كان قرار تدمير العراق نتيجة توافق مصالح أطراف عديدة في العالم، ربما في مقدمتها إسرائيل، ثم كل أنظمة الطغاة في المنطقة، وكان منهم من خطّط وحسب حصاد قرار التدمير هذا. وكان آخرون لم ينظروا إلى أبعد من أبواب مكاتبهم، وكانت غاية أمانيهم إسقاط حكم صدام حسين في العراق، فكان للمخططين فوائدهم الكبرى فيما بعد الاحتلال. وبالنسبة لقصيري النظر، بات “العراق الجديد” لعنة أكبر من التي كانوا يتصوّرونها خلال الفترة التي سبقت الاحتلال.
لقد تحمّلت الولايات المتحدة، بشكل مركزي، واجهة المواجهة خلال غزوها واحتلالها، ثم تصدّي الشعب العراقي لقواتها بشكل أفقدها كثيرين من جنودها والمتعاملين معها، كما أفقدها هيبتها ومكانتها دولة عظمى، لم تراع القوانين والأعراف الدولية في كل ما قامت به. وزاد من الأمر سوءاً أن واشنطن لم تنهج الأسلوب ذاته، عند احتلالها اليابان وألمانيا في الإبقاء على أسس الدولة العراقية وقواتها المسلحة، ثم الإشراف على أولى مراحل التحول الديمقراطي المنشود، من خلال إشرافها على أول انتخابات حرّة ونزيهة في هذا البلد، تدفع بعدها، من خلال المشورة والإشراف، بعجلة الاقتصاد والعدالة الاجتماعية والسياسية، العراق الجديد نحو الاستقرار والإشعاع الحضاري في الإقليم.
أصبح “العراق الجديد” لعنة أكبر من التي كان يتصوّرها خصومه خلال الفترة التي سبقت الاحتلال
إن جلب المشروع المرتكز على متطلبات محدودة، حدّدتها إسرائيل بشكل مركزي، ثم دول المنطقة المحاذية للعراق، ومنها بالطبع الجمهورية الإسلامية في إيران، والتي كانت كلها تقريباً تركز على مفهوم أو غرض واحد، تدمير العراق. وهذه عملية لا تتم إلا من خلال منافذ محددة، كان من أبرزها: جلب قيادات مما كانت تسمّى المعارضة العراقية، وتنصيبها لتكون واجهة القرارات الخاصة بالحاكم المدني الأميركي، بول بريمر. وهذه القيادات كلها، كما أظهرتها السنين اللاحقة، ذات أجندات طائفية وإقليمية لا علاقة لها بأي مشروع وطني تنموي خالص للعراق. وكانت النافذة الثانية لتدمير العراق من خلال إلغاء معظم مؤسسات الدولة، وخصوصا المؤسسات الأمنية والجيش العراقي بكل صنوفه، وإصدار قوانين الاجتثاث التي خلطت الحابل بالنابل، وظلمت كثيرين من أبناء الشعب والكفاءات العراقية التي كانت تمثل مراكز قوة علمية ومعرفية وطبية ودبلوماسية وسواها. إضافة إلى النافذة الأخطر لتدمير البلد الذي عاش تاريخه الطويل جداً على التنوع والتعدّد، تلك هي نافذة الطائفية والمذهبية، فتحول العراقيون، خلال بضع سنين، من نسيجٍ متآلف إلى مراكز تنافر وتباعد واقتتال أحياناً.
كانت النافذة الثانية لتدمير العراق بعد الاحتلال الأميركي، من خلال إلغاء معظم مؤسسات الدولة، وخصوصا المؤسسات الأمنية والجيش العراقي بكل صنوفه
لم يكن الأمر سيكون سهلاً لتحقيق ما تقدّم، من دون تلك النوافذ التدميرية للعراق. ومع أن هناك من قاوم هذه الإجراءات، إلا أن الغالبية كانت لا ترى ما يجري بوضوح في بلدهم، وإن رأوا فلا ردود أفعال تناسب ما كان يجري من الأيام والشهور الأولى للاحتلال، صعوداً إلى الأول من أكتوبر/ تشرين الأول 2019، حين خرج الآلآف من الشباب، من جيل العراق (الجديد)، والذين لم يتأثروا بأفكار النظام السابق وعقيدته. وكانت المفاجأة للجميع بدءاً للشعب العراقي ذاته، ثم من يقود النظام السياسي هناك، وصولاً إلى كل الدول المعنية بالشأن العراقي، ومنها، على وجه التخصيص، إيران والولايات المتحدة وآخرون.
ليست المفاجأة في خروج شباب عراقي للتظاهر. لا، فقد خرجت قبلهم تظاهرات عديدة، بل كانت مفاجأة تظاهراتهم، نوعية المطالب المحددة والمتعلقة بالتحرّر من نظام المحاصصة الطائفية، كما سمّوه، وإلغاء النظام السياسي القائم عليها، ومحاسبة هوامير الفساد، وكل الذين تعاقبوا على حكم العراق منذ عام 2005. لذلك لم يكن رد القوات التابعة للحكومة أو المليشيات الولائية، وسواها من القوات المرتبطة بوجود هذا النظام، كما كان في تظاهرات أخرى سبقتها، بل كان رداً عنيفاً دموياً، قتل فيه المئات وجرح عشرات الآلاف، وتم تغييب المئات قسرياً.
انتشار جائحة كورونا في العراق ترك بصماته على الشارع العراقي في العموم، وفي مناطق التحشد والتظاهر في الخصوص
اللافت في تظاهرات 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 أنها لم تبلغ كثافة الحضور الذي حظيت به تظاهرات العام الذي سبقه، واجتهد كثيرون بما يمكن أن يكون سبباً لذلك أو لا يكون. ومؤكّد أن انتشار جائحة كورونا في العراق ترك بصماته على الشارع العراقي في العموم، وفي مناطق التحشد والتظاهر في الخصوص، كما أن استراتيجية مواجهة الحكومة للتظاهرات قد تم إعدادها بشكل دقيق، هذه المرّة، وبمشاركة جميع الذين يقفون بقوة ضد هذه التظاهرات. ونقصد هنا كل الذين تعرضوا لتظاهرات العام الماضي، إضافة إلى مليشيات وأتباع مراجع دينية كانت في تظاهرات العام الماضي تتظاهر بالوقوف مع المتظاهرين، باتت أكثر القوى تهديداً علنياً للمتظاهرين هذا العام، وباجتماع كل هذه القوى لمحاصرة حركة المتظاهرين، وإحداث احتكاكات في مناطق معينة معهم لإرباك المشهد والتنسيق، فقد اختارت قيادات التظاهرات التوقف حالياً عن التظاهر، حفاظاً على روح “ثورتهم” ودماء المشاركين فيها.
مفاجأة تظاهرات العراقيين نوعية مطالبهم المحددة والمتعلقة بالتحرّر من نظام المحاصصة الطائفية
ما يستغربه متابع مجريات الأمور في العراق، وخصوصا ما حملته انتفاضة أكتوبر التي جرت العام الماضي، ولم يُقدَر لها الاستمرار هذا العام، عدم تحرّك الشعب العراقي لنصرة (ومساندة) أبنائه الذين خرجوا حاملين هموم شعبهم وتطلعاته في التغيير نحو الأفضل. وربما لاحظ الجميع أن العراقيين كانوا يتهافتون على ساحات التظاهر، ليس للمشاركة في التظاهرات، وإنما لالتقاط الصور التذكارية مع المتظاهرين وسائقي التوك توك، وعند معالم نقلتها كل فضائيات العالم، كبناية المطعم التركي ونصب الحرية في ساحة التحرير في بغداد، ثم التباهي بها من خلال نشرها على مواقع التواصل الإجتماعي.
تعود حالة العراقيين بي إلى ما ذكره لي صديق صادق وقريب، كان مسؤولاً في زمن النظام الوطني السابق، أنه التقى الرئيس الراحل صدام حسين، قبيل الهجوم الأميركي على بلده في 2003 بيومين أو ثلاثة، فوجده مهموماً على غير عادته، وعند سؤاله له عن سبب الهم والذي تصوره قلقاً، أجاب صدام: إني أخاف على شعبي من “الغفلة”، ثم قارن له بالتفصيل غفلة العراقيين خلال فترة ما بعد احتلال المغول بلادهم 1258 وما يخشاه من غفلتهم عما سيكون بعد تنفيذ أميركا تهديدها باحتلال العراق عام 2003 وقد كان.
فارس خطاب
العربي الجديد