التكفير.. أصل إباحة الاعتداء على المساجد ورجال الأمن

التكفير.. أصل إباحة الاعتداء على المساجد ورجال الأمن

1439060500041880400

قبل البدء في التحقيق عن قضية استهداف «داعش» أخيرا لمساجد في الخليج وما قبلها في سوريا ومصر وغيرها من البلدان، تكشفت حقائق عقائدية تنبع من أصول متطرفة الرأي والتأويل، مستندة «داعش» وغيرها من التيارات الإرهابية إلى أقوال ونصوص تنزل في غير موقعها. تستهدف «داعش» النشء العربي، في موجة ما بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) متخذة اتجاها في تقليل أعداد منتسبيها المغادرين بلادهم نفيرا لـ«الجهاد المزعوم»، وأصبحت تتخذ مسارا في تكوين خلايا داخل بلادها منفردة أو جماعية، للقيام بأعمال إرهابية تجاه مواقع دينية وأمنية، بل اتضح أن سعيهم ليس ردا على جرائم الحشد الشعبي في العراق، واستهداف الشيعة في الخليج، بل زادت باستهداف وتهديد أمن المساجد، وقتل رجال الأمن الذين يرونهم في تصنيفاتهم منافقين ومرتدين.

وتظهر من خلال أحاديث المختصين والباحثين مع «الشرق الأوسط» أن كتبا فكرية منذ أربعينات وخمسينات الأعوام الميلادية المنقضية منبع ومستند فقهي لتشريع القتل والخروج على الأنظمة، وإسقاط المجتمعات في مستنقعات الطائفية، مستفيدة من قوة وسائل التقنية الحديثة في توسيع دوائر فقهاء دواعش، يسعون إلى تجنيد النشء بها، في وقت كشفت فيه إحصائية لمرصد دائرة الإفتاء المصرية قامت بها في حصر للمساجد التي تعرضت للهدم والتفجير على أيدي تنظيم داعش تصل إلى 53 مسجدا.
هنا بعيدا عن المعالجة الأمنية التي تكافح مظاهر وظواهر الأفكار المتطرفة، تتجه القضية إلى ماهية الجذور التي تتشرب منها شجرة «داعش» وغيرها في إسباغ رؤية واهية لمن يتعاطف مع تيارات الإسلام السياسي أن «داعش» هي المستقبل ومنها إحياء الخلافة التي حلم بها الإخوان ومن تبعها حتى ظهر غول «داعش».
تعد المساجد أيقونة رمزية ومكانية للتعلم والتفقه في أمور الدين، وواحة الأمن الأخيرة في خضم الحياة، وفتح استهدافها أخيرا في حوادث داخل السعودية المطبقة للشريعة الإسلامية منهجا، التفسيرات حول أهداف تنظيم داعش على التحديد في تلك العمليات الإرهابية على المساجد والمصلين.
فعلى بعد مئات الأمتار من مسجد قيادة قوات الطوارئ الخاصة بمنطقة عسير الذي استهدفته «داعش» جنوب السعودية، كان هناك مسجد آخر يعج بالمصلين، هو ذات المسجد الممتد أفقيا نحو السماء، وإلى قبلة واحدة تجمع المسلمين، لماذا مسجد القوات الأمنية؟
وتساءل هو الآخر: لماذا خف «النفير الجهادي» وفق وصف المحرضين نحو عوالم «داعش» منذ أشهر، واكتفت بالنشء كأذرع للتنفيذ، واتجهت تلك الأيادي إلى استهداف دور العبادة للشيعة في السعودية، كما كان حال مساجد شيعية في باكستان التي تعرضت لهجمات إرهابية مرات ومرات.
البحث في العمق يكشف حقائق كثيرة، وكيف تنتشر الآيديولوجيا الدموية، هو منحى آخر في كيفية تلقي تلك الأدوات التنفيذية لأوامر القتل السهل في إطار يجهل غالب منفذيه معرفة الدوافع، لكن تربة التطرف لم يكن لها أن تنمو فيها بذور النار دون ماء الفتاوى الشاذة وتأويلات النصوص عبر عدد من الكتب التي أفرزها التراث الإسلامي لرموز عاشوا تقلبات من حياتهم وتشكلوا رموزا للقتل والتحريض.
التساؤلات عدة، وتبحر في مركب وسط أمواج لجية، لكن وفقا لقاعدة دينية أصيلة، أن «الحلال بيّن والحرام بيّن» وكشفت الأحداث الستة التي استهدفت دور العبادة في السعودية والكويت، ابتداء من الهجوم على مسجد قرية الدالوة الشيعية بمحافظة القطيف في نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي، وتفجير انتحاري نفسه في مسجد ببلدة القديح مايو (أيار) الماضي، ومحاولة تفجير مسجد العنود بالدمام بعد تفجير القديح بأيام، ومحاولة أحبطتها الأجهزة الأمنية من مهدها لتفجير مسجد قوات الطوارئ الخاصة بالعاصمة الرياض، وتفجير مسجد الإمام الصادق بدولة الكويت متزامنا مع تفجيرات عالمية وعربية أخرى في شهر يونيو (حزيران) الماضي، وحتى استهداف مسجد قوات الطوارئ الخاصة بمدينة أبها الجنوبية قبل أيام، كشفت توافقا شعبيا عربيا وسعوديا على وجه الخصوص، حول الحماية الفكرية لمجابهة التوظيف السهل الممتنع للتنظيمات المتطرفة لصغار السن بتنفيذ القتل لدماء معصومة بريئة تفسرها النصوص الدينية.
وكشف ذلك أيضا في مداولات شعبية على نطاق واسع، مغذيات القتل واستهداف بيوت الله، لكن يظل الأمر كبيرا للوصول نحو الأسباب والأدبيات التي تعتمد عليها التنظيمات المتطرفة والجسور المؤدية إلى استباحة القتل، علاوة على التبرير الذي تتجه له في تقديم بيوت العبادة هدفا دون غيرها.

* التكفير قبل التفجير
عايد بن خليف الشمري، عضو هيئة التدريس بالمعهد العلمي، قال خلال حديث إلى «الشرق الأوسط» إن «التكفير هو الأصل قديما وحديثا الذي تعتمد عليه كل التنظيمات المتطرفة منذ خوارج الأمس وحتى اليوم»، مشيرا إلى أن الأصول الفكرية العقدية تخرج منها الظواهر والأفعال من تفجيرات واغتيالات واستهداف لرجال أمن.
وفنّد الشمري أن المتلقي متى ما اقتنع بتكفير المقابل، انتقل بعدها إلى «مرحلة أنه في دار حرب ثم يتبعها مرحلة الجهاد، وفيها يتجه إلى إباحة الدم، وهي خطوة التنفيذ لمخططات التفجير أو الاغتيالات ويجعل تلك الأعمال الدموية قربة إلى الله وجهادا»، ثم بعد ذلك يأتي بالأحاديث التي تبين فضل الجهاد وقتل المنافقين والمرتدين، منزلا إياها على فعله!
وأضاف: «إن المتطرفين يبدأون بإقناع أفرادهم أن الهدف الآخر في تنفيذ خروجهم وقيامهم بأعمالهم ومظاهرهم القتالية هو الخروج على الحكومة الكافرة»، وبعد تلك المرحلة يدخلون مرحلة الحرب، وتزداد أعمالهم في غياب التعرض الحقيقي للأصول الفكرية التي يبنون عليها نتاج ذلك الفكر.
وقال في سياق حديثه إن استهداف المساجد مبني على قناعتهم الخاطئة بما يعتبرونه من مساجد الضرار (مسجد وضعه المنافقون في عهد النبي صلى الله عليه وسلم) وبزعمهم رجال الأمن ورجال الدولة ومن يعمل بها منافقين، منزلين حادثة قتل الرسول صلى الله عليه وسلم لابن أخطل على أفعالهم.
واستشهد الشمري بحادثة خروج الخوارج على الإمام علي بن أبي طالب، حين كفّروه، فتنبه علي لذلك وأرسل لهم ابن عباس لمناقشتهم في تلك الأصول وهي التكفير، فعاد عدد منهم من القتال ضد علي بن أبي طالب بعد زوال شبهة التكفير، معتبرا أن في ذلك علاجا بحسب المدرسة الفكرية السائدة، محملا فكر سيد قطب – المنبع الأساس لتنظيم الإخوان المسلمين – ذلك التوجه، حيث اعترف سيد قطب في كتابه الذي كتبه خلال فترة سجنه قبل إعدامه «لماذا أعدموني؟» بأنه كان يخطط لشن تفجيرات على منشآت ومحطات كهرباء وغيرها، لكنه حولها إلى تفجير مقار الشرطة واغتيالات للمفكرين ورجال الأمن، رادا الشمري بحجته على من يرى أن سيد قطب مات من أجل «لا إله إلا الله»، دالا في حديثه على أن «داعش» ترى أحكام أهل الذمة، لكن وفق منظور إمامهم أبو بكر البغدادي، والأخير هو من يعمل على تكفير الأئمة وإجازة الأعمال الإرهابية التي يقوم بها الجناح العسكري، معتبرا أن منهجهم الممتد من مزاعم سيد قطب الذي أسس «التنظيم الخاص» والمعهود له ما يسمى «جيش الإسلام» كجناح عسكري يهدف إلى حماية جماعته.

* ثنائية الدين – السياسة
الباحث التونسي يوسف الغربي قال في حديث لـ«الشرق الأوسط» إن تنظيم داعش بالتحديد اتجه إلى أسلوب آخر تدعمه آراء فقهية غذاؤها آراء لرجال دين يرون أن جميع البلدان العربية تحكم بغير ما أنزل الله، وتسانده.
ثنائية الدين – السياسة تبيح استهداف المساجد في أدبيات «داعش» للوصول إلى حلم «دولة الخلافة»، معتبرا أن ذلك الخطاب ينسجم من خطابات ينادي بها تنظيم الإخوان المسلمين منذ نشأته، واستهدافه في الخمسينات الميلادية للشعب المصري ومحاولة اختراقه للمجتمع المصري واستهدافه لمن عارضهم بالاغتيالات والتفجيرات، بدعم من جهات خارجية.
ورأى الغربي أن التكتيك الحالي لـ«داعش» ضد الحكومات العربية القصد منه فرض رؤيتهم التي تدعمها بعض الجهات الغربية، عادا ذلك جزءا من التكتيك السياسي للإخوان مع الإدارة الأميركية بخلق حالة من الفصل بين الهرم السياسي والشعب وجعل الثقة بينهما مهزوزة، رغم ما يراه أنهما يناديان (داعش والإخوان) بمعاداة الحكومات الكافرة، وهما تنظيمان يعملان معهما، متسابقين نحو الخلافة.
وقال الباحث الغربي إن لدى الكثير لبسا في أن هناك تيارين للإخوان المسلمين، أحدهما يتبع حسن البنا والآخر يتبع سيد قطب، رادا على ذلك بأنه إحدى خطوات التقية الإخوانية لتبادل الأدوار تنفيذا تارة وإنكارا تارة أخرى، والقيام بأعمال القتل واستهداف النظام السياسي عبر خلق حالة من الرعب داخل المجتمعات.
ورأى أن استهداف المساجد ودور العبادة يهدف إلى قطع ثقة الشعوب المسلمة بأنظمتها وحكامها، وإشعال نيران الطائفية والترويج لذلك بخلخلة العقيدة الإسلامية الوسطية التي تقوم على احترام الأديان، وأن سعي «داعش» نحو الخراب وفرض سيطرة آيديولوجيته يسهم له في تنحية التنظيمات المتطرفة الأخرى خاصة تنظيمي القاعدة والنصرة، وجميعها وفق حديثه تيارات تسعى إلى فرض السيطرة، مفيدا في حديثه الشامل بأن كتاب «في ظلال القرآن» لسيد قطب يضع تصورا لدور «داعش» اليوم، حين ذكر: «وهذه المهمة، مهمة إحداث انقلاب إسلامي عام، غير منحصرة في قطر دون قطر، بل ما يريده الإسلام ويضعه نصب عينيه أن يحدث هذا الانقلاب الشامل في جميع أنحاء المعمورة، هذه هي غايته العليا ومقصده الأسمى الذي يطمح إليه ببصره، إلا أنه لا مندوحة للمسلمين، أو أعضاء (الحزب الإسلامي) عن الشروع في مهمتهم بإحداث الانقلاب المنشود والسعي وراء تغيير نظم الحكم في بلادهم التي يسكنونها»!

* التركيز على الفوضى من عنابر السجون
كان لافتا مع كشف القطاعات الأمنية للمنتمين إلى تنظيم داعش، وجود علاقة براغماتية مع دول إقليمية في ظل الأزمة والصراع السوري، بغية تصدير تلك الأحداث إلى منطقة الخليج ومصر، ورأى الخبير الأمني المصري إسماعيل محمد في حديثه لـ«الشرق الأوسط» أن الإجراءات التي اتبعتها بعض دول الخليج خاصة السعودية، وكذلك مصر على وجه التحديد، ضد الإسلام السياسي وتياراته، زاد من تحدي التنظيم الإرهابي في تجنيد عناصره داخل هذه الدول. وقال إن ذلك ساهم في إيجاد بيئتها عبر آيديولوجيا تستهدف صغار السن المفتونين بوسائل التواصل الاجتماعي، إضافة إلى المتعاطفين مع الإخوان المسلمين بعد سقوط حكمهم، معتبرا أن «داعش» والإخوان يحملان ذات الرؤية الفوضوية، وسعى كلاهما في استخدام قضايا المعتقلين السياسيين والإسلاميين لوضع أولئك قادة أو منفذين للخلايا الإجرامية. وأضاف إسماعيل أن هذه التنظيمات تستند في نشاطها بشكل مباشر إلى خطاب تروج له بين أفرادها وهو «الظلم الكبير» الذي روجته التيارات الإسلامية منذ أيام الملك فاروق والخروج عليه ومحاولة عزله، قبل أن ينقلبوا على جمال عبد الناصر في الستينات الميلادية، وحتى عزل محمد مرسي وفض اعتصام رابعة الذي وجد ترويجا للإسلاميين بالانتقام وأن حالة الحرب في صفوف التنظيم بدأت بعد أن جعلوا العمل العقائدي جانبا.
وعن الأسباب التي تجعل من الشباب أداة سهلة في الدخول في عالم التطرف، اعتبر في سياق حديثه أن التنظيم يجد في الجيل الجديد الذي يعد جيلا يبتعد عن الفهم العقدي فرصة لمخاطبته بأسلوب سهل يركز بداية على قلب فتاوى قديمة ووضعها في موقع مختلف للانطلاق إلى عالم تحقيق «دولة إسلامية» وإقناع بسيط بالخطاب المباشر أن «الأنظمة العربية كافرة»، مستطردا أن الثورات العربية وجريان الشباب حولها وإليها ساهما في انتشار الأسلوب الثوري والفوضى، وأن «داعش» بدأت في ترويج خطابها على أنه يراعي تحقيق رغباتهم خاصة الوضع الاقتصادي، معتبرا أن تلك رسالة من الممكن نجاحها في مصر خلافا للاستقرار والظروف المعيشية الجيدة في دول الخليج، لكنه برر انجرار عدد من شباب الخليج بوجود حواضن فكرية تدعم تلك المعتقدات التي يقوم عليها الدواعش.

عبدالله آل هيضه

صحيفة الشرق الأوسط