ما من شك في أن الشعار الذي ساهم بحسم التردد لدى الرئيس العراقي برهم صالح وتبني خيار تكليف رئيس كتلة النصر البرلمانية نائب مدينة النجف عدنان الزرفي لتشكيل الوزارة العراقية العتيدة، هو شعار “حصرية السلاح بيد الدولة ورفض أي دور لأي من الأحزاب السياسية التي تملك جناحاً أو ميليشيا عسكرية”، كون هذا الأمر يمثل المطلب الأساس لدى غالبية الأطراف العراقية المعارضة للهيمنة الإيرانية من جهة، ويلبي الطموحات الأميركية في استعادة الدور وتحجيم النفوذ الإيراني، ويرضي القوى الإقليمية التي اتخذت موقف المتردد في الانفتاح على العراق في ظل هذا النزاع ورجحان الكفة الأمنية لصالح الغريم الإيراني الذي يسعى لتعزيز تمدده على العديد من العواصم العربية.
وعلى الرغم من هذا الشعار، وربما الرغبة الكبيرة لدى الزرفي ومؤيديه في تطبيقه، إلا أن الوقائع الميدانية والحقائق السياسية والأمنية والعسكرية تضع هذه الرغبة في دائرة الأمور المستعصية، ما قد يفرض عليه (الزرفي) والآخرين في الداخل والخارج، العودة إلى اعتماد البراغماتية والتدرج في تحقيق هذه الرغبة وإنزالها إلى مستوى التعامل التكتيكي تمهيداً للوصول بها إلى مستوى الهدف الإستراتيجي.
الخطوات التي قام بها الزرفي على طريق تثبيت خيار تكليفه بتشكيل الحكومة العتيدة، خصوصاً اللقاء الذي جمعه مع سفراء الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، وتأكيده أمامهم على مبدأ “العراق أولاً” والحرص على إبعاد العراق عن الصراعات الإقليمية والدولية ومنع تحوله إلى ساحة لتصفية الحسابات بين بعض الدول الإقليمية والقوى الدولية (إيران وأميركا)، إضافة إلى تمسكه بمبدأ حصرية السلاح وإنهاء نفوذ المليشيات، قد تشكل مؤشراً إلى مستوى الغضب الذي سيطر على مواقف بعض الفصائل المقربة من إيران والتي تعتبر جزءاً من فصائل الحشد الشعبي من دون أن تكون جزءاً من منظومته القانونية كأحد صنوف القوات المسلحة.
ولعل الأسباب التي دفعت هذه الفصائل المسلحة إلى رفع مستوى التهديد بوجه الزرفي ورفض تكليفه، لا تعود فقط لهذا التوجه في التعامل مع منظومة السلاح خارج الدولة، فقد سبق أن وافقت هذه الفصائل في عهد رئيس الوزراء حيدر العبادي على الفصل بين الجناحين السياسي والعسكري، وأن ينخرط الجانب السياسي في العملية السياسية والانتخابات البرلمانية الأخيرة عام 2018 على أن ينضوي وينضبط الجناح العسكري في منظومة هيئة الحشد الشعبي ويلتزم بقراراتها كجزء من القوات المسلحة الخاضعة لأوامر وسلطات القائد الأعلى للقوات المسلحة رئيس مجلس الوزراء.
ولم تعترض هذه الفصائل أيضاً على الأمر الديواني الذي أصدره رئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي الذي حدد مهلة زمنية لا تتعدى الشهر لهذه الفصائل لتسليم سلاحها ومقراتها للدولة، وإخراج مقرات هيئة الحشد الرسمية من داخل التجمعات السكنية. وفي وقت، ومنذ شرعنة وقوننة هيئة الحشد الشعبي، اختارت فصائل مثل حركة النجباء وكتائب “حزب الله” البقاء خارجها، الأمر الذي سهّل على الإدارة الأميركية حينها أن تضعهما مع فصيل عصائب أهل الحق على لائحة المنظمات الإرهابية.
قد لا تكون هذه الأبعاد فقط هي السبب في رفض تكليف الزرفي، فهو لا يجهل صعوبة الانقلاب في هذه المرحلة على قانون الحشد والتداعيات التي قد يؤدي إليها وإمكانية أن يطيح ذلك بطموحاته السياسية في قيادة العراق في هذه المرحلة الانتقالية والتأسيس للمرحلة جديدة، إلا أن هناك أبعاداً أخرى قد تكون أكثر تعقيداً وعلى علاقة بلعبة التوازنات بين النفوذ الإيراني والرغبات الأميركية في تحجيم دور طهران على الساحة العراقية، وإن انتفاضة هذه الفصائل بوجه الزرفي والأطراف الداعمة له داخلياً وإقليمياً ودولياً، قد يكون مردها إلى ارتفاع منسوب الخطر الذي تستشعره طهران من المساعي والجهود الأميركية التي خرجت من دائرة التفاهم غير المعلن إلى المواجهة المباشرة عندما قررت واشنطن كسر قواعد الاشتباك بينهما باغتيال قاسم سليماني على الأراضي العراقية. وبالتالي الانتقال إلى مرحلة جديدة من انتهاء فترة السماح الأميركية للطرف الإيراني بالتحكم بالدولة العراقية ومؤسساتها ومصيرها ومسارها.
من هنا، يمكن فهم الأسباب وراء ارتفاع حدة التهديدات والتحذيرات الصادرة عن طهران وبعض الفصائل العراقية الموالية لها، وتحديداً كتائب “حزب الله” وحركة النجباء من مغبة أن تلجأ واشنطن إلى عمل أو انقلاب عسكري في العاصمة بغداد لفرض إرادتها على العملية السياسية، فطهران مع هذه الفصائل تعتبر أن مثل هذا التحرك هو بمثابة انقلاب على العملية السياسية وحق هذه الفصائل في لعب دور محوري في تسمية رئيس الوزراء والتشكيلة الحكومية.
في المقابل، فإن واشنطن والأطراف المقربة منها على الساحة العراقية والتي تتحفز لإعلان دعمها ومساندتها للزرفي في مواجهة التحديات التي تضعها المعارضة أمام فرصته في تشكيل الحكومة، تدرك بوضوح صعوبة تخطي الدور والتأثير الإيراني والفصائل الموالية لطهران، ومن أجل الحفاظ على الفرصة السانحة والتمسك بوصول شخصية غير مقربة من إيران إلى رئاسة الوزراء، قد لا تجد حرجاً في الذهاب للبحث عن تسوية تفتح الطريق وبكثير من البراغماتية أمام الرئيس المكلف لتشكيل الحكومة والمراهنة على قدرته في فرض رؤيته في إدارة الدولة والحد من تأثير الفصائل المسلحة ومصادرتها القرارات السياسية وهيمنها الاقتصادية على البلاد.
وإذا ما أراد الزرفي، الذي لا يبذل جهداً كبيراً لإخفاء تمسكه بفرصته للدخول إلى نادي رؤساء الحكومة العراقية، أن يستمر في المهمة الموكلة له، فمن غير المستبعد أن يلجأ إلى تدوير الزوايا مع هذه الفصائل لضمان وقوفها إلى جانبه داخل البرلمان، وان كانت المؤشرات تتحدث عن إمكانية تمرير الحكومة بالأصوات المطلوبة من خارج المكون الشيعي الذي لن يمنحه سوى عدد محدد من الأصوات من خارج التأثير الإيراني، فهل يفعلها الزرفي ويذهب إلى تسوية مع هذه الفصائل؟ وما هو الثمن الذي سيقدمه لها من أجل الحصول على موافقتها؟ وهل ستسمح واشنطن بالتفريط بهذه الفرصة التي تسمح لها بتحجيم التأثير الإيراني؟
أسئلة تبقي الأمور في العراق مفتوحة على كل الاحتمالات بما فيها إمكانية أن يستنفد الزرفي المهلة الدستورية للتشكيل ومن ثم البحث عن بديل تتوفر فيه الشروط المشتركة بين واشنطن وطهران وحلفائهما العراقيين.
حسن فحص
ندبندت عربي