أحدث التوقيع على الاتفاق النووى الإيرانى موجة من التحليلات وردود الفعل المحتملة بالنسبة لمستقبل النظام الإقليمى للشرق الأوسط فى ظل نجاح أو فشل هذا الاتفاق الذى أعطى لإيران اعترافاً من “مجموعة دول 5+1” (الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن+ ألمانيا) ثم من مجلس الأمن الدولى الحق فى امتلاك برنامج نووى سلمى مع رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها وفق شروط وضوابط محددة فى القرار تضمن سلمية برنامج إيران النووي.
هذا يعنى أن هذا الاتفاق كان موضوعه الأساسي تأجيل امتلاك إيران للقنبلة لمدة خمسة عشر عاماً قادمة، ولم يتعرض، من قريب أو من بعيد، للسلوك السياسى الإقليمى لإيران، الأمر الذى أخذ يثير مخاوف أطراف بعينها أبرزها الكيان الصهيونى الذى كان يريد تصفية البرنامج النووى الإيرانى وإنهاءه كلية، إضافة إلى دول عربية خليجية فى مقدمتها المملكة العربية السعودية من منظور التحسب لمخاطر التقارب الغربى مع إيران خاصة من جانب الولايات المتحدة وتأثير هذا التقارب على توسع النفوذ الإيرانى فى مناطق متعددة من الوطن العربي، ثم من منظور تأثير هذا التقارب الأمريكى الإيرانى المحتمل على مستقبل العلاقات السعودية الأمريكية.
إن تاريخ النظام كان على الدوام يعكس تفاعلات صراعية بين النظام العربى الحريص على استقلاليته، والنظام الشرق أوسطى الساعى إلى احتواء وتذويب النظام العربى داخله
أولا- حدود مفهوم النظام الإقليمي العربي
ردود الفعل هذه أخذت تدفع بسؤال ما هو مستقبل النظام الإقليمى الشرق أوسطى فى ظل هذا المتغير الإيرانى الجديد إلى مقدمة التساؤلات، ونحن بدورنا نطرح سؤالاً لا يقل أهمية هو أين مصر من هذه التطورات والتفاعلات وما هو مستقبل العلاقات المصرية- الإيرانية، وما هو وزن مصر فى التفاعلات المستقبلية لنظام الشرق الأوسط؟
الإجابة على هذين السؤالين المهمين يستلزمان تعريف مفهوم النظام الإقليمى للشرق الأوسط ونشأته، كما يستلزمان تحليل الدور المصرى فى تفاعلات هذا النظام منذ تلك النشأة حتى الوقت الراهن كى نستطيع الحديث عن المستقبل فى مقال آخر مستقل.
وللحديث عن مفهوم النظام الإقليمى للشرق الأوسط ونشأته يجب أن نعرِّف مفهوم النظام الإقليمي. ودون الدخول فى تفاصيل نظرية لا مجال للحديث عنها هنا نقول إن “النظام الإقليمى” فى أبسط معانيه هو نمط منتظم من التفاعلات بين وحدات سياسية مستقلة (دول) داخل إقليم جغرافى معين، أى أنه إطار تفاعلى مميز بين مجموعة من الدول، يفترض أنه يتسم بنمطية وكثافة التفاعلات بما يجعل التغير فى جزء منه يؤثر على بقية الأجزاء، وبما يؤدي، أو يحمل ضمناً اعترافاً داخلياً وخارجياً بهذا النظام كنمط مميز للتفاعلات. وهو هنا لا يفترض شرطاً وجود إطار مؤسسى يعبر عنه، لكنه لا ينفى وجود هذا الإطار المؤسسي، ويمكن التعامل مع النظام الإقليمى من منظورين؛ الأول، باعتباره نظاماً فرعياً عن النظام العالمى حيث يُنظر إليه كمستوى تحليلى وسط بين النظام العالمى والسياسة الخارجية للدول، والثانى باعتباره تجميعاً لدول متجاورة أو متقاربة تنتمى لإقليم جغرافى معين ومن ثم فهو نظام إقليمى يعبر عن أنماط تفاعلات دول هذا الإقليم.
نشأ النظام الإقليمى للشرق الأوسط ضمن تداعيات انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 خاصة تفجر الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين متصارعين
ثانيا- حدود العلاقة بين الإقليمي للشرق الأوسط والنظام الإقليمي العربي
النظام الإقليمى للشرق الأوسط، يعد وفقاً للتعريف السابق نظاماً فرعياً عن النظام العالمي، كما يعد نظاماً إقليمياً يعبر عن أنماط التفاعل بين الدول الواقعة داخل هذا الإقليم الذى أخذ يعرف بأنه يضم بالأساس الوطن العربى إضافة إلى ثلاث دول غير عربية كل منها لها قوميتها الخاصة ومشروعها السياسى الخاص هي: إيران وتركيا والكيان الصهيوني، كما نقول إن تاريخ هذا النظام كان على الدوام يعكس تفاعلات صراعية بين النظام العربى الحريص على استقلاليته، والنظام الشرق أوسطى الساعى إلى احتواء وتذويب النظام العربى داخله، وأن النظام العربى استطاع فى مراحل تألقه (فى عقدى الخمسينيات والستينيات من القرن الماضى) أن يحافظ على استقلاليته، لكنه فى مراحل أخرى تعرض لاختراقات قوية من النظام الشرق أوسطى استهدفت بالأساس هويته القومية.
والنظام الإقليمى الشرق أوسطى كغيره من النظم الإقليمية أو النظم الفرعية ينقسم، من منظور إدارة تفاعلاته (صراعية أو تعاونية) إلى “دول قلب” هى التى تقود النظام وإلى “دول أطراف: أو دول توابع تكون فى العادة معرضة للاستقطاب من جانب دول قلب النظام التى تنقسم بدورها إلى ثلاث قوى فاعلة هي: أولاً الدولة أو الدول المهيمنة أو الساعية للهيمنة، وثانياً الدولة أو الدول المناوئة أى الرافضة للاعتراف بالدولة المهيمنة وتسعى لفرض نفسها قوة مهيمنة بديلة، وأخيراً الدولة أو الدول الموازنة التى تسعى إلى تهدئة الصراعات أو الانحياز لأى من الأطراف أو القوى الساعية للهيمنة والقوى المناوئة حسب مصالحها الوطنية. وتكون الدولة واقعة فى قلب النظام بما تمتلكه من أنواع القوة المختلفة وحسب ما تقوم به من أدوار ووظائف داخل النظام. فدول القلب هى التى تملك أعلى مصادر من القوة وتقوم بدور فعال فى أداء وظائف النظام فى حين أن الدول الأطراف هى الأقل قوة والأضعف فى أداء الأدوار والوظائف.
ولقد نشأ النظام الإقليمى للشرق الأوسط ضمن تداعيات انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 خاصة تفجر الحرب الباردة وانقسام العالم إلى معسكرين متصارعين، الأول غربى رأسمالى تقوده الولايات المتحدة الأمريكية والثانى شرقى اشتراكى يقوده الاتحاد السوفيتي. وظهور سياسة الأحلاف، والصراع بين المعسكرين على مناطق النفوذ خارج القارة الأوروبية، ولقد كان إقليم الشرق الأوسط هو أهم بؤر الصراع العالمى خصوصاً بعد حرب 1948 التى فرضت الكيان الصهيونى فى قلب الوطن العربى لاستكمال مشروع تقسيم «سايكس- بيكو» وتفجر حركة التحرر العربية التى قادتها مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952 التى استطاعت قيادة حركة تحرر عالمية ساعية إلى تحرير الشعوب من الاستعمار والرافضة لسياسة الأحلاف الدولية على نحو ما تجلى فى مؤتمر باندونج عام 1955 الذى شهد الظهور القوى لزعامة جمال عبد الناصر ورفاقه أحمد سوكارنو ونهرو، حيث استطاع جمال عبد الناصر أن يعقد أو صفقة لتسليح الجيش المصرى من الاتحاد السوفيتى (عرفت باسم صفقة الأسلحة التشيكية) التى كسرت احتكار السلاح وتحدى بها الرفض الغربى لتسليح الجيش المصري.
من هذه البدايات نشأ أو تبلور النظام الإقليمى للشرق الأوسط ومن خوض معارك متتالية بين الجهود الأمريكية لاستقطاب الدول العربية والشرق أوسطية فى تحالف ضد الاتحاد السوفيتى وبين قيادة مصر لسياسة الحياد الإيجابى ومن بعدها عدم الانحياز ورفض سياسة الأحلاف.
فكان الصدام أساسياً بين مصر ومشروعها الوطنى والقومى المرتكز حول: الاستقلال والتحرر الوطنى والقومي، وتحرير فلسطين من الاحتلال الصهيوني، والدعوة إلى الوحدة العربية وبين الدول الشرق أوسطية الثلاث: إيران وتركيا وإسرائيل التى انحازت إلى سياسة الأحلاف الأمريكية والانخراط فى الفلك الأمريكى والانحياز لإسرائيل والعداء لحركة التحرر العربية، وكان العدوان الثلاثي: البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلى عام 1956 عقب تأميم الزعيم جمال عبد الناصر قناة السويس هو ذروة المواجهة التى حددت القوى التى تشكل منها قلب النظام الإقليمى الشرق أوسطى على النحو التالي: إسرائيل (دولة ساعية للهيمنة)، ومصر (دولة مناوئة ورافضة للهيمنة الإسرائيلية وساعية إلى الوحدة العربية)، وإيران وتركيا (كدولتين موازنتين بين مصر وإسرائيل) لكنهما انحازتا إلى إسرائيل من واقع انحيازهما للولايات المتحدة الأمريكية.
د. محمد السعيد إدريس
المركز العربي للبحوث والدراسات