يعتقد الكثير من المتابعين للشأن الداخلي العراقي، أن الاحتلال الأمريكي لا يمكن اعتباره المسؤول الوحيد عن الانهيار السريع والمفاجئ لمؤسسات الدولة ولهيئات المجتمع المدني العراقي، حتى إن سلمنا جدلاً بالطابع المحوري والمفصلي للمؤسسة العسكرية العراقية التي جرى حلها بقرار ارتجالي من سلطات الاحتلال الأمريكي.
هناك في كل الأحوال عناصر كثيرة تظل في حاجة إلى مزيد من الدراسة والتحليل، وقد يكون من أهمها على الإطلاق الدور الذي تلعبه المؤسسة الدينية، في تسيير الشأن العام، وفي تحديد الرهانات الكبرى والمحورية للدولة.
ونزعم أن المعارضة العراقية اتخذت في عهد نظام صدام صبغة مذهبية بشكل لافت، لاسيما بعد انحصار تأثير الحزب الشيوعي العراقي، وإقدام النظام الصدامي على إعدام المفكر الإسلامي محمد باقر الصدر؛ ونعتقد أن النخب السياسية والفكرية العراقية الليبرالية والحداثية ذات الأصول الشيعية تتحمل جزءاً من المسؤولية في تطور هذا المشهد، لكونها تركت النخبة الدينية تتصدر واجهة المعارضة السياسية، الأمر الذي كان له تأثير كبير في الطابع المدني للدولة العراقية في مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي وبداية بناء مؤسسات الدولة العراقية الجديدة.
الخطأ الثاني الذي ارتكب في العراق كان مصدره النخب السياسية السنيّة ذات التوجهات الليبرالية التي لم تكن في مستوى التحديات التي فرضها الاحتلال، لكونها تركت مقاومة الغزو الأمريكي مجالاً مفتوحاً أمام بقايا حزب البعث من جهة، والتيار الديني السنّي، ممثلاً بشكل أساسي في هيئة علماء المسلمين من جهة أخرى، وهي الهيئة التي أسبغت على مقاومة الاحتلال صبغة دينية قبل أن تزايد عليها التنظيمات السلفية المتشددة، لتُحوِّل جزءاً من المقاومة العراقية المشروعة ضد الاحتلال إلى حروب دموية مفتوحة ضد كل مكونات الشعب العراقي.
وترتب على كل هذا الانقلاب الكلي ضياع حصاد عقود من مجهود التحديث الذي مارسته المدرسة الجمهورية العراقية منذ مرحلة الاستقلال، بعد أسابيع قليلة من دخول الجيوش الأمريكية الغازية، وانهار البناء المدني والعصري للدولة كأنها قصور من الرمال، وعادت، نتيجة لهذا الزلزال المجتمعي، مكونات المجتمع العراقي الفسيفسائي التعددي، إلى ممارسة طقوس التقليد والعتاقة، كأن الدولة الوطنية الحديثة كانت مجرد واجهة تجميلية لواقع لا يزال أسيراً للصور النمطية التي تروِّج لها المشاهد المتعلقة بالحقب التاريخية المتعاقبة.
فجأة، ومن دون سابق إنذار تم استبدال الهوية الوطنية العراقية بهويات هلامية مذهبية، تجعل المتتبع للشأن العراقي يتخيل أن التاريخ قد توقف عن الدوران، وكأن الخلق يبحث بين قصاصات الماضي عن مشاهد الصراع بين علي ومعاوية؛ والمفارقة أن الأغلبية الساحقة من العراقيين مقتنعون بأنهم ليسوا في حاجة إلى دولة دينية، لكن تصوراتهم بشأن الدولة المدنية ما زالت غير محسومة، فضلاً عن أنها مرتبطة بقناعات فضفاضة وغير واضحة المعالم، الأمر الذي يجعل البعض يخلط بين الأغلبية الطائفية والأغلبية السياسية في الممارسة الديمقراطية، وبخاصة بالنسبة إلى النخب السياسية الشيعية.
أما النخب السياسية السنية فمازال البعض منها أسيراً لنموذج الدولة الوطنية كما جرى تشكيله في مرحلة حكم حزب البعث، وهي مرحلة لا يمكنها أن تكون إطاراً مرجعياً لتأسيس دولة عراقية متطورة وفق قواعد جديدة، لأنها كانت مستبدة وانتقائية واعتمدت على حكم الفرد، وهمّشت حكم المؤسسات، بالرغم من أنها لم تكن مرحلة طائفية من حيث تصوراتها ومنطلقاتها.
يجب أن نعترف في كل الأحوال، بأن التصورات التقليدية التي ما زال الكثير منا يحملها بشأن الدين وعن دوره في المجتمع، مسؤولة مسؤولية كبيرة عن ضعف قواعد الدولة المدنية في ممارساتنا السياسية، نظراً لإصرار قسم هائل من المجتمع الذي يعتبر أن الدين هو المكوِّن الأساسي، وقد يكون المكوّن الأوحد بالنسبة إلى الهوية، الأمر الذي يؤثر سلباً في العناصر الأخرى المحددة لهوية المجتمع ومنها اللغة والوطن.
وقد نكون في حاجة إلى مزيد من التجارب والمحن، حتى يقتنع الجميع بأن الدولة الوطنية الضامنة لقيم العدالة والمشاركة السياسية ولروح المواطنة التي تضمن المساواة أمام القانون، يجب أن تكون دولة مدنية في المقام الأول.
ولا ريب في أن ضعف الانتماء إلى قيم الدولة المدنية الجامعة لكل مكونات المجتمع، هو الذي يفسر- جزئياً أو كلياً- انضمام بعض الضباط المنتسبين إلى الجيش العراقي المنحل، إلى التنظيم الإرهابي المسمى ب«داعش»؛ وعليه لا بد لنا أن نفترض أن المرء يجب أن يكون مصاباً بأقصى درجات انفصام الشخصية حتى ينتقل من الدفاع عن دولة عراقية بحدودها الإقليمية المتعارف عليها، إلى الدفاع عن كيان خيالي يتصور أنه ما زال بالإمكان تحويل المواطنين إلى رعايا في سياق تنظيم مؤسسي لا هوية له، مهما كانت الأسباب والمبررات، لأن الرغبة العارمة في استعادة «حقوق» المكوّن السني يجب ألا تمر عبر اعتماد الخيارات المدمّرة لهوية الشعب العراقي.
يجب الاعتراف في الأخير، بأن استقرار العراق وأمنه وانتصاره على قوى التطرف والإرهاب يجب أن يتجسد عبر مسار الإيمان المشترك بفضائل ومزايا الدولة المدنية، التي يتراجع فيها الانتماء إلى الطائفة لمصلحة الانتماء إلى الوطن، ويمكن للعراقيين، من سنة وشيعة، أن يخلقوا مناخاً جديداً للمواطنة قادراً على استيعاب بقية المكونات الأساسية، وفي طليعتها المكون الكردي، الذي يمكنه أن يتخلى تدريجيا عن تطلعاته الانفصالية عندما يُلاحظ أن الدولة المدنية العراقية الجديدة قادرة، بأجهزتها ومؤسساتها وقياداتها وكوادرها، على أن تضمن المشاركة السياسية للجميع.
ويمكن القول في الأخير، إن الدولة المدنية شأنها في ذلك شأن الحالة المدنية للأشخاص، تستطيع أن تضمن للشعوب إمكانية بناء شخصيتها والحصول على استقلاليتها وعلى وجودها المادي والمعنوي، في استقلال نسبي عن المكونات الطائفية التي قد تكون سبباً للفرقة والصراع بين مكونات المجتمع الفسيفسائي، لأن أحكام المواطنة تمنح للجميع القدرة على المساواة أمام القانون؛ وقد يكون الشعب العراقي الذي يواجه التقتيل والتفجير اليومي، بناءً على عناصر المعتقد والطائفة، أحوج الشعوب العربية إلى دولة مدنية وعصرية قادرة على تضميد الجراح وتحقيق المصالحة الوطنية التي ينتظرها كل العراقيين.
الحسين الزاوي
صحيفة الخليج