بغداد – كشفت عمليات اعتقال قامت بها السلطات العراقية ضد مسؤولين متهمين بقضايا فساد عن كمية الرعب التي تعتري الطبقة السياسية في البلاد من أي إجراءات تتعلق بالنزاهة، في مقابل توق الشارع إلى ضرب كبار الفاسدين، في وقت بدا فيه أن تسارع الاعتقالات، لتطال وسطاء ووكلاء لشخصيات كبرى، رسالة عن اقتراب رئيس وزراء العراق مصطفى الكاظمي من مواجهة فساد الحيتان الكبيرة.
ومنذ 2003، بدد المسؤولون والساسة الفاسدون في العراق نحو ألف مليار دولار من المال العام، دون أن يتطور أي قطاع خدمي في البلاد.
ويعاني العراق كل عام في موسم الصيف بسبب سرقة الأموال المخصصة للكهرباء، بينما لا يزال يعتمد على مستشفيات ومنشآت صحية بنيت في عهد الرئيس الراحل صدام حسين، إذ جرى إهدار مليارات الدولارات الموجهة لهذا القطاع بعد 2003، فيما يرزح قطاع التعليم تحت ضغط قدم المنشآت ودخول الأحزاب على خط الاستثمار فيه من خلال المدارس والجامعات الأهلية، بينما تختنق بغداد بشكل يومي مرارا بسبب الزخم المروري، لأنها ما زالت تعتمد على طرق وجسور جرى إنشاؤها في عهد حزب البعث المحظور من العمل وفقا لدستور العراق الدائم.
وخلال الأعوام الأولى التي تلت سقوط النظام السابق، كان الترحم على “أيام صدام” يمثل جريمة تجلب لصاحبها العار وتهمة العمالة في الأوساط الشيعية، لكنه أصبح أمرا مألوفا الآن، ويظهر حتى على شاشات المحطات الفضائية.
ووصل العراقيون خلال الأعوام الأخيرة إلى الاقتناع بأن القضاء على الفساد السياسي والمالي والإداري في العراق أمر مستحيل، بعدما تيقنوا من أن استمرار وجود الأحزاب السياسية يعتمد بشكل تام على ما يسرقه ممثلوها من الدولة، حتى أن بعض النشطاء اقترحوا تقنين الفساد، كأن تحدد الموازنة السنوية حصة كل حزب من المال العام، كي يتسنى للدولة أن تحصل على ما يمكن أن تستخدمه لخدمة السكان.
1000
مليار دولار التهمها الفساد منذ عام 2003 في العراق
وتصدرت محاربة الفساد مطالب أوسع حراك جماهيري شهده العراق خلال أكتوبر من عام 2019، عندما تورطت حكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي، بالشراكة مع ميليشيات عراقية تابعة لإيران، في قتل نحو 700 متظاهر، وإصابة نحو 20 ألفا آخرين، في سبيل حماية نظام الأحزاب الدينية الفاسدة في البلاد.
وسلط حجم الممانعة الذي أبدته حكومة عبدالمهدي والميليشيات التابعة لإيران ضد فكرة إسقاط النظام القائم أو استبداله أو حتى تصحيح مساره، الضوء على كمية المكتسبات المالية التي تملكها أحزاب الإسلام السياسي التي تتلقى الأوامر والتوجيهات من طهران.
وعندما شكل مصطفى الكاظمي حكومته، بعدما أرغم المحتجون سلفه عبدالمهدي على الاستقالة، علّق الشارع آمالا كبيرة على رئيس جهاز المخابرات السابق في اجتثاث الفاسدين، بسبب سمعته الطيبة في الأوساط الشعبية.
لكن حملة الكاظمي المنتظرة ضد حيتان الفساد تأخرت كثيرا، ومع ذلك عندما لاحت بوادرها خلال الأيام الثلاثة الماضية، حظيت بتعاطف شعبي واسع.
وكان الكاظمي شكل لجنة خاصة لمتابعة قضايا الفساد الكبرى، أحيطت بالكثير من الجدل، يترأسها الجنرال البارز أحمد أبورغيف، وقيل إنه حصل على صلاحيات غير محدودة.
وبدأت الحملة باعتقال مسؤول من المستوى المتوسط، هو مدير دائرة التقاعد أحمد الساعدي، ما أثار تساؤلات بخصوص الأهداف التي يمكن للكاظمي أن يصل إليها، وجديته بشأن ملاحقة الكبار.
لكن الإثارة تضاعفت عندما ألقي القبض على بهاء عبدالحسين مدير شركة “كي كارد” المعنية بتسهيل صرف رواتب المتقاعدين وهو يهم بالهرب من مطار بغداد بعد يومين من القبض على الساعدي.
وقالت مصادر مطلعة إن الساعدي أدلى باعترافات قادت إلى كشف شبكة واسعة لغسيل الأموال، تخدم مسؤولين وساسة وأحزاب، وتعتمد على متعاونين في بيروت.
وتسبب اعتقال عبدالحسين بضجة كبرى، وذلك للصلات القوية التي تربطه بمسؤولين سابقين وزعماء حاليين.
وتشير المصادر إلى أن اعتقال عبدالحسين قد يقود إلى اعتقال شخصيات أخرى واستعادة أموال من الداخل والخارج.
وشملت حملة الاعتقالات الجديدة أيضا مدير المصرف الزراعي عادل خضير و12 موظفا تحت امرته.
ولم تكشف الجهات الرسمية عن سبب اعتقال خضير، لكن مصادر مطلعة قالت إن التحقيقات ربطته باختفاء مبالغ طائلة ضمن ما يعرف بـ”المبادرة الزراعية”، التي تعود إلى عهد رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.
واستغل المالكي تزامن صعود أسعار النفط وزيادة إنتاج العراق من البترول في عهده للحصول على موازنات انفجارية، لكن حكومته لم ترتبط بأي إنجازات رغم ذلك، مخلفة وراءها أكبر ملفات الفساد وهدر المال العام.
وظهر اسم المالكي في قضية أخرى يتابعها الكاظمي، تتعلق بمشروع ماء عملاق في بغداد، صُرفت عليه ملايين الدولارات، دون أن يكتمل.
وقالت مصادر قضائية إن أوامر بمنع السفر صدرت بحق ذكرى علوش أمينة بغداد السابقة، ومديرة العقود في وزارة التخطيط ازهار الربيعي، وذلك بسبب شبهة تواطئهما في إسقاط غرامة بنحو 100 مليون دولار على الشركة المنفذة لمشروع الماء، فضلا عن اعتقال مدير دائرة ماء العاصمة.
ويرتبط مدير الشركة المنفذة، وهو مقاول يدعى عصام الأسدي، بعلاقة وثيقة مع المالكي، وتشير معلومات إلى أنه ما زال يدير مصالحه التجارية الواسعة، تحت واجهات مختلفة.
لكن الضربة الأكبر في هذه الحملة، تلك التي طالت شاكر الزاملي، وهو رئيس هيئة استثمار بغداد، الذي تشير المعلومات إلى ارتباطه الوثيق بالمصالح التجارية الواسعة التي تخص حزب الله اللبناني في العراق.
وتقول المصادر إن الزاملي استغل منصبه لمنح شركات تابعة لحزب الله عقودا بملايين الدولارات، دون أن ينفذ أيًّا منها، مشيرة إلى أن علاقة رئيس هيئة استثمار بغداد بالحزب اللبناني الذي يقوده حسن نصرالله حصنته من الملاحقات القانونية طيلة الأعوام الماضية.
ولأنها تضرب في جانب منها شبكة المصالح التي تخدم حلفاء إيران، أغضبت حملة الكاظمي ضد الفاسدين الميليشيات الشيعية، ودفعتها إلى التلويح بالتهديد.
ويخشى نعيم العبودي، النائب في البرلمان عن حركة عصائب أهل الحق بزعامة قيس الخزعلي، “وجود دوافع انتقامية وراء هذه الحملة”، متسائلا عن سبب “تشكيل لجنة جديدة لمحاربة الفساد، برغم وجود هيئة مختصة بالنزاهة”.
ويقول العبودي إن “هناك مخاوف بشأن إمكانية وجود دوافع سياسية وراء هذه الحملة”، مشيرا إلى أن “الكاظمي تجاوز السياقات الدستورية بتشكيل هذه اللجنة الخاصة لمحاربة الفساد”.
وتابع “قد تتورط اللجنة نفسها في فساد من نوع ما”، مشيرا إلى أن كتلة الفتح التي ينتمي إليها، وتعد الممثل السياسي الوحيد للميليشيات العراقية التابعة لإيران في البرلمان، “ستواجه أي إجراءات انتقائية وانتقامية تفجر الوضع في البلاد”.
ومضى يقول إن “محاربة الفساد تحتاج الى اتفاقات سياسية”، بمعنى أن على الكاظمي أن يستأذن الأحزاب قبل اعتقال فاسديها، لأن “خطوات الكاظمي الحالية ليست قانونية، وقد تقع ردات فعل ضدها”.
العرب