بعدما كلف رئيس الجمهورية برهم صالح ثالث مُرشَح إلى منصب رئاسة مجلس الوزراء مصطفى الكاظمي، بعد انسحاب محمد الزرفي، ومن قبله محمد علاوي، في فترات زمنية قانونية ضيقة تعكس حالة الصراع المترجرج بين الطبقة السياسية، إذ تباينت حدة التجاذبات داخل ما يسمى “البيت الشيعي” بين موالٍ لإيران وأميركا.
ويبدو أن الموقف الإيراني المتشدد لا يزال متحكماً في إدارة هذا الصراع. وبحسب تصوري، سيستمر هذا التحكم بالميلان لصالح الجانب الإيراني أكثر من الطرف الأميركي في مسألة الاختيار والتوافق على ترشيح الشخص لهذا المنصب الكبير، ولعدة أسباب منها:
أولاً، إن إيران تتمسك بمنصب رئيس مجلس الوزراء، الذي يمتلك من السلطة التنفيذية والصلاحيات القانونية والدستورية ما يُمكّن النظام الإيراني من التحكم في الدولة داخل العراق، ولذلك لا تفرط إيران فيه ولو أشعلت حرباً بين فئات السياسيين الشيعة أنفسهم. فإذا جاءتها الفرصة عبر مرونة وليونة الرئيسين الأميركيين جورج بوش وباراك أوباما، لترسخ هيمنتها الواضحة على مفاصل الدولة العراقية، فإنها لن تنكفئ بتلك السهولة التي يريد تحقيقها الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترمب.
ثانياً، إن النظام الإيراني يدرك تماماً أن أي رخوة في قبضته على هذا المنصب الخطير، ومهما كانت ضرورية، فإنها وبالضرورة نفسها ستؤدي إلى توسع دائرة هذه الرخاوة. وهذا ما تخشاه إيران، فلا تسمح بفتح ثغرة قط، إذ قد تكبر على نحو فجائي وتفلت من يديها السيطرة.
ثالثاً، إن تاريخ إيران السياسي التوسعي يقوم على مبدأ القوة العسكرية، ودائماً يزول تمددها الوجودي بالمنطق نفسه، وذلك من خلال قوة مضادة رافضة لهيمنتها، لذلك تثابر إيران بسياسة القوة المسلحة التي كونتها، ليستمر وجودها عنوة على مدى الزمن المنظور.
رابعاً، عملت إيران على تكوين فصائل عربية مسلحة تابعة لها، تقوم بدور وكيلها في المنطقة، حتى صارت تلك الفصائل دولاً عميقة في بلدانها، “حزب الله” في لبنان، الميليشيات الطائفية في العراق، الحوثيون في اليمن. ما يجعل خطورة المشروع الإيراني قائمة ومداهمة لبلدان عربية أخرى.
تلك النقاط الآنفة الذكر وغيرها، تجعل النظام الإيراني يدفع بالمواجهة إلى حدّ الاستهتار، لأنه يمتلك على الأرض قوة ميدانية تأتمر بأوامره، وتنفذ له مصالحه. وما يزيد من التصلب الإيراني هو أن القوات الأميركية الموجودة في العراق وفي المنطقة، تعتمد بالدرجة الأساس على الضربات الصاروخية والجوية، وليس في انتشار ميداني يهدف إلى مسك الأرض، خصوصاً أن الجانب الأميركي لا يمتلك فصائل دعم مسلحة، وأن تجربته في أواخر عام 2006 بإنشاء “مجالس الصحوة” العشائرية في المناطق السُّنية تلاشت، في ما بعد، لصالح بقاء وتقوية الفصائل الموالية لإيران، ولا يسعنا هنا سرد الأسباب.
إلا أننا نقول، إن سلسلة التبديلات المتسارعة التي وصلت إلى مصطفى الكاظمي، والذي تتهمه الفصائل الموالية لإيران، “حزب الله” العراقي و”عصائب أهل الحق” وغيرهما، بأنه تعاون مع الأميركيين في مقتل الإرهابي قاسم سليماني، كما أن نوري المالكي بحجة وعكة صحية تَغيّبْ عن حضور مسرحية التكليف، ما يعني أن حلبة مجلس النواب قد لا تجتمع على الكاظمي، وإن فترة 30 يوماً من التكليف بدأت بالعدّ التنازلي، فضلاً عن أن أهداف زيارة رئيس الحرس الثوري الإيراني إسماعيل قاآني إلى بغداد لا تزال محط تكهنات، لكن من المؤكد إصرار إيران بعدم تولي هذا المنصب لغير مواليها، وإن ما شيدته داخل العراق، منذ الانسحاب الرسمي للقوات الأميركية المحتلة قبل نهاية عام 2011، لن يتأثر كثيراً بضربات جوية أميركية تأديبية ضد هذا الفصيل أو ذاك من الأذرع الإيرانية.
بيد أن هذا الوضع، بصورة أو أخرى، يخلق لدى النظام الإيراني وهمّاً أن قوته عبر الفصائل الولائية هو مركز تحصنه في العراق وغيره، ومن خلالها مستعد لمواجهة الضربات الأميركية على الأراضي العراقية، إذ يجد فيها مدخلاً للمساومة على بعض القضايا داخل العراق أو في المنطقة. مع أن هذه القوة الولائية من الممكن جداً أن تنكسر وتتراجع كثيراً قبل مواجهتها عسكرياً، وذلك بتفعيل الإجراءات القانونية ضدها، وتحريك آلة الإعلام الدولي في فضحها على ما ارتكبته من الجرائم والسرقات والإرهاب والقتل، التي يندى لها جبين الإنسانية، أو في تجفيف منابع مصادرها المالية من مجمعات التسويق ومنتجعات سياحية ومراكز ترفيهية وسلسلة محلات تجارية وغيرها.
كيفما كان الأمر، فإن وصول نائب الرئيس الأميركي مايك بنس إلى قاعدة “عين الأسد الجوية” في محافظة الأنبار غرب العراق، ثم وزير الدفاع الأميركي مارك أسبر، لتفقد قوات بلادهما وقوات التحالف الدولي، والاطلاع على عملية نصب وتفعيل منظومة صواريخ باتريوت الدفاعية، لا سيّما أن القوات الأميركية تعرضت سابقاً إلى هجمات عدة من “حزب الله” العراقي وغيره من الفصائل الموالية لإيران، وأودت بحياة جنود أميركيين ومن التحالف الدولي.
وكالعادة تأتي مثل هذه الزيارات الفجائية إلى القواعد الأميركية، التي غالباً ما تنتهي من غير لقاء بمسؤولين عراقيين، فذلك يعني أن سياسة الولايات المتحدة مستمرة في مخططها، الذي كشفت عنه صحيفة “نيويورك تايمز”، عن إعداد حملة عسكرية جديدة تهدف إلى تدمير “حزب الله” العراقي وبقية الفصائل المدعومة من إيران.
وما بين تنفيذ هذا المخطط الأميركي، ورجرجة الصراع السياسي الشيعي- الشيعي تجاه أميركا وإيران، الذي دفع برئيس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي أن يطلب من السفير الأميركي في بغداد سحب ترشيح محمد الزرفي، تفادياً لمواجهة مسلحة تدعمها إيران، فالجميع ينتظر ما ستسفر عنه الأسابيع القليلة المقبلة من نتائج قد تحدث تغييراً حقيقياً بنقل العراق والمنطقة إلى مرحلة تؤدي نحو الاستقرار، أو تمكين إيران من استيعاب المتغيرات والاستمرار على وتيرتها السياسية بزعزعة المنطقة من اليمن جنوباً إلى سوريا شمالاً.
عماد الدين الجبوري
اندبندت عربي