في الوقت الذي يُفترض أن يستغل التيار المحافظ الإيراني الانتصار الذي حققه في الانتخابات البرلمانية على حساب القوى الإصلاحية والمعتدلة (كتلتهم لا تتعدى 60 مقعداً في البرلمان الحالي)، بأن يُظهِر مستوى متقدماً من الانسجام والتنسيق والاتفاق حول توزيع المواقع البرلمانية في الرئاسة ونواب الرئيس وهيئة مكتب المجلس ورؤساء اللجان، يبدو أن الصراع داخل هذا التيار على التصدر والاستئثار انفجر بين أقطابه وتحول إلى معركة علنية قد تنذر بتفجر الخلافات بين هؤلاء الأقطاب.
لقد دخل إخوان الأمس في خصومة مفتوحة توزعت بين مناصرين لمرشح رئاسة المجلس الجنرال محمد باقر قاليباف، عمدة طهران السابق، ممثل تيار المحافظين التقليديين، وبين جماعة أو جناح رئيس الجمهورية السابق، محمود أحمدي نجاد، الذين يمثلون جماعة المحافظين الجُدد أو المتشددين تحت اسم “جبهة الصمود”.
المعركة داخل التيار المحافظ بشقيه التقليدي والنجادي، كشفت مدى الاستثمار الذي وظفه هذا الرئيس وفريقه على مدى السنوات الثماني التي تولى فيها موقع رئاسة الجمهورية، وأثبتت أنه عمل على تأسيس دولة عميقة تدين له بالولاء من دون استثارة موقع القرار في قيادة النظام أو تحريك مخاوفها. كذلك أكدت أنه لم يتخل عن الهدف الذي رسمه لنفسه ولجماعته على الرغم من المعارك والعراقيل التي أُثيرت حوله وحول إدارته وقيادته الدولة من داخل القوى المحافظة بغض النظر عن الصراع المنهجي والعقائدي بينه وبين القوى الإصلاحية التي لم يتردد بإقصائها وتشويهها وتخريب تجربتها في السلطة.
فنتائج الانتخابات البرلمانية، وإن كانت قد شهدت نصراً للتيار المحافظ، سمحت له بالادعاء أنه سيطر على نحو 250 مقعداً في البرلمان الجديد، إلا أن النتائج تشير إلى أن هزيمة قد لحقت بالجناح التقليدي في هذا التيار لمصلحة التيار المتشدد الذي يتزعمه نجاد. وتشير أيضاً إلى أن هذا الجناح يملك الكلمة الفصل في الاتجاهات التي ستذهب إليها عملية توزيع المواقع داخل هرمية السلطة التشريعية، خصوصاً أن التنافس على مقعد رئاسة هذه السلطة بات شبه محصور بين مرشح الجناح التقليدي قاليباف، ومرشح جماعة نجاد، حميد رضا حاجي بابائي وزير التربية في حكومة نجاد. وقد عقدت هذه الجماعة لقاءات عدة لإقناع الطامحين داخلها لهذا الموقع بهدف تحويل معركة الرئاسة إلى ثنائية بين مرشح تجمع عليه هذه الجماعة مقابل مرشح الجناح التقليدي، مصطفى مير سليم رئيس المجلس المركزي لحزب المؤتلفة الإسلامي المحافظ الذي ينتمي إلى الجناح التقليدي والممثل للبازار.
وفي سياق معركة السيطرة على السلطة التشريعية، فإن عودة جماعة نجاد بهذا الزخم وهذا الحجم المؤثر داخل التيار المحافظ، تفتح التقديرات على قضايا أبعد من هذه المعركة تطال الصراع المؤجل للعام المقبل 2021 حول رئاسة الجمهورية، خصوصاً أن هذه الجماعة وضعت شرطاً للتخلي عن مرشحها للبرلمان ودعم قاليباف، بأن يوقع تعهداً بعدم المشاركة في الانتخابات الرئاسية المقبلة وأن يدخل تعديلات في صلاحيات رئيس البرلمان ودوره بما يحرمه من تمثيل قرار هذه المؤسسة ويتحوّل إلى مجرد ناطقٍ باسمها ومعبر عن إرادة النواب مباشرة. الأمر الذي يصب في سياق تعزيز سلطات رئيس الجمهورية في اللجنة الثلاثية التي تجمع رؤساء السلطات الثلاث القضائية والتنفيذية والتشريعية، ما يسمح للرئيس المقبل بالتمتع بهامش واسع من الصلاحيات، من دون أن يدخل في صراع تنازع السلطات مع المرشد الأعلى وولي الفقيه المطلق الذي يتحكم دستورياً بمفاصل القرار والسياسية والاستراتيجية. وهي شروط وتعديلات ترفد المساعي التي تبذلها هذه الجماعة لكسر “الحرم” الذي وضعه مرشد النظام على ترشح نجاد للرئاسة والدفع به ليكون المنافس الجدي لأي مرشح يقدمه التيار المحافظ حتى لو كان علي لاريجاني.
في المقابل، لا يبدو معسكر التيار الإصلاحي أكثر انسجاماً واتفاقاً وتوافقاً على رؤية واحدة موحدة في المرحلة المقبلة. وما زال في مرحلة ترميم جراح الانكفاء الشعبي عنه، التي ترجمتها نتائج الانتخابات البرلمانية الماضية، فضلاً عن أن قوى أساسية تمثل ثقلاً داخل التيار الإصلاحي بدأت بالابتعاد وأخذت قراراً بالانفصال عن لجنة التنسيق العُليا للقوى والأحزاب الإصلاحية وبفتح النار على إدارة هذه اللجنة والعجز الذي ظهر في إدارة الملفات السياسية، خصوصاً تلك التي على تمس مباشر المشاركة في السلطة بحصة وازنة قادرة على التأثير في مسار الأحداث والقرار بالحد الأدنى.
من هنا، يأتي كلام محسن كرباستشي، رئيس اللجنة المركزية لحزب كوادر البناء، الذي تأسس حول الرئيس الأسبق الراحل هاشمي رفسنجاني، الذي صوّب نيران انتقاداته إلى الرئيس محمد خاتمي، الشخصية المحورية في التيار الإصلاحي التي تمثل مرجعيته القيادية والسياسية، معتبراً أنه لا يمثل الحالة التي يتم الحديث عنها، وأن وصوله إلى رئاسة الجمهورية كان من صناعة رفسنجاني وتياره في السلطة. وذهب كرباستشي أبعد من ذلك لتحميل خاتمي مسؤولية التراجع الذي لحق بتمثيل القوى الإصلاحية في مؤسسات الدولة ومواقع القرار داخل السلطتين التنفيذية والتشريعية.
وفي هذا السياق، برز كلام المُنظِر الإصلاحي المتصالح مع مراكز القرار في النظام، عباس عبدي، الذي اعتبر أن خاتمي بات يشكل عقبة أمام التيار الإصلاحي في تعزيز مشاركته في السلطة، مشيراً إلى أن السبب في ضعف هذا التيار يعود إلى تردد خاتمي وعدم حسم خياراته بين أن يكون زعيماً لقوى هذا التيار ويتحمل تبعات التصدي، وبين رغبته في البقاء في المنطقة المحايدة التي لا تحمله أو تكلف أثماناً تبني مواقف واضحة. وهو ما انعكس سلباً على أداء هذا التيار شعبياً وداخل المؤسسات والسلطة، فضلاً عن أن هذه القيادة لم تغامر في تقديم رؤية أو استراتيجية محددة وواضحة تمثل المشروع الإصلاحي للدولة وإدارتها وتكون قادرة على ترميم الصدوع التي أصابت الثقة الشعبية في هذا التيار وتعيد إقناعه بالعودة إلى المشاركة في صناديق الاقتراع التي تشكل الطريق الوحيد لإمكانية عودة هذه الأحزاب إلى مواقع القرار مستغلة ارتفاع نسبة المشاركة التي تصب في غير مصلحة التيار المحافظ الذي يمتلك نسبة باتت واضحة ومحددة من القاعدة الشعبية.
بعيداً عن التحديات التي تواجهها إيران والنظام فيها على المستويات الخارجية والداخلية، خصوصاً الاقتصادية، فإن المشهد السياسي ينقسم بين صراع على المكاسب داخل التيار المحافظ وصراع على تقاذف مسؤولية الفشل والتراجع داخل التيار الإصلاحي.
حسن فحص
اندبدنت عربي