عرض كتاب: من اليمن إلى ليبيا: الدولة الفاشلة والسياسة الهشة.. قراءة لمعضلات الشرق الأوسط

عرض كتاب: من اليمن إلى ليبيا: الدولة الفاشلة والسياسة الهشة.. قراءة لمعضلات الشرق الأوسط

3776

حاولت العديد من المؤسسات الدولية والجهات الأكاديمية وضع معايير مُحدَّدة لتصنيف الدول الفاشلة أو الهشة. ويمكن القول إن معظم هذه التصنيفات قد اتفقت تقريبًا على كون منطقة الشرق الأوسط هي المُصدِّر الأكبر لظاهرة الدولة الفاشلة أو الهشة. وفي هذا الإطار، جاء هذا الكتاب، المكّون من عدة دراسات أعدها مجموعة من الخبراء والباحثين، وحرّرها البروفيسور “مهران كامرافا”، الأستاذ ومدير مركز الدراسات الدولية والإقليمية بجامعة جورج تاون بقطر، ساعيًا وراء دراسة ظاهرة الدول الفاشلة أو الهشة في الشرق الأوسط، من خلال البحث في الدور الوظيفي للأنظمة السياسية، وإبراز أن “السياسة الهشة” التي تنتهجها بعض الدول، ليست إلا انعكاسًا لسمات الدول الضعيفة في منطقة الشرق الأوسط التي لا تختلف في نهاية المطاف عن سمات الدولة الفاشلة.

وذلك من خلال استعراض عدة دراسات حالة لبعض دول المنطقة. إشكالية تعريف “الدولة الفاشلة”: يُحاول “مهران كامرافا” في أولى دراسات هذا الكتاب أن يعالج إشكالية تعريف “الدولة الفاشلة”. ويوضّح أنه رغم كون “الدولانية” Statism أحد أهم القواسم المشتركة الأكثر شيوعًا بين الأغلبية الساحقة لدول الشرق الأوسط؛ فإن هناك عدة دول في المنطقة تعاني من الضعف بصفة مزمنة، مثل: (لبنان، واليمن، والسودان).

وبالتوازي مع ذلك، فإن هناك العديد من الدول التي أضرّت سماتها الهيكلية والمؤسسية بمجمل قدراتها، وهو ما أفقدها الشرعية السياسية، ليجعل منها دولة عُرضة للضعف. حاول كامرافا توضيح أهمية دراسة الدول الضعيفة، كونها قضية تحتل مكانة محورية في عملية وضع سياسات التنمية والأمن القومي، بدليل الارتباط الوثيق بين الدول الضعيفة أو المنهارة وظاهرة الإرهاب وانتشار الجماعات الإرهابية. صنف كامرافا آراء العلماء والباحثين حول مفهوم “الدولة الفاشلة” إلى ثلاثة تيارات: التيار الأول: يُركّز على الأهمية التحليلية لمفهوم الدولة الفاشلة، وخاصة في إطار دراسة العلاقات الدولية والقضايا الأمنية. التيار الثاني: غالبًا ما يكون مُنفتِحًا على هذا المفهوم، ولكنه يرى أنه غير ذي جدوى من الناحية التحليلية، بسبب الصعوبات الأكاديمية في تعريفه بدقة.

لأن المصطلحات المرتبطة بـ”الدولة الهشة” غالبًا ما تُعاني من عدم الدقة التحليلية. أمّا التيار الثالث: فهو مُعادٍ بشكلٍ صريح لهذا المفهوم، باعتباره مفهومًا إثنيًّا تُروّج له الأجندات السياسية المُهيمِنة. وجاءت المصالح الدولية – وخاصة الأمريكية – مُتسقة مع الترويج لدراسة مفهوم “الدولة الفاشلة”، وهو الأمر الذي بلغ ذروته عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر، حيث بدأ النظر إلى الدول الضعيفة باعتبارها تُمثل تهديدًا للولايات المتحدة والأمن الدولي، وهو ما جعل جهود الولايات المتحدة وحلفائها لـ”بناء الدولة” في جميع أنحاء العالم تُركّز أولا وبشكل رئيسي على بناء القطاع الأمني. وقد خَلُصَ كامرافا إلى أن ضعف الدولة غالبًا ما يكون مُتجذِّرا في تقلص قدراتها، وتآكل أو تلاشي شرعيتها. العوامل الكامنة في فشل الدولة اليمنية: كشف تشارلز شميتز، أستاذ الجغرافيا بجامعة توسون والمتخصص في شئون الشرق الأوسط واليمن، في دراسته ضمن هذا الكتاب، أن الدولة الفاشلة هي تلك التي تعجز عن أداء دورها الوظيفي في توفير الحاجات الأساسية لمواطنيها، ولكن في بعض الدول تلعب السياسة الدولية والأطراف الخارجية أدوارًا محورية في تشكيل وعمل مؤسسات الدولة، مما قد يعوقها عن أداء دورها الوظيفي. وعن الدولة اليمنية ذهب شميتز إلى أنها ربما تكون نموذجًا مثاليًّا لهذه الدول؛

حيث كانت المصالح الأجنبية عاملا حاسمًا في تحديد مسار السياسة الداخلية اليمنية، بما في ذلك التطور التاريخي للمؤسسات السياسية الرئيسية في فترة ما بعد الاستقلال. ويقول شميتز إن أصل نشأة الدولة في أوروبا وأمريكا ارتبط بفكرة العقد الاجتماعي لمجتمع ثار على الطغيان، وسعى إلى الحرية، ولكن في اليمن ارتبط تأسيس الدولة بالمشروع الإمبراطوري البريطاني لإخضاع الجزيرة العربية تحت سلطتها. وفي ستينيات القرن الماضي حاول مجموعة من العسكريين اليمنيين غرس نموذج الدولة القومية الحديثة في اليمن، بعيدًا عن النموذج الاستعماري، ولكن أدى الصراع الجيوسياسي بين الفواعل المتنافسة في المجتمع الدولي إلى إحباط ذلك المشروع. فالمملكة العربية السعودية وبريطانيا وإسرائيل كانت تسعى إلى تقويض نفوذ عبد الناصر في اليمن، لذا أنتجت التسوية السياسية التي تمت عام 1970 نمطًا من السلطة السياسية يُسهّل التأثير السعودي في اليمن، وهو ذلك النمط الذي لا يزال قائمًا حتى يومنا هذا. وبذلك لم تعد الدولة اليمنية جهازًا وظيفيًّا يخدم المجتمع السياسي المحلي، ولكنها تعكس حالة الصراع على السلطة بين الجهات الفاعلة المحلية وبين الجهات الفاعلة الخارجية التي تسعى إلى فرض نفوذها في البلاد.

وهكذا صارت اليمن مزيجًا معقدًا من الضغوط الخارجية والمصالح المحلية. ثم تحدث شميتز عن أن تشكيل الهوية والمجتمع السياسي في اليمن خاضع بشكل أساسي لمزيج من مستويات القوة والسلطة على النطاق المحلي والإقليمي والدولي، دون أن يكون للأفراد إرادة حقيقية في تشكيل مجتمعهم السياسي. وهو الأمر الذي يتضح في قضية انفصال جنوب اليمن، فعلى الرغم من أن فكرة تأسيس مجتمع سياسي مستقل قد ترسّخت في جنوب اليمن، فإن شمال اليمن، يرفض فكرة وجود مجتمع سياسي جنوبي مستقل، ويصرّ على أن التطلعات السياسية الجنوبية سيتم الوفاء بها في ظل الحكومة المركزية. وكذلك فإن الأمم المتحدة والولايات المتحدة وأوروبا يرفضون فكرة وجود مجتمع سياسي منفصل في جنوب اليمن، وذلك ليس نتيجة لدراسة الواقع السياسي في الجنوب، ولكن على افتراض أن الانفصال سوف يُسهِم في تقويض الاستقرار السياسي في المنطقة. ليبيا ما بعد القذافي: دولة على المحك: يرى “فريدريك ويري”،

الباحث في برنامج الشرق الأوسط بمؤسّسة كارنيجي للسلام الدولي، أن ليبيا قد عانت في فترة ما بعد القذافي من مجموعة مذهلة من التحديات، فحكومتها المركزية الضعيفة سعت جاهدة لبسط سلطتها على مساحات شاسعة من أراضي البلاد، بما في ذلك المنطقة الشرقية المضطربة التي ظلت تعاني من التهميش في ظل نظام القذافي، وشهدت تفاقم دوامة العنف بين الفصائل القبلية المتناحرة والإسلاميين وبقايا نظام القذافي. كما أصبحت الحدود الليبية مُخترَقة ومعبرًا لتجارة الأسلحة في شمال إفريقيا. أي أن ليبيا ما بعد القذافي مثّلت نموذج الدولة الفاشلة التي لم تعد قادرة على السيطرة على أراضيها، أو توفير الأمن والسلع الأساسية للمواطنين.

وعلى عكس التحليلات التي أفضت إلى أن الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين هو السبب الرئيسي في انهيار المرحلة الانتقالية في ليبيا، يؤكد “ويري” أن محور أزمات ليبيا الراهنة كان الصراع على الشرعية الثورية بين الفصائل المسلحة والأفراد ذوي الخلفيات والخبرات المختلفة مع نظام القذافي، فهناك فصائل وأفراد عانوا من اضطهاد القذافي على مدار سنوات حكمه، قبل أن ينضموا إلى الثورة، وهناك من تعاونوا مع نظام القذافي أثناء حكمه، ولكنهم انقلبوا عليه عقب الثورة، وهناك من أمضى سنوات خارج ليبيا، ولم يَعُد إلا بعد انطلاق الثورة.

ولم تُفلح مؤسسات الدولة في السيطرة على هذا الصراع، أو التحكيم بين هذه الفصائل، كما لم يكن هناك فصيل لديه القوى الكافية لحسم هذا الصراع لصالحه مبكرًا، وهو ما أدى إلى تدهور الأوضاع هناك بشكل طردي. وفي الوقت ذاته، يرى “ويري” أن هناك بعض العوامل الهيكلية التي قد تجعل المشهد الليبي أكثر اتزانًا دون غيره في دول أخرى، فليبيا ما زالت تحوي بنيةً تحتية لم تدمرها الحملة العسكرية لحلف الناتو، كما أنها لا تعاني من تدخل قوي في شئونها من قبل جيرانها، كسوريا والعراق، أي أن عملية الاستقطاب الإقليمي ليست على أشدها في ليبيا، وأخيرًا، فإن ليبيا تمتلك مجتمعًا مدنيًّا قويًّا وشبكات من الجهات الفاعلة غير الرسمية (القبائل، والشخصيات الدينية، والنخب التجارية)، وهي الشبكة التي قد تسد أوجه القصور في مؤسسات الدولة الضعيفة، وتعمل على توفير مجموعة واسعة من السلع والخدمات للمواطنين.

ولكن يُحذّر “ويري” من أن استمرار الوضع الليبي الراهن، وكذلك استمرار الفراغ المؤسسي في ليبيا؛ قد يقضي على فاعلية هذه العوامل الهيكلية، لتتلاشى أيُّ إمكانيةٍ للسيطرة على المشهد هناك. حزب الله: فاعل قوي داخل دولة ضعيفة: عَمِد باسل صالوخ، أستاذ العلوم السياسية المشارك في الجامعة اللبنانية الأمريكية، وشوهيج ميكاليان، باحثة الدكتوراه في جامعة كونكورديا في مونتريال بكندا، في أحد فصول الكتاب، إلى دراسة حزب الله والدولة اللبنانية بشكلٍ مفصل. فيرى الكاتبان أنه على مدار العقود الثلاثة الماضية تحوّل حزب الله من جهاز سري أسسّه الحرس الثوري الإيراني إلى أقوى فاعل سياسي داخل لبنان، وإلى لاعب رئيسي في السياسة الإقليمية. وبالتزامن مع هذا التحول، تغيرت أجندته الجيوسياسية، فتطور من كونه حركة مقاومة منشغلة بمواجهة الاحتلال الإسرائيلي إلى فاعل سياسي داخلي قوي، بالإضافة إلى لعب دور محوري في الاستراتيجية الإيرانية الإقليمية في المنطقة. وقد حدثت التحولات المحلية والإقليمية لحزب الله في سياق دولة لبنانية ضعيفة مؤسسيًّا ومُخترَقة خارجيًّا.

وتأسست شرعية حزب الله على تجاهل الدولة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للمناطق الشيعية في لبنان، فضلا عن عدم قدرتها على تحرير الأراضي اللبنانية المحتلة، أو ردع الغارات الإسرائيلية في الجنوب. ويُتابع الكاتبان دراستهما لحزب الله في هذا الفصل بأن الدول الغربية بالتنسيق مع حلفائها اللبنانيين سعوا بعد اغتيال الحريري إلى الحد من نفوذ حزب الله في السياسة اللبنانية والإقليمية، ولكن جاءت هذه الجهود بنتائج عكسية، نتيجة ضعف الدولة اللبنانية مقارنة مع موارد حزب الله، وطبيعته المؤسسية، واتساع قاعدة الدعم الشعبي له، بالإضافة إلى خبرته العسكرية الهائلة، ودوره الإقليمي الاستراتيجي. وأكد الكاتبان أنه طالما ظلت الدولة اللبنانية ضعيفة وغير قادرة على تأكيد سيادتها على كيانها الجغرافي، وطالما ظل الجيش اللبناني يُعاني من نقص الأفراد والمعدات. فسيظل حزب الله مُتحمِّلا للمسئوليات الاجتماعية والاقتصادية للطائفة الشيعية في لبنان، وكذلك مُتحمِّلا لمسئولية ردع أي عدوان إسرائيلي محتمل. وهو الأمر الذي بدوره سوف يزيد من انقسام الشعب اللبناني، وستظل لبنان ساحة للمعارك المحلية والإقليمية على حساب استقرارها الداخلي. كيف تؤثر المساعدات الخارجية على الدول الفاشلة؟ اتجه مجموعة من الباحثين من جامعة ديكن والمعهد الملكي للتكنولوجيا في ملبورن، في دراسة هامة ضمن هذا الكتاب، إلى تناول مدى فاعلية المساعدات الخارجية على الدول الفاشلة.

فيرى الباحثون أن معظم المساعدات والمعونات المالية تتجه إلى الدول الفاشلة، ظنًّا من الجهات المانحة أن هذه المساعدات ربما تساعد في إقامة السلام، ومنع هذه الدول من الانهيار، وليس أدّل على ذلك من تلك الإحصائية التي تقول إنه في الفترة من 2007 إلى 2011 نالت ثلاث دول، غالبًا ما تم تصنيفها على أنها دول فاشلة أو ضعيفة أو هشة (وهي: العراق، وأفغانستان، وجمهورية الكونغو الديموقراطية) 14% من إجمالي ميزانية المساعدات الإنمائية الرسمية العالمية. ثم يتجه الباحثون إلى تعريف الدول الفاشلة من منظور تنموي، ويقولون في هذا الصدد، إنه يجب أن تتوافر في الدول الفاشلة سمتان رئيسيتان، وهما: 1- انخفاض مستوى إنجازات عملية التنمية متعددة الأبعاد، ووجود تفاوت كبير في مستويات الدخل بين الأفراد، وارتفاع معدلات الفقر. 2- عدم امتلاك القدرة على تحويل المساعدات الخارجية إلى نتائج ملموسة في عملية التنمية، سواء كان ذلك على مستوى النمو الاقتصادي، أو خفض معدلات الفقر، أو رفع المستويات العامة للمعيشة. وهنا أكد الباحثون أن نجاح المساعدات الخارجية كوسيلة للتعامل مع الدولة الفاشلة يتوقف على “القدرة الاستيعابية” للدولة التي تتلقى المساعدات، ومن ثَمَّ إمكانية الاستفادة من هذه المساعدات في تحقيق تنمية حقيقية تنتشل الدولة من براثن الفشل. مع ملاحظة أن هذه القدرة الاستيعابية ترتبط بحزمة من القيود، منها القيود على رأس المال؛ والتي تتضمن الموارد البشرية والبنية التحتية. وكذلك القيود الحكومية؛ والتي تتضمن السياسات والقيود المؤسسية. ومع اعتراف الباحثين بأن نسبة كبيرة من الجهات المانحة لا تُقدِّم المساعدات لأسباب إنمائية بحتة، وإنما لخدمة أغراض سياسية أخرى؛ فإنهم دعوا الجهات المانحة إلى العمل على تحسين مستويات الطاقة الاستيعابية في جميع البلدان التي تتلقى المساعدات، قبل الاندفاع في ضخ مبالغ مالية كبيرة قد تعجز عن تحقيق تنمية حقيقية في هذه الدول.

المؤلف: مهران كامرافا

عرض: محمد محمود السيد