيث بدأنا في عام 2014، لم يكن لدينا أزمة بين أوكرانيا وروسيا، ولا مرض الإيبولا، ولا تنظيم داعش باعتباره الخطر القادم في مكافحة الإرهاب. في كل هذه الحالات من الأزمات غير المتوقعة، وعلى رأس كل الأعمال التي كنا بحاجة إلى القيام بها على أي حال، مع بعض التعقيدات وبطريقة غير مثالية في بعض الأحيان، كنا نغيّر مواقفنا حتى نحصل على نتائج أفضل.

ولكن في الوقت نفسه، قررت أنها شاهدت وسمعت ما يكفي لتعرف أن رد فعلها الأوليّ تجاه حجم وهيكل مجلس الأمن القومي قد يكون له ميزة. في إدارتها، يصمم المساعدون الرسوم البيانية الخاصة بالتوظيف ومجموعات النقاش لاستطلاع اقتراحات للتحسين. كما أُجريت مقابلات واجتماعات تنظيمية مع كبار المسؤولين.

وفي يونيو الماضي، صدر بيان على موقع البيت الأبيض وعد بمجلس أمن قومي جديد أكثر مرونة، قائم على التوجيه السياسي، مع “اجتماعات قليلة لكنها مركزة، ومزيد من التواصل الذي يمكن أن ينتج أفضل السياسات“.

وفي أواخر يوليو الماضي قالت رايس إنها كانت راضية عن النتائج. وأضافت: “نحن في طريقنا إلى الاستمرار في هذا الوضع مع بعض التعديلات في هيئة الموظفين. لكننا سنقوم بذلك بطريقة مدروسة. نحن لسنا بحاجة إلى حلول وسط من أجل هيكل المجلس“.

تختلف الآراء حول عمق هذه التغييرات. اتفق مسؤول كبير أنه في الشهر الماضي كانت هناك العديد من الاجتماعات داخل مجلس الأمن القومي والقليل من الأعمال الورقية. في حين أن مسؤولاً آخر في طريقه إلى اجتماع ثالث في البيت الأبيض مؤخرًا، لم يلاحظ أي تغيير.

التقرير