ظهر في الآونة الأخيرة استطلاعان جديدان وواسعا النطاق للرأي العام العربي، هدفهما قياس الاتجاهات الإقليمية الأولية، بالإضافة إلى هدف جزئي آخر هو الاحتفال بالذكرى السنوية العاشرة للربيع العربي. أجري الاستطلاع الأول من خلال مؤشر الرأي العربي لعامي 2019-2020، وهو السابع في سلسلة استطلاعات الرأي العام السنوية التي يجريها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، قطر. أما الثاني فهو يتمثل في الاستطلاع السنوي الثاني عشر للشباب العربي، الذي تديره وكالة الاتصالات شركة أصداء بيرسون كون وولف، ومقرها دبي. يستند كلا من التقريرين البحثيين إلى تحليل الردود التي احتوتها الاستطلاعات والتي تم جمعها خلال العام الماضي من عشرات الآلاف من الأشخاص في 15 دولة عربية.
كما هي حال معظم الاستطلاعات العربية، لا بد من مقاربة الأسئلة المتعلقة بالشق السياسي بحذرٍ يلامس حدّ الارتياب. فهي غالبًا ما تعكس اهتمامات الجهة التي نظّمت الاستطلاع، بينما يبدي المشاركون أنفسهم كثيرًا من الحذر في إجاباتهم. لذلك ليس من المستغرب، في استطلاع أُجري برعاية قطرية، أن يُعرب معظم العرب عن عدائهم تجاه المملكة العربية السعودية، ويتحاشون الاعتراف بإسرائيل (بهامش 88 في المائة في هذا الشأن)، ويتوقون إلى التضامن بين كل العرب. ففي النهاية، مَن يرأس معهد الأبحاث هذا ما هو إلا السياسي العربي الإسرائيلي المنشقّ والقومي العربي المتشدد عزمي بشارة. ولكن في نفس الوقت، في استقصاءٍ أجري برعاية دبي، وُصفت السعودية بالقوة الصاعدة في المنطقة، في حين أن الإمارات نالت للسنة التاسعة على التوالي لقب المكان المفضل للعيش بين كل العرب، متفوقةً على الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا.
في المقابل، أكثر ما يلفت النظر في معظم الاستطلاعات العربية (بما فيها تلك التي تُجرى مع الفلسطينيين) هو الشق المتعلق بالقضايا الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، كونه يبقى بعيدًا نسبيًا عن الحسابات السياسية وبالتالي يعكس اتجاهات أساسية أكثر صدقًا وواقعية. وبالفعل، يتّسم هذان الاستطلاعان للرأي العام العربي، اللذان يختلفان بشكل حاد من نواحٍ أخرى، بتشابهٍ نادر في وجهات النظر المتعلقة بالمجالات غير السياسية تحديدًا.
وهذا هو إجماعها المؤسف: بعد مرور عقدٍ على اندلاع الشرارة المتفائلة للربيع العربي، يشعر معظم سكان تلك المنطقة، لا سيما الجيل الأصغر، بمزيج من الحرمان المادي والقلق أو حتى اليأس بشأن مستقبلهم – فضلاً عن انعدام الثقة بشكل تام في قدرة أنظمتهم أو استعدادها لحل مشاكلهم الأساسية سواء في المجال الاجتماعي أم في المجال الاقتصادي.
من المؤكد، كما سبق وأشار ديفيد بولوك للمرة الأولى منذ سنوات، أنه ما من “شارع عربي” واحد بل ثمة عدة “شوارع عربية” مختلفة في بلدان مختلفة – أو حتى داخل الدولة العربية الواحدة في بعض الأحيان. واليوم أيضًا، يمكن إيجاد بعض الاستثناءات المشرقة لهذا الشتاء العربي العام من السخط. لكنّ الصورة الكبرى تقدم الاستنتاجات البارزة التالية.
أولاً، أصبحت الوقائع الاقتصادية اليوم محور أجندة العرب وجوهر رغباتهم الشخصية والجماعية. فحين سُئل المشاركون في الاستطلاع عن الأسباب الرئيسية لاندلاع الموجتين الأولى والثانية من الربيع العربي – الأولى قبل عقد من الزمن والثانية في دول أخرى خلال العام الفائت – جاءت الإجابات التالية في الطليعة: البطالة والديون الشخصية والفساد الحكومي. وجدير بالذكر أنه في العام 2015، أفاد 15 بالمائة فقط من الشباب العربي بأنهم غارقون في الديون، أما اليوم فيبلغ متوسط هذه النسبة 35 في المائة، وترتفع النسب بشكل خاص بين السوريين والأردنيين والفلسطينيين. هذا وصرّح 80 في المائة من المشاركين في الاستطلاع أنهم يعتبرون الأنظمة العربية فاسدة.
ثانيًا، وفي تناقضٍ حاد مع ما سبق، لا تظهر قضايا الديمقراطية أو الحريات السياسية إلا على هوامش الإجابات. ويتجلى هذا الاستبعاد في الوقت الحاضر بشكل خاص، أي في خضم الموجة الثانية من الاحتجاجات الشعبية في المنطقة هلال عامي 2019-2020، الأمر الذي يدل على الوعي بأن ثورات العقد الماضي أتت بثمارٍ مُرّة، ألا وهي الحرب الأهلية والمحن الإنسانية وظهور العناصر المتطرفة القوية وانهيار ضوابط الحكم.
واليوم، بدلاً من السعي إلى تغيير العالم، يُظهر العرب بمعظمهم (وخصوصًا جيل الشباب) أن تحسين وضعهم المادي فحسب يكفيهم. وهم في غالب الأحيان يعطون الأفضلية للمصالح الفردية على حساب المصالح الجماعية، كأنهم يستلهمون من الحساسية الفردية المفرطة التي تسود اليوم العالم أجمع.
إذًا، يرسم هذان الاستطلاعان صورة الجيل العربي الشاب في القرن الواحد والعشرين. إنه جيلٌ سئم من شعارات النضال والثورة التي عرفها العالم العربي في القرن العشرين والتي لم تُفضِ إلى إنجازات مهمة تُذكر. وعلى العكس، يشعر معظم العرب أن هذه الحقبة لم تؤدِّ إلا إلى تدهور أوضاعهم. كما أن هذا الجيل على اتصال سلكي ولا سلكي ببعضه البعض وبالعالم الخارجي، ولذلك فهو مدرك للعالم الأوسع وللهوة بين ما يحدث في الخارج ووضعه الداخلي. ويتوق أيضًا إلى تحقيق ذاته، لكنه مستاء من عجزه عن تحقيق رغباته.
من هذا المنطلق، يواجه الجيل العربي الشاب صعوبةً في تحديد موقع ممثليه في أي قيادة وطنية، ويشعر بأنه مستبعد عن خصائص النظام أو أهدافه؛ حتى أنه يشعر إلى حدٍ كبير أنه يتحدث لغة ويتبنى مفاهيم مختلفة تمامًا عن الأجيال السابقة.
وفي هذا السياق، أفادت أكثرية المشاركين في كلا الاستطلاعين بأنهم لا يجدون تشابهًا بينهم وبين أي حزب أو حركة سياسية، وأن ثقتهم في أيٍّ من تلك الأحزاب أو الحركات ضئيلة. إنه إذًا جيلٌ غير سياسي بالدرجة الكبرى، ويكاد يكون معاديًا للأيديولوجية. وفي توجّهٍ أخذ يتنامى خلال العقد الماضي، أصبح ملاذه الرئيسي هو ببساطة الهروب من المنطقة بأسرها. وبذلك، يُعرب نصف أبناء الفئة العمرية الصغرى، ولا سيما في لبنان وليبيا والعراق، عن رغبتهم في الهجرة من العالم العربي، ويقول 40 في المائة منهم إنهم لن يعودوا أبدًا.
ثالثًا، على الصعيد الثقافي، يعكس الاستطلاعان نظرةً إلى العالم ملؤها التناقضات الداخلية أو أقله التضارب. فمن جهة، تقول نسبةٌ كبيرة ومتزايدة من العرب إنهم إما متدينون إلى حد ما (63 في المائة) أو متدينون جدًا (23 في المائة)، وأن الدين هو العنصر الأساسي في هويتهم: وهذا رأي 40 في المائة، ويأتي الدين في هذه الحالة قبل العائلة أو الانتماء الوطني.
من جهة أخرى، ثمة معارضة شديدة (70 في المائة) لمشاركة رجال الدين في إدارة شؤون الحكم، ويعود ذلك على ما يبدو إلى خيبة الأمل الواسعة النطاق من كل الحالات التي تولّت فيها أطرافٌ إسلامية السلطة في الدول العربية: من حركة “حماس” في غزة عام 2007، فحكم “الإخوان المسلمين” في مصر بين 2012 و2013، وصولاً إلى نظام “داعش” المرعب والمدمّر في أجزاء من سوريا والعراق خلال الأعوام 2014-2018. بهذا الصدد، خرج الاستطلاعان بمزيج غريب آخر من المواقف الجديرة بالملاحظة، وهو النفور العارم (بنسبة 88 في المائة) من ظاهرة “داعش”، والادعاء (بنسبة 55 في المائة) بأنها تطورت برعاية قوى خارجية وليس من اعتلالات داخلية في العالم العربي (27 في المائة).
رابعًا، يحتل العالم السيبراني/الإنترنت مكانةً مركزية في الحياة العربية المعاصرة، لا سيما بين جيل الشباب. وبشكل عام، أصبحت نسبة مستخدمي الإنترنت اليوم وفقا لتقرير مؤشر الرأي العام 73 في المائة من العرب، مقارنةً بـ 55 في المائة فقط عام 2011. ومن بين هؤلاء، يملك 865 في المائة ممّن يستخدمون الإنترنت حسابًا على فيسبوك، فيما يملك 55 في المائة حسابًا على إنستغرام و43 في المائة على تويتر. والواقع أن هذا العالم يعرّف الشباب العربي على العالم بطريقة لم تكن ممكنة لمن يكبرهم سنًّا. وهذا بدوره يجعل من الصعب على الأنظمة العربية إخفاء الحقيقة أو فصل شعبها عن العالم الخارجي – لا بل يزيد عليها صعوبة إقناعهم بمظاهر كاذبة. فنشرات الأخبار والأفكار الجديدة تنتشر في جميع أنحاء الشرق الأوسط بسرعة نقراتٍ قليلة أو رسالة على تطبيق واتساب، حتى لو كان معظم هذه التبادلات مجرّد شعارات أو محتوى سطحي.
عند النظر إلى كلا الاستطلاعين مجتمعَين، يمكن التوصل إلى استنتاج مركزي وهو أن التقلبات الإقليمية لا تزال موجودة. فمعظم المشاكل الأساسية التي “تفتّح” فيها زهر الربيع العربي للمرة الأولى لا تزال بدون معالجة، لا بل إن الوضع الاجتماعي والاقتصادي للشباب العربي تدهور فعليًا من نواحٍ كثيرة، باستثناء دول الخليج العربية حيث أتاح الاستقرار الاقتصادي النسبي مرور هذه التقلبات بهدوء.
وهذا هو “الشرق الأوسط الجديد” الحقيقي، لكنه شرق أوسط يفتقر إلى الاستقرار بشكل كبير، وأُسسه المتزعزعة هي وجود عدة ملايين من الشباب الذين يتعارض طموحهم بالتغيير في تجاربهم اليومية مع إحباطات الواقع غير المتغير الذي يجب أن يتحمّلوه.
بالرغم من انشغال العالم العربي بفيروس كورونا خلال العام الماضي، لا تزال هذه الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية الأعمق تصيب جيل الشباب في جميع أنحاء المنطقة، ومن الممكن أن تتجسّد في موجة ثالثة من الربيع العربي، موجة قد تتطور في عدة مواقع مختلفة وربما تتجدد في دول سبق أن شهدتها. وفي طليعة هذه الفئة مصر التي يُعتبر وضعها الاقتصادي الحساس على شفير الانهيار دائمًا. ولبنان مرشح آخر، فهو اليوم أشبه ببركان قد يثور في أي لحظة.
في المقابل، قد تنشب الاضطرابات في أماكن جديدة لم تختبرها حتى الآن. وأبرز منطقة مرشحة هنا هي الأردن، حيث يمكن أن يصبح الوضع الاجتماعي والاقتصادي، مقرونًا بالنقد العلني المتزايد للنظام الملكي، نموذجًا لاحتجاجات داخلية حادة. وثمة أيضًا الساحة الفلسطينية حيث يتعرّض النظام الحاكم في كلٍّ من غزة ورام الله لضغوط شديدة من أجل التجاوب بشكل حقيقي مع المشاكل الأساسية لشبابه – وليس واضحًا حتى متى سينجح كلا النظامين في إبعاد الاحتجاجات الداخلية عنه من خلال تحويل محور الإحباط والغضب الشعبيَّين نحو “العدو الإسرائيلي”.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا التقلب في غالبية العالم العربي، وخصوصًا في الدول المجاورة، يثير قلق إسرائيل، ولكنها لا تملك إلا القليل من الأدوات الفعالة التي تستطيع من خلالها ممارسة أي تأثير كبير في تلك الساحات. غير أن احتمال حدوث اضطرابات على الساحة الفلسطينية يشكل خطرًا حقيقيًا على إسرائيل، وقد يكون له تداعيات مباشرة على وضعها الاستراتيجي. وهذا هو بالتحديد المجال الذي تملك فيه إسرائيل، بخلاف ظروف الدول العربية المجاورة، عددًا أكبر من الأدوات المتاحة، ولا سيما تلك المتعلقة بالشؤون الاقتصادية والمدنية، من أجل التأثير على الأحداث.
يدرك معظم الناس في الضفة الغربية بالدرجة، أنه بالرغم من ظروفهم الصعبة، لا يزال وضعهم أفضل من وضع الأماكن الأخرى في المنطقة التي كان عليها أن تعيش الربيع العربي. وبحسب استطلاع خليل الشقاقي لشهر كانون الأول 2019، فإن 65٪ من الفلسطينيين لا يريدون أن يمتد الربيع العربي إلى الساحة الفلسطينية.
ومن ثم، يمكن لإسرائيل أن تعمل على دعم الاستقرار هناك من خلال تشجيع المشاريع الاقتصادية الكبيرة في الضفة الغربية مع الاستمرار في تحويل الإيرادات والأموال وإصدار التصاريح للعمال، حتى مع استمرار الأزمة السياسية. يجب أن تركز إسرائيل أيضًا على الحفاظ على مستوى مرتفع نسبيًا من جودة الحياة في الضفة الغربية مع العمل على إقناع المجتمع الدولي بإرسال المزيد من الاستثمارات أو التبرعات للسلطة الفلسطينية.
مايكل ميلستين
معهد واشنطن