وصلنا إلى مرحلة اللاعودة في أسواق النفط، والحل الأمثل الآن هو ترك الأسعار المنخفضة تحدّد من سيخرج من السوق. لا شكّ أن خسائر الدول المنتجة كبيرة، ولكن بعد خروج المنتجين عاليي التكلفة، والأقل كفاءة، ومرتفعي المديونية، سينخفض إنتاج النفط العالمي بشكل ملحوظ، وسترتفع الأسعار، وسيتم التعويض عن الخسائر الحالية.
وصلنا إلى مرحلة تبين فيها أنه حتى من دون حرب أسعار، ومن دون زيادة السعودية لإنتاجها، فإن أسعار النفط كانت ستنخفض في كل الحالات إلى مستويات قريبة من الحاليّة. فالطلب على النفط انخفض بنحو 18 مليون برميل أو أكثر نتيجة عمليات الحظر لأكبر الاقتصادات في العالم بسبب فيروس كورونا، وهذا وحده كافٍّ أن يخفّض أسعار النفط إلى مستويات قريبة من المستويات الحالية.
وكما ذكر البعض فإن تخفيض السعودية لأسعار نفطها الرسمية، ثم قرار زيادة الإنتاج، لعب دور المسرّع في التخفيض، إلا أن الانخفاض في الأسعار كان سيحصل على كل حال.
ونتيجة انخفاض الطلب على النفط، خفّضت المصافي في أنحاء العالم كافة نسب تشغيلها، الأمر الذي رفع مستويات المخزون وأجبر شركات أنابيب النفط في الولايات المتحدة على إرسال رسائل إلى المنتجين بضرورة وقف الإنتاج.
وأشارت بعض شركات النفط الصخري إلى أنها قامت بإغلاق بعض الآبار ابتداءً من الأسبوع الماضي. كما أعلنت شركات عالمية وفي المجال الصخري وغيرها عن تخفيض كبير في إنفاقها الاستثماري، الذي يسهم في تخفيض الإنتاج مستقبلاً.
والآن لنا أن نتصوّر الموقف التالي: قيام السعودية بتخفيض الإنتاج، مع هذا الانخفاض الهائل الذي لم يسبق له مثيل في الطلب على النفط، ماذا سيحصل للأسعار؟ ماذا سيحصل لإيرادات الحكومة السعودية؟ من الواضح الآن أن الحل هو زيادة الإنتاج إلى أقصى حدّ ممكن، بحيث تعوض زيادة الكمية عن جزء كبير من الانخفاض في الأسعار كي تتمكن الحكومة من الإيفاء بالتزاماتها الداخلية والخارجية، وكي تتمكن من تحقيق أهدافها من التخفيض، المعلن منها وغير المعلن.
وتم الإعلان أول من أمس عن أن السعودية سترفع صادراتها في شهر مايو (أيار) بمقدار 600 ألف برميل يومياً إلى مستوى قياسي قدره 10.6 مليون برميل يومياً. وكي نفهم هذا المستوى علينا أن نقارنه بكبار مصدري النفط في العالم: روسيا والولايات المتحدة. هذه الصادرات أكثر من ضعف صادرات روسيا ونحو ثلاثة أضعاف صادرات الولايات المتحدة. وتأتي هذه الزيادة نتيجة استخدام المزيد من الغاز في قطاع الكهرباء على حساب النفط، ونجاح برامج رفع الكفاءة في استخدام الكهرباء التي خفّضت استهلاكها نسبياً، وانخفاض الأنشطة الاقتصادية الناتجة عن الحظر بسبب كورونا.
هذه السياسة تتواءم مع فكرة أن الأفضل ترك الأسعار المنخفضة تحدّد من سيخرج من السوق ومن سيبقى. فقد أسهمت الأسعار المرتفعة نسبياً في وجود شركات منتجة لا يمكنها الاستمرار لولا هذه الأسعار.
“انخفاض الطلب” مقابل “دمار الإنتاج”
انتشر تعبير “دمار الطلب” بشكل كبير في الفترات الأخيرة في وسائل الإعلام الغربية، وهو استخدام خاطئ لأن تعبير “دمار” يعني فقده نهائياً وعدم استرداده. فالخبراء متفقون على أن الطلب ونموه سيعودان كما كانا بعد الانتهاء من أزمة كورونا، وبالتالي فإن الأفضل استخدام تعبير “انخفاض الطلب”.
إلا أنه يمكن استخدام التعبيرين مع الإنتاج، لأن جزءاً منه سينخفض وجزءاً آخر سيدمر. الأول سيعود كما كان مع ارتفاع الأسعار، والثاني لن يعود إطلاقاً مهما كانت الأسعار. فعلى سبيل المثال، ستغلق شركات عدة بعض الآبار مؤقتاً بانتظار أسعار نفط أعلى. هذا انخفاض في الإنتاج. ولكن هناك آباراً “حدية” تنتج بضع براميل يومياً. هذه الآبار تنتج كميات كبيرة من الماء يجب شحنها إلى أماكن خاصة لتنظيفها وإعادة تدويرها، فإذا انخفضت أسعار النفط بحيث أصبحت الإيرادات أقل من التكاليف، فإنه يتم إغلاق هذه الآبار إلى الأبد. ويقدّر إنتاج الولايات المتحدة من هذه الآبار بين 900 ألف برميل إلى 1.4 مليون برميل يومياً.
وبما أن الطلب على النفط سيعود كما كان، ولكن الإنتاج سيكون أقل ولن يعود كما كان، في وقت ليس فيه طاقة إنتاجية فائضة لأن كل الدول تنتج بطاقتها الإنتاجية الفائضة، فإن أسعار النفط سترتفع مستقبلاً. إلا أنها لن تستمر في الارتفاع لأنه مع وصول الأسعار إلى حدود معينة ستبدأ الصين ببيع ما خزّنته ضمن الاحتياطي الاستراتيجي لمنع الأسعار من الارتفاع. ولكن هذه الفترة لن تطول وستعاود الأسعار اتجاهها الصعودي.
أما إذا قرّرت الدول المنتجة أن تخفّض الإنتاج الآن، فإن دمار الإنتاج لن يحصل، وبالتالي فإن المشكلة ستتكرر في المستقبل مرة أخرى: انخفاض دائم في الأسعار بسبب الإنتاج المرتفع المدعوم من دول أوبك+. والواقع أنه كان من الممكن منذ البداية تلافي الوضع، ولكن فات الأوان، ودفعت دول الخليج الثمن، ولن يؤدي تخفيض الإنتاج حالياً إلى استراداد الخسائر.
خلاصة الأمر، فات أوان أي اتّفاق يقضي بتخفيض الإنتاج، والأفضل ترك الأسعار المنخفضة لتحدد من سيخرج من السوق. إلا أن عودة السعودية إلى إدارة السوق مهم وقتها لأن أسواق النفط، كما ذكرت في مقال سابق، تحتاج إلى إدارة بهدف زيادة الكفاءة وتقليل الهدر والحدّ من الذبذبة في الأسعار.
أنس بن فيصل
اندبندت عربي