منذ أسابيع والولايات المتحدة دؤوبة بالحراك والتحشيد العسكري داخل العراق، وفي مياه وبلدان الخليج العربي، من دون تحديد هدفية هذه الحملة الكبيرة، إلا أن الرئيس الأميركي دونالد ترمب، كتب على صفحته في موقع “توتير” إنه “بناء على المعلومات والمؤشرات المتوافرة، فإن إيران ووكلاءها يخططون لهجمات متتالية على قواتنا أو مصالحنا في العراق”، وتابع إن “حدث ذلك، فإن طهران ستدفع الثمن باهظاً”، ومعنى ذلك، فيه احتمالية مواجهة مقبلة.
وكذلك قول أحد المسؤولين الأميركيين لوكالة “رويترز” في بداية الشهر الحالي، إن “معلومات الاستخبارات الأميركية عن هجوم محتمل تدعمه إيران على القوات والمنشآت الأميركية في العراق تشير إلى أنه سيكون هجوماً يمكن نفيه وليس على غرار الهجوم الصاروخي الذي شنته طهران في العراق في يناير (كانون الثاني) الماضي”.
ولكن حجم التحشيد الهائل بحراً وبراً وجواً، إذ بلغت مجموع السفن الأميركية من حاملات الطائرات وفرقاطات وبارجات ومدمرات أكثر من 65 قطعة بحرية، وتم شحن أكثر من 60 بطارية صواريخ باتريوت من الجيل المتطور الذكي إلى المنطقة، وإعادة انتشار القوات الأميركية في العراق، وتشييد قاعدة جديدة قرب سنجار في محافظة نينوى، مع وصول أرتال من الآليات والمدرعات والدبابات وأسراب من الطائرات، منها B52 (ب 52) العملاقة، فلا تتوازن هذه الكراديس العسكرية لمجرد مجابهة مخطط إيراني قد لا يحدث.
فمن غير المعقول أن تتحرك الإدارة الأميركية وتنفق هذا الجهد العسكري الضخم، وتتحمل خزانة الدولة كلفة هذا الحراك والتحشيد الجسيم، واحتمالية استخدامه من عدمه وارد، كما أن إيران وأذرعها الولائية تدرك تماماً، ليس بمقدورها الحسم الميداني، لا من حيث التقنية العسكرية، ولا من تغطية شعبية تحتضنها، ومع ذلك سلسلة ضرباتها ضد القوات الأميركية وسفارة واشنطن في بغداد لم تنقطع.
وعلى الرغم من أوضاع العالم بسبب تفشي كورونا، وإصابات طالت الجنود الأميركيين، فقد أكد نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة جون هايتن، استمرار العمليات العسكرية الأميركية في الخارج، وقال لمجموعة من الصحافيين “لا يوجد تأثير على العمليات، المهمات التي نجريها حالياً في أنحاء العالم لا تزال تُنفذ وفقاً للقواعد ذاتها وللنموذج نفسه”، وأوضح أن “الفيروس ليس له تأثير على هذه المهمات”، وأن عدد الجنود المصابين بالفيروس في الخارج “محدود جداً”.
بيد أن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أعلنت عن تجميد لمدة شهرين لكل تنقلات العسكريين الأميركيين حول العالم، بما فيها عمليات إرسال الجنود إلى مناطق القتال أو إعادتهم إلى وطنهم، وذلك في مساعيها لكبح انتشار كورونا.
وإذا أوجبت هذه الظروف تأخير التصادم المحتمل، لكنها لن تلغي خطورته، خصوصاً بعد زيارة رئيس الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني إلى بغداد أخيراً، وما تسرب من أخبار، ألا تراجع في الموقف الإيراني تجاه الضغط الأميركي، وأن منصب رئيس مجلس الوزراء في العراق لا يشغله غير الموالي لإيران، أي أن المكلف عدنان الزرفي قد يواجه مصير سلفه محمد علاوي نفسه، فلا تمرير له في مجلس النواب، الذي تهيمن عليه أحزاب وحركات موالية إلى إيران.
وعندما يتميّز التحرك العسكري الأميركي الجديد في ست محافظات ذات غالبية سُّنية، ينتشر فيها تسلط الفصائل الولائية، فإن تغييراً قد طرأ على استراتيجية البيت الأبيض تجاه العراق، وإن ما كشفت عنه صحيفة “نيويورك تايمز” يوضح أكثر عن هذا النهج، إذ سمح وزير الدفاع الأميركي مارك أسبر بالتخطيط لحملة جديدة تستهدف تدمير مجموعات مسلحة مدعومة من إيران، والتي هددت بشن مزيد من الهجمات ضد القوات الأميركية، لا سيما ضد كتائب “حزب الله العراقي”، الذي تبنى هجومات معادية سابقاً، ويتميز بثقل خاص كونه يمتلك مكونات عسكرية وجناحاً سياسياً، وروابط مع السياسيين والشركات التجارية والجمعيات الخيرية العراقية.
على ما يبدو فإن اتجاه السياسة الأميركية الحالية ينصب في تدمير الفصائل الولائية، يعني إنهاء هيمنة إيران على العراق، والتي تتطلب تصعيد المعركة الأميركية على الأراضي العراقية، وإذا كان ذلك، فيمكننا أن نستشف أبعاد هذا الزخم العسكري الحالي.
أولاً، العملية السياسية وصلت إلى طريق مسدود، جراء الصراعات والخلافات المتفاقمة بين أطرافها، والتي وصلت تجاذباتها إلى داخل الطبقة السياسية الشيعية بين موال لإيران أو لأميركا.
ثانياً، الفشل الذريع لهذه العملية السياسية التي لم تنجز شيئاً من المشاريع، بسبب استفحال الفساد المالي والإداري المستشري في مفاصل الدولة على مدى سنوات طويلة.
ثالثاً، سيطرة الدولة العميقة المتمثلة بمجموعات مسلحة مدعومة من إيران، إذ محقت هيبة الدولة، وفرضت سطوتها على الواقع السياسي والاجتماعي والحياتي.
رابعاً، انتفاضة الشباب العراقي، في المحافظات ذات الغالبية الشيعية، بتظاهرات واعتصامات سلمية، مستمرة منذ نصف سنة، قدمت فيها مئات القتلى وآلاف الجرحى والمعاقين، وفرزت بين الشيعي الوطني والشيعي الولائي.
خامساً، رخوة النظام الإيراني في مكافحة تفشي كورونا، وفقدانه الكثير من القياديين الذين قتلهم الفيروس، جعلته يعاني التشتت والاضطراب بشكل واضح.
سادساً، العقوبات الأميركية ضد إيران، بلغت مستويات شديدة، وزادت من وهن النظام السياسي فيها اقتصادياً ومالياً وتجارياً.
سابعاً، المزاج العام للشعب العراقي يميل نحو الجانب الأميركي ضد الإيراني، خصوصاً بعد عملية قتل الإرهابي قاسم سليماني.
ثامناً، ميول إدارة ترمب لإلغاء الاستثناء الممنوح للعراق باستيراد الغاز والكهرباء من إيران، بسبب عدم جدية حكومة بغداد عن إيجاد البديل، السعودية ومصر نموذجاً.
وإذا كانت هذه جملة من الأسباب، التي قد تراها الولايات المتحدة فرصة مواتية للتخلص من الفصائل المدعومة من إيران، فبحسب تصوري، وعلى الرغم من الحاجة لرفع العصا الغليظة، لكن الاتجاه نحو تفكيك الأُسس التي تستند إليها الفصائل الولاية، مهم أيضاً، وهي، فتوى جديدة من علي السيستاني بانتفاء “الجهاد الكفائي”… تشريع قانون جديد بإلغاء “هيئة الحشد الشعبي”، وقرار حكومي بوقف دعم الحشد مالياً وعسكرياً.
إذ إن أسباب وجودها تلاشى بعد زوال خطر “داعش”، وتفعيل القانون ضد الجرائم الشنيعة، التي ارتكبتها تلك الفصائل الطائفية، وإبراز أعمال الإرهاب التي اقترفتها وغيرها، تدعم أبعاد الزخم العسكري الأميركي الحالي. وإذا تراجعت إيران عن تنفيذ مخططها، وهو الأرجح، فإن نتيجة التحشيد العسكري ستكون كما في مايو (أيار) 2019، ما يجعل المنطقة غير مستقرة في الزمن المنظور.
عماد الدين الجبوري
اندبندت عربي