أثار قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب تعليق مساهمة الولايات المتحدة في ميزانية منظمة الصحة العالمية انتقادات من كثير من دول العالم، حتى القليل ممن يتفقون معه في أن المنظمة ربما لم تكن على قدر المسؤولية، لا ينكرون الدور الذي تقوم به في قيادة الجهد الدولي لمكافحة وباء فيروس كورونا (كوفيد-19).
ولعل أهم رد فعل هو ما جاء من بريطانيا التي أعلن متحدث رسمي باسم حكومتها أنه لا توجد هناك أي نية لخفض مساهمتها المالية في منظمة الصحة العالمية. فبريطانيا هي ثاني أكبر مساهم في ميزانية المنظمة، التي تصل إلى 6 مليارات دولار كل عامين، وتأتي مباشرة بعد الولايات المتحدة التي فاقت مساهمتها في الميزانية الأخيرة نصف مليار دولار.
حتى رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون، الذي غالباً ما تتفق مواقفه مع المواقف الأميركية، قال إنه وإن كان يتفهم انتقادات الرئيس ترمب إلا أن “منظمة الصحة العالمية تقوم بأعمال مهمة جداً”. وبالطبع كانت المواقف الأوروبية كما عبر عنها وزير الخارجية الألماني وخارجية الاتحاد الأوروبي معبرة عن خيبة الأمل ومنتقدة للتصرف الأميركي.
تفسيرات مختلفة
التفسير السريع الذي يتبناه الإعلام الأميركي المنتقد للرئيس ترمب هو أنه يحاول “إيجاد من يلومه على فشل إدارته في مواجهة وباء فيروس كورونا”. وأنه في البداية حاول استهداف الصين، بعدما امتدح تعاملها مع الوباء في يناير (كانون الثاني)، ثم وجد “هدفاً ليناً” في منظمة الصحة العالمية متهماً إياها بأنها أخطأت “بمحاباة الصين” ما أدى إلى “وفاة كثيرين”.
لكن الانتقادات لأداء منظمة الصحة العالمية في هذه الأزمة ليست غير مسبوقة، وسبق أن اتهمت تايوان المنظمة بأنها رفضت التحقيق في شكواها من الوباء في الصين في وقت مبكر من العام. وبثت شبكة “فوكس نيوز”، المؤيدة لترمب، ما قالت إنها رسالة بالبريد الإلكتروني كشفت عنها تايلاند وجهت إلى مدير المنظمة، لكنه تجاهلها.
أما أغرب تفسير فهو ما يقول به بعض الأميركيين من معارضي ترمب الذين يتهمونه بأنه يستجيب لقاعدته الانتخابية من المسيحيين الايفانجليكان الذين يضغطون من أجل أن تدفع الصين ثمناً لانتشار الوباء في العالم ووصوله إلى الولايات المتحدة، حيث أصاب مئات الآلاف وحصد أرواح عشرات الآلاف حتى الآن.
ويقارن البعض بين موقف ترمب من منظمة الصحة العالمية وموقفه من منظمات أخرى دولية، بخاصة تلك المرتبطة بالأمم المتحدة. ويرون أن قراره ضد المنظمة لا يختلف عن انسحابه من اتفاقية المناخ وغيرها من الانسحابات الأميركية من اتفاقات دولية.
وأياً كان التفسير، فالنتيجة أن أغلب دول العالم وربما نصف الأميركيين يرون في القرار الأميركي ضربة قاصمة للتعاون الدولي الذي بدأ يتجسد في أوضح صوره في مكافحة الوباء الذي يهدد البشرية جمعاء.
صحة وسياسة
وربما ما أثار حنق البعض على المنظمة ومديرها، الإثيوبي تدروس أدانوم غيبريسوس، المديح الذي كاله لطريقة الصين في السيطرة على الوباء والتي تضمنت إجراءات مشددة قد لا يمكن تطبيقها في المجتمعات الديمقراطية. لكن المنظمة لم تتوان في التعامل مع البلاغات الصينية، وكانت الصين ترددت في البداية في السماح لوفد منها بزيارة الصين ولم يصل وفد طبي دولي إلى ووهان إلا بعدما كان عدد المصابين بالوباء فاق الأربعين ألفاً.
كما أن المنظمة في البداية لم يكن أمامها خيار سوى الاعتماد على المعلومات الرسمية التي تبلغها الصين لمكتبها الإقليمي. بالتالي قبلت الاستنتاج الأولي بأنه لا يوجد دليل على انتقال عدوى الفيروس من شخص إلى آخر، ثم حين تأكد أن تلك إحدى طرق انتقال العدوى أعلنت حالة طوارئ عالمية. كما أنها تأخرت في إعلان كوفيد-19 وباءً عالمياً، وأيضاً لم تكن نصائحها واضحة بشأن ارتداء كمامة الوجه كوسيلة وقاية من انتشار الفيروس.
لكن ربما يمكن تبرير تلك الأخطاء بأن الفيروس المسبب للوباء جديد تماماً، ويختلف عن بقية فيروسات العائلة التاجية (كورونا).
مع ذلك فهذا يذكر البعض بالأزمة التي نجمت عن تردد منظمة الصحة العالمية في إعلان حالة طوارئ صحية في مواجهة وباء إيبولا في أفريقيا في الفترة ما بين 2014 و2016. وأرجع البعض ذلك إلى كون المنظمة المتضخمة بيروقراطياً تعاني أيضاً من تجاذبات سياسية.
فالمنظمة التابعة للأمم المتحدة، ومقرها في جنيف بسويسرا ولها مكاتب إقليمية في أنحاء العالم توظف ما يزيد على 7 آلاف، وتشارك فيها أكثر من 190 دولة تتحمل ميزانيتها إلى جانب التبرعات الفردية والمؤسسية.
وعلى الرغم من كل تلك المآخذ، لا يمكن إنكار دور المنظمة التي أنشئت عقب الحرب العالمية الثانية (عام 1948) من أجل حماية صحة الجميع والتصدي للمخاطر الصحية العالمية ومساعدة الدول غير القادرة على مواجهة التحديات الصحية.
ولعبت المنظمة دوراً رائداً في التصدي لأوبئة سابقة، كما قادت حملات التطعيم ضد أمراض كانت متوطنة يكاد يكون أغلبها تراجع إلى حد أقرب للصفر نتيجة تلك الحملات. كما أن مكاتبها المنتشرة في أنحاء العالم تمثل مصدراً مهماً للمعلومات الأولية التي تساعد الباحثين والعلماء حول العالم في تطوير اللقاحات والأمصال والأدوية التي تعالج أمراضاً واسعة الانتشار أو مستعصية.
ومع التسليم بأنها كمنظمة تابعة للأمم المتحدة ربما تعاني ترهلاً أصاب المنظمة الدولية الأم والمنظمات التابعة لها، إلا أن محاولة إصلاح وزيادة الكفاءة لا تعني حرمانها من تمويل رئيس في وقت أزمة كالتي يواجهها العالم.
أحمد مصطفى
اندبندت عربي