التظاهرات الغاضبة التي تشهدها العاصمة، وبعض محافظات العراق، هذه الأيام، واقتصارها على لونٍ طائفي واحد تعودُ بذاكرتنا إلى تظاهراتٍ مماثلةٍ خرجتْ في المحافظات السُنيَّة نهاية العام 2012، واقتصرت أيضًا على لونٍ طائفي واحد، وهي التظاهرات المعروفة باسم الحركة الاحتجاجية التي أمضتْ عامًا كاملًا في ساحات الاعتصام، دون أنْ تحققَ أهدافها المنشودة، وهي التظاهرات المتّهمة بالإرهاب من قبل حكومة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي تعامل معها بقوة السلاح، كما في مجزرة الحويجة في نيسان/ أبريل 2013 التي راح ضحيتها العشرات، أو فض اعتصام الرمادي بالقوة واحراق خيم المحتجين في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2013، ودخول المحافظات السُنيَّة في دائرة المواجهات المسلحة التي ما لبثت أن تحولت إلى نزاع مسلح يقوده تنظيم الدولة الإسلامية في مواجهة أطراف عدّة.
بعد الاحتلال الأمريكي مباشرةً، أقرّت الولايات المتحدة عمليةً سياسيةً على أنقاض مؤسساتِ دولةٍ قامت بتفكيكها بهدف إعادة بنائها من جديد. وقد استثمرت السياسة الإيرانية تلك العملية بمجملها لضمان هيمنة الأحزاب الدينية الشيعية على السلطة، والنفوذ، من خلال صناديق الاقتراع، كوسيلةٍ مُثلى تتفق تمامًا مع وجهة نظر المرجعيات الشيعية في العراق التي رأت “أنّ العراقيين، هم من يحددون مستقبلهم دونَ تدخلاتٍ خارجية“، وأنّ “شكل نظام الحكم في العراق يحددهُ الشعب العراقي وآلية ذلك أنْ تُجرى انتخابات عامة لكي يختار كلّ عراقي مَنْ يمثله في مجلسٍ تأسيسي لكتابة الدستور“، كما جاء في موقع المرجع الشيعي علي السيستاني.
يمكن أنْ تكون المحاصصة الطائفية التي شرعتها سلطة الحاكم المدني، السفير بول بريمر، هي المُنتَج الأسوأ للغزو الأمريكي للعراق. وقد ظلّ العراق يعاني من أزماتٍ متتاليةٍ أدتْ إلى خلق دائرة واسعة من الخلافات بين المكونات الرئيسة، وكذلك بين الأحزاب السياسية، وهو ما ولّدَ دوامةً من العنف الذي لا يمكن التنبؤ بنهايته القريبة بسبب تعدد دوافعه، وتداخلها، وتعدد الأطراف، وتنوع أجنداتها، وارتباطاتها بسياساتٍ إقليميةٍ، أو دوليةٍ.
شكّلتْ أحداث الموصل 2014، علامةً فارقةً في تاريخ العراق المعاصر الذي لا يمكن النظر إليه بالرؤية ذاتها لما هو عليه قبل أحداث الموصل التي أفصحت تداعياتها العاجلة عن حقيقةِ مجتمعٍ تتعايشُ مكوناته الطائفية، والعرقية، بشكلٍ قسري؛ حيث لمْ تعدْ الهوية الوطنية العراقية هي الهوية الجامعة لكلّ العراقيين، العرب والأكراد، السُنَّة والشيعة، كما كانت من قبل؛ إذ برزت الهويات الفرعية بشكلٍ ملموس، مثل الهوية الكردية، والهوية السُنيَّة، والهوية الشيعية، كهوياتٍ متعددة يدين لها بالولاء أبناء هذه المناطق والأعراق والطوائف، أو تلك. كما برزت هويات أخرى أقلّ وضوحًا بسبب تدني النسبة السكانية للمنتمين لها، مثل الهوية التركمانية، والمسيحية، والصابئية، واليزيدية وغيرها.
لقد بنى العرب السُنَّة آمالًا كبيرةً على ظهور مشروع وطني جامع، كأحد إفرازات الحركة الاحتجاجية التي شهدتها المحافظات السُنيَّة نهاية العام 2012، وقد حاولت الحركة أنْ تكونَ حركةً لكلّ العراقيين، لكنّها “أخفقت”، وفق ما قاله الناشط السياسي المستقل، غانم العابد، لصحيفة “التقرير”، بسبب “تعدد الولاءات، وتناقض الانتماءات، وغياب هوية وطنية جامعة، وهو ما جعل من غير المنطقي قيام نظام سياسي يعتمد الأغلبية السياسية في إدارة الحكم، طالما أنَّ الناخب يعطي صوته إلى المرشح الذي ينتمي إلى طائفته، أو عرقه، كما أنّ تشكيل الكتل السياسية يتمّ عادةً حسب الانتماء الطائفي، أو العرقي، وباتَ اعتماد التوافق الضامن لإشراك الأقليات في الحكم إحدى أبرز الاستراتيجيات الكفيلة بتجنب النزاعات في ما بينها عبر توافق قادة الكتل السياسية الكبيرة، وهؤلاء في حقيقتهم زعماء طوائف، وأعراق، يتقاسمون السلطات، ويتخذون قراراتهم على أساس التوافق على حلول وسط لعدّة قضايا في آنٍ واحد، مقترنةً بتنازلاتٍ متبادلة، ليست بعيدة عن مفهوم الصفقات السياسية“.
ترتبَ على إخفاق الحركة الاحتجاجية بأنْ تكون حركةً لكلّ العراقيين، إخفاقٌ آخر يتمثل في السعي لأنْ تكون الحركة ممثلًا شرعيًا للشعب العراقي، كأيّ حركةٍ من حركات ثورات الربيع العربي، ويعزو القيادي في جبهة التحرير والخلاص الوطني، الدكتور زيد بن الخطاب، ذلك إلى غياب دور “الحاضنة العربية والإسلامية لدعم قضيتنا العادلة في مشروع التحرر الكامل من النفوذ الإيراني، من خلال دعم تلك الحركة التي تسعى للحفاظ على وحدة العراق، واسترداد سيادته واستقلاله، ولو توفرت هذه الحاضنة لتمكنّا من تشكيل هيئة وطنية عليا، كمرجعيةٍ تمثل الفصائل، والقوى، الوطنية التي لعبت دورًا في مواجهة الاحتلالين الأمريكي والإيراني، قادرة على تنفيذ مشروع إنجاز التحرر الكامل من أيّ نفوذٍ، أو احتلال خارجي مباشر، أو غير مباشر، وهو أمرٌ يحققُ مصالحَ العراقيين، والعرب والمسلمين، كما أنّ للغرب والولايات المتحدة مصلحة استراتيجية في ذلك“، بحسب قوله لصحيفة “التقرير”.
وردًا على سؤال حول رؤية الدكتور زيد بن الخطاب، لعدالة قضية العرب السُنَّة، مع الإقرار بعدم كفاية عدالة أيّة قضية لتحقيق أهداف المؤمنين بها، فالعالم اليوم تحكمه مصالح القوى الكبرى المتنفذة، والعلاقات بين الدول ذات النفوذ الأكبر إقليميًا ودوليًا، قال: “عدالة قضيتنا أنّنا نقفُ بوجه نظام احتلال قام على أساس دستور غير شرعي، وهو يمارسُ إرهاب الدولة بكلّ معانيه وأشكاله، ويقوم بممارساتٍ إجرامية ضدّ أبناء العراق، تتمثل في حملات الإعدام اليومية، والتعذيب الوحشي ضدّ المعتقلين الأبرياء الذين يتمُّ اعتقالهم عشوائيًا دون مذكرة قبض صادرة عن القضاء العراقي المسيّس، إضافةً إلى الكثير من انتهاكات حقوق الإنسان العراقي على يد الحكومة، وأذرعها المتمثلة بالقوات الأمنية الميليشياوية، كذلك الفساد وتبديد وسرقة ثروات الشعب العراقي، كما علينا أنْ نشير بعناية إلى الدور الخطير الذي تقوم به الحكومة العراقية في تنفيذ السياسات الإيرانية في عموم المنطقة، كلّ تلك الأمور لا يمكن أنْ يستمر صمت المجتمع الدولي عليها إلى ما لا نهاية، فنحن جزءٌ مهمٌ من المجتمع الدولي، ونتواجد في منطقة حساسة من العالم؛ لذا لابد لهذا العالم أنْ يتحرك فورًا لوضع حدّ للتهديدات الجدية للمشروع الإيراني على الأمن والسلم العالميين، وتهديد التوازن الدولي، والإقليمي، في الشرق الأوسط”.
وحيث بات مؤكدًا أنّ تنظيم الدولة الإسلامية لا يسمح لأيّ طرفٍ كان أنْ يحمل السلاح ضمن رقعة سيطرته إلَّا بالقتال تحت رايته، كانت، وما زالت فصائل المقاومة العراقية تلعب دورًا ما في ساحة الصراع السياسي بالعراق، وتنشط من خلال مؤتمرات تعقدها في عواصم الجوار للتذكير بمعاناة العرب السُنّة، ونقلها إلى الرأي العام العربي والدولي، “لكنّ ضعف الوعي السياسي لغالبية تلك الفصائل لحداثة عهدها بالعمل السياسي، وتركيزها على الجانب العسكري في مقاومة الاحتلال الأمريكي، أدّيا إلى ضعف الأداء السياسي لها، مع الإقرار بواقع عدم منحهم الفرصة المناسبة بسبب السياسة الإقصائية التي انتهجتها الحكومات العراقية بعد الاحتلال، وتعمدها تغيّيب الأجواء الملائمة لتطوير العمل السياسي للفصائل المسلحة، كما هو الحال في تعامل الحكومة العراقية مثلًا مع عصائب أهل الحق الشيعية التي لها جناح سياسي ممثل في البرلمان باسم كتلة الصادقين“، كما يقول الباحث في الجماعات المسلحة، عمر الفلاحي في حديثٍ خاصٍ بصحيفة “التقرير”.
وعن أسباب فشل فصائل المقاومة في العمل السياسي من داخل العملية السياسية القائمة، يرى عمر الفلاحي: “يمكن القول، إنّ الولايات المتحدة كانت صاحبة القرار في العراق قبل انسحابها نهاية العام 2011، وقد نجحت في جرّ بعض، وليس كلّ، فصائل المقاومة إلى مشروعها الثلاثي المتمثل بمجالس الصحوات لقتال تنظيم القاعدة، وإلقاء السلاح للدخول في العملية السياسية، وأخيراً، الانخراط في مشروع المصالحة الوطنية مع الحكومة العراقية، لكنّ الولايات المتحدة لمْ تفِ بوعودها لتلك الفصائل التي نفذّت ما عليها، أما السبب الثاني، وهو الأهم في تقديري، أنّ إيران نجحت في إرساء قواعد المشروع الطائفي في العراق، ومن هذا المنطلق، باشرت الحكومة العراقية بتجريد الفصائل من سلاحها واعتقال قياداتها، وكوادرها، وتصنيفهم كجماعاتٍ خارجةٍ عن القانون، فيما نجح آخرون بالهجرة من العراق والإقامة في عواصم الشتات“.
يسود اعتقاد لدى عموم القوى السياسية العراقية، بأنّ ثمّة تحديات جدية يواجهها العراق تتمثل في احتمالات اتساع رقعة الحرب القائمة اليوم إلى حربٍ أهليةٍ شاملةٍ تؤدي حتمًا إلى تفكك العراق، وزواله كدولة قائمة، بعد أنْ أفرز الواقع الجديد عراقًا مقسمًا جغرافيًا وسلطويًا إلى جغرافيةٍ كرديةٍ معروفة، وأخرى شيعية في بغداد وجنوبها، وثالثة سُنيّة تفرض سلطتها على شمال، وشمال غربي العراق، وغرب بغداد التي فقدت كامل حدودها البرية مع كل من الأردن وسوريا، ومسافاتٍ طويلةٍ من حدودها مع السعودية.
رائد الحامد – التقرير