الخارطة العسكرية للمعارضة السورية في الجنوب

الخارطة العسكرية للمعارضة السورية في الجنوب

20159210440676734_19

ملخص:

حافظت قوى الثورة في درعا على تقدمها العسكري المطَّرد دون انتكاسات تُذكر، وأصبحت تسيطر على 65 بالمئة من المحافظة، إضافة إلى سعيها لتأمين تواصل جغرافي مع ريف دمشق الغربي. تمايزت درعا عن غيرها بخصوصيات عدة، أبرزها: توحيد مصادر الدعم، وموقعها الجيوسياسي الحساس، وعزلتها الجغرافية عن باقي مناطق الثورة، إضافة إلى ضبط الأردن الصارم لحدودها، وغاب عن مشهدها الصراعات الداخلية والأيديولوجية التي شهدتها محافظات الشمال السوري.

يتصدر المشهد العسكري في المحافظة تشكيلات الجبهة الجنوبية التي تضم تجمعًا رخوًا لـ49 فصيلًا، وتعد القوة الأبرز على الساحة، إضافة لوجود قوى إسلامية جهادية عالمية كجبهة النصرة، وأخرى محلية كحركة المثنَّى الإسلامية وأحرار الشام، ولم تكن درعا بمعزل عن ظهور بؤر لتنظيم الدولة فيها وإن كانت بشكل محدود.

تمكَّنت القوى الإقليمية والدولية عبر الغرفة العسكرية للدول الداعمة “الموك” من التأثير في المشهد في درعا عبر تبنيها الكامل لفصائل الجبهة الجنوبية كقوى معتدلة، وتمحورت استراتيجيتها حول توظيف الميدان لانتزاع مكاسب سياسية وإضعاف النظام للوصول إلى تسوية، إضافة إلى عزل وإضعاف الحركات الإسلامية عسكريًّا واجتماعيًّا، وحيَّدت الجبهة الجنوبية عن الصراع بين تنظيم الدولة وجبهة النصرة في الجنوب.

مقدمة

كانت درعا هي المدينة التي قدحت شرارة الثورة السورية في 18 مارس/آذار 2011 كانتفاضة سلمية لمجتمع محلي ضد القهر الذي راكمته السلطة عبر ممارساتها الأمنية والاجتماعية والاقتصادية طوال أربعين عامًا، توسعت هذه الثورة أفقيًّا لتتجسد في احتجاجات سلمية الطابع إلى غالبية المناطق السورية. وما لبثت أن تحولت بفعل القمع الهمجي والممنهج إلى ثورة مسلحة سيقت لها مضطرة في دولة ذات أهمية جيوسياسية قصوى، ولها وزن بالغ الحساسية في الصراعات الإقليمية، وذات بنية داخلية متشابكة ومجتمع متنوع. تحولت ثورة السوريين وبلدهم إلى ساحة صراع لتنفيس الاحتقان الإقليمي وحروب الوكالة، وتشابكت فيها العوامل المحلية مع الإقليمية والدولية وزادتها تعقيدًا.

طرأت على الثورة تحولات كبيرة وتميزت بدينامية عالية بتحولها من السلمية إلى العسكرة، تلاها أقلمة للصراع بدخول الميليشيات الطائفية والجماعات الإسلامية بأجيالها الجديدة الساحة، ترافَقَ كل هذا مع تدويلها وتحولها إلى ساحة حرب تصفي الدول العظمى حساباتها فيها.

كان لابد للثورة أن تتفاعل مع تلك الدينامية في أغلب المناطق الثائرة، ولم تكن درعا بدعًا من هذه التغيرات والتفاعلات. ترصد هذه الورقة مميزات المشهد في درعا وخصوصيته، وتوضح خارطته العسكرية والفصائلية، وأثر الاستقطابات الإقليمية والدولية وتفاعله معها، كما تستشرف ختامًا مآلاته.

أولًا: الخارطة الميدانية

بدأت محافظة درعا حراكها المسلح عبر مجموعات صغيرة انبرت للدفاع عن نفسها وحماية المظاهرات السلمية، وكان أول احتكاك دفاعي مباشر مع الجيش في محاولة اقتحام درعا 25 إبريل/نيسان 2011 حيث أخَّر بعض المجموعات فقيرة العدد والعُدَّة اقتحام درعا أسبوعًا كاملًا. تطورت هذه الظاهرة لتصبح طاغية على المشهد الثوري وهجومية مع بداية عامه الثاني تحت اسم الجيش الحر. تميز العمل العسكري في البداية بمهاجمة بعض النقاط العسكرية الصغيرة والمنعزلة كالمخافر والمفارز في الريف الغربي، وما لبث أن تطور مع بداية العام 2013 لمهاجمة القطع الأكبر كالمعسكرات في المنطقة الغربية وبعض الكتائب في المنطقة الشرقية، وبعض الحواجز التي قطَّعت أوصال درعا البلد. وكان أكبر إنجاز للجيش الحر تحرير اللواء 38 في صيدا واغتنام ذخائره الضخمة في 27 مارس/آذار 2013.

تتابعت انتصارات الجيش الحر بعدها لتشمل المناطق الحيوية كجمرك درعا القديم وأحياء واسعة من درعا البلد. في 2014 تم تحرير التلول الاستراتيجية في الريف الغربي كتَلِّ الجابية والجموع والحارة ، وحُرِّر اللواء 82 الذي مهَّد الطريق لتحرير المدن الغربية المهمة كالشيخ سعد والشيخ مسكين ونوى وفتح الطرق نحو إنخل وجاسم. تلاه تمدد نحو القنيطرة والاستيلاء على أماكن مهمة فيها، وتهيئة العمق الاستراتيجي اللازم للتواصل جغرافيًّا مع ريف دمشق الغربي، وتمت السيطرة على كافة الحدود السورية مع إسرائيل على مشارف هضبة الجولان. في 2015 سقطت بصرى الشام ذات الأغلبية الشيعية والتي تعد مركز عمليات حزب الله اللبناني، وفي عملية خاطفة وسريعة خسر النظام معبر نصيب الحدودي مع الأردن والمدينة الحرة في أكبر ضربة عسكرية واقتصادية له. أعقب ذلك هجوم نجم عنه انهيار مفاجئ للواء 52 والذي يعد من أهم خطوط الدفاع عن آخر معاقل النظام في درعا وأحد أكبر الألوية في سوريا.

يسيطر الجيش الحر على ما يزيد عن 65% من مساحة المحافظة(1)، ويسعى عبر معركة عاصفة الجنوب القائمة حاليًا لطرد النظام من مركز المدينة بالكامل لتصبح درعا -إن تم ذلك- ثالث مركز محافظة خارج سيطرة النظام بعد الرقة وإدلب على مستوى سوريا.

ثانيًا: الخارطة الفصائلية

يمكن تقسيم التشكيلات في محافظة درعا إلى كتلتين أساسيتين، لا تعدم التمايز فيما بينها ضمن الكتلة الواحدة:

1. كتلة فصائل الجبهة الجنوبية
تم الإعلان عنها في فبراير/شباط 2014 وتعد اللاعب الأقوى وصاحب التأثير الأكبر على الساحة من حيث تعدادها الذي يتجاوز 30 ألف مقاتل، ونوعية تسليحها وإمكانياتها وجغرافية انتشارها(2). أمَّا من ناحية التكوين فهي تجمعٌ رخو لـ49 فصيلًا بلا قيادة مركزية أو بنية تنظيمية صلبة، يتركز معظمها في درعا والقنيطرة، ويمتد بعضها لريف دمشق والقلمون. تحظى هذه الفصائل كلها بدعم من غرفة العمليات العسكرية للدول الداعمة في عمان (الموك(3)) بشكل مستقل وإن كان ذلك بنسب متفاوتة ووفق معايير غير ثابتة(4).

لم تستطع الجبهة الجنوبية تنظيم نفسها في قيادة عسكرية موحدة تتبع نظامًا مؤسسيًّا صلبًا وإنما بقيت على شكل تحالفات هشة ورخوة حتى ضمن التجمع الواحد، حتى أُعلن في 15 مايو/أيار 2015 عن قيادة مشتركة لها، ولم يتجسد ذلك فعليًّا بتغييرات ملموسة على الأرض على مستوى التنظيم أو الفعالية. كما ظهرت خلافات وشكاوى على العلن من بعض الفصائل المهمة بسبب استبعادها، وأعلنت استياءها من الطريقة التي تم بها الانتخاب وآلية اختيار المرشحين(5).

تعتمد هذه الفصائل أسلوب التحالف مع بعضها البعض حسب التوافق الجغرافي أو الضغط الميداني أو التقارب الأيديولوجي أو وفق حسابات براغماتية بحتة. وكانت هذه التحالفات عرضة للتعطيل والتفعيل أو التبديل مع تغير المعطيات الميدانية والسياسية أو الخلافات الشخصية، ومن أبرز هذه التحالفات:

أ‌- تحالف صقور الجنوب
أُعلن عنه بتاريخ 27 ديسمبر/كانون الأول 2014، وهو تحالف يتركز جغرافيًّا في مدينة درعا وشرقيها، مكون من تحالف أربع فصائل على أساس ميداني؛ حيث شكَّل غرفة عمليات مشتركة لتنسيق العمليات العسكرية، يضم جيش اليرموك الذي يعد من أقوى الفاعلين ميدانيًّا على الساحة عددًا وعُدَّة، ويحظى قائده بشار الزعبي بشخصية كاريزمية وعلاقات طيبة ويتبنَّى خطابًا دينيًّا معتدلًا. يضم التحالف أيضًا لوائي فلوجة حوران وأسود السنَّة، إضافة إلى فرقة 18 مارس/آذار التي تُشكِّلها ست فصائل اتحدت على أساس جغرافي وميداني في مدينة درعا بقيادة العقيد المنشق خالد الدهني. يتميز التحالف عن غيره بخبراته الاقتحامية العالية وتمرُّس عناصره على حرب المدن

ب‌- الجيش الأول
تجمع يضم ما يقارب 10 آلاف مقاتل، أُسِّس في 1 يناير/كانون الثاني 2015 يقوده العقيد المنشق صابر صفر، ويضم جبهة ثوار سوريا المدعومة سعوديًّا، وفرقة الحمزة، إضافة إلى فوج المدفعية الأول الذي يشكِّل الذراع الضاربة في المعارك، كونه الفصيل الوحيد الذي حصل على راجمات صواريخ محدثًا فارقًا نوعيًّا في المعارك وبخاصة في ريف درعا الغربي. يسعى الجيش الأول من خلال الاسم الذي يُعرِّف به نفسه كجيش، ومن خلال قيادته كعقيد ذي خبرة عسكرية، وبالاعتماد على العدد الكبير من المقاتلين المنتمين للجيش وقوته الضاربة متمثلة بفوج المدفعية أن يقدِّم نفسه كنواة لتشكيل جيش يمكن الاعتماد عليه لاحقًا لملء الفراغ الأمني بعد سقوط النظام.

2. كتلة الفصائل الإسلامية
تتمايز إلى فصائل سلفية جهادية عالمية متمثلة بجبهة النصرة وتنظيم الدولة، وإلى سلفية جهادية محلية كحركة المثنَّى الإسلامية، وحركة أحرار الشام الإسلامية، وإلى حركات إسلامية محلية صاعدة، تتبنَّى بالأصل خطابًا سلفيًّا علميًّا، لكنها لم تستطع أن تعزل نفسها عن الانخراط في العمل العسكري كحركة أنصار الهدى الإسلامية ومشروع بناء أمة.

أ‌- جبهة النصرة
أُعلن عنها في يناير/كانون الثاني 2012، إلا أن تشكيلها في درعا كان سابقًا بأشهر حيث قامت ببعض العمليات مع القيادات المحلية، تعد الآن من أقوى الفصائل العاملة في الجنوب، وتتمتع بتنظيم عالٍ وانضباط بين عناصرها، يُقدَّر عددها بـ1500 مقاتل، تشارك بغرفة عمليات مستقلة لها في المعارك. تحوي خبرات عسكرية متميزة نتيجة نشاطها في أفغانستان والعراق، وقامت بتدريب قيادات محلية محدودة الخبرة القتالية وأصبحت لاحقًا قيادات ميدانية في الجيش الحر. يغلب على قياداتها وشرعييها المهاجرون من الأردن، وتضم نسبة كبيرة من المقاتلين المحليين قد تزيد عن ثمانين بالمئة، بعد مجيء أبو مارية القحطاني مطلع 2015 من دير الزور -بعد سيطرة تنظيم الدولة عليها- غيَّرت أولوياتها من قتال النظام إلى ملاحقة بؤر تنظيم الدولة، وخلاياه النائمة والكتائب التي تعلن بيعتها له.

ب‌- حركة المثنى الإسلامية
تعد من أكبر القوى في الجنوب وتنتشر في قطاعات واسعة من درعا، يبلغ تعدادها حوالي 1500 مقاتل محلي حيث منعت ضمَّ المهاجرين لصفوفها. تأسست في 2012 كتيبة المثنى بن حارثة قاهر الفرس، قامت بعمليات مشتركة مع مؤسسي جبهة النصرة الأوائل في درعا إضافة إلى بعض القيادات المحلية، وبسبب الخلاف حول التفجيرات في المناطق المأهولة استقلت بنفسها(6)، وما لبثت أن تطورت في مارس/آذار 2013 إلى حركة. شاركت الجيش الحر في معظم معاركه من خلفية براغماتية، وكانت قوة ضاربة يستعان بها في معظم عمليات التحرير. تبنَّت الحركة خطابًا سلفيًّا جهاديًّا واعتمدت مصطلحاته في أناشيدها وبياناتها وخطابها الإعلامي. صُنِّفت الحركة غربيًّا في عداد الحركات المتطرفة(7)، وتم اتهامها بمبايعة تنظيم الدولة الإسلامية بسبب نأيها بنفسها عن قتالها(8)، ودخولها في وساطات صلح متعددة بين أنصار الدولة من جهة، وفصائل الجيش الحر وجبهة النصرة من طرف آخر، إضافة إلى انتشار مظاهر وسلوكيات لتنظيم الدولة بين عناصرها.

لا تتلقى الحركة أي دعم من الموك؛ لذا قامت بتمويل نفسها عن طريق الغنائم، وتطوير استثمارات محلية زراعية وصناعية وتجارية، إضافة إلى إنشاء شبكات دعم أهلي وعشائري خليجية. أسس الحركة أحدُ المفرج عنهم من سجن صيدنايا عامر المسالمة، واستلم أخوه ناجي قيادتها من بعد استشهاده في 3 مارس/آذار 2013؛ حيث اعتمد مركزية إدارية صارمة، وخطابًا مغاليًا تمكَّن بشخصيته الكاريزمية من تعميمه على الحركة.

ج‌- أنصار تنظيم الدولة
ظهرت تشكيلات مناصرة لتنظيم الدولة في القنيطرة وفي درعا، تمثَّلت بلواء شهداء اليرموك المتمركز في ريف درعا الغربي، وفي جيش الجهاد الذي ظهر في القحطانية في القنيطرة في فبراير/شباط 2015 بعد كمين نصبه لمرابطين على جبهة القنيطرة(9) وتم القضاء عليه سريعًا بقرار من دار العدل. لم تعلن أي من هذه الفصائل صراحة بيعتها لتنظيم الدولة ولكن ممارساتها على الأرض، وتعاطفها مع التنظيم وتبنِّي خطابه وسلوكياته، وانتشار عباراته وراياته وأناشيده، وإطلاق عبارات الردَّة والكفر على الجيش الحر، وتشكيل محاكم مستقلة خاصة عزَّز من الشك بانتمائها له(10).

د‌- لواء شهداء اليرموك
أُسِّس في أغسطس/آب 2012، ويُعتبر من القوى المهمة في المنطقة الغربية حيث يتمركز بكل قوته، يتزعمه “أبو علي البريدي” ويُطلَق عليه “الخال”. معظم مكوناته تحكمه الروابط العشائرية والقرابة الأهلية. انضم للمجلس العسكري المدعوم من الموك واستفاد من دعمه، لكن سرعان ما انهارت علاقته معه بسبب تغير توجهه واختطافه لـ22 موظفًا للأمم المتحدة منتصف 2013.

لم يكن للواء أيديولوجيا صلبة شبيهة بتنظيم الدولة، بل غلب على عناصره البساطة والتقلب، إلا أن ضمه الشرعي أحمد كساب المسالمة(11) السلفي الجهادي المعروف، وافتتاحه دورات ومعسكرات شرعية بالتزامن مع طغيان الخطاب الجهادي العام والافتراضي وتأثر المنطقة الجنوبية به غيَّر كثيرًا من توجهات اللواء، فأصبح أكثر راديكالية وتبنى الخطاب المتشدد.

ه‌- حركات إسلامية أخرى
ومنها حركة أحرار الشام الإسلامية التي لا تتمتع بقوة وتنظيم نظيرتها في الشمال، فاعتماد قيادتها المركزية لقرارات لا تراعي خصوصية المنطقة الجنوبية، وتغييراتها الإدارية المتكررة، وعدم الانسجام بين أنصار الحركة الواحدة في مختلف القطاعات، أدَّى لتراجع كبير في فعالية الحركة على المشهد في الجنوب تسعى لتعويضه حاليًا عبر إعادة الهيكلة وإعادة التنظيم.

لا يغيب عن المشهد بعض الحركات الإسلامية الأخرى كأنصار الهدى الإسلامية ومشروع بناء أمة وهي حركات دعوية عسكرية تنشط في الجانب الدعوي والاجتماعي، وتعاني من قلة العدد وضعف التمويل وعدم الفاعلية في المشهد العسكري.

ثالثًا: خصوصية الجغرافيا ومحدودية اللاعبين

ميَّز الموقع الجيوسياسي درعا عن غيرها بفروقات مهمة، انعكس أثرها على خارطة المشهد في الجنوب؛ فقيام الأردن عبر دعم أميركي لوجيستي وبشري بضبط صارم ودقيق لحدودها البالغة 375 كم مع سوريا(12)، والانقطاع الجغرافي مع المحافظات الثائرة معها، إضافة لوجود محافظة السويداء ذات الغالبية الدرزية شرقًا منَعَ تدفق المهاجرين فكانت الفصائل الثورية المحلية هي اللاعب الأساسي، وغاب الصراع الداخلي وحافظ صراع الميدان على أسبقيته على صراع الأيديولوجيا، على عكس ما شهدته مناطق الشمال والشرق من تدفق مهول للمهاجرين وأنصار الحركات الجهادية العالمية عبر تركيا والعراق، وتفجر صراعاتها الداخلية ومزايداتها وإغراق الساحة بها.

كما احتكرت غرفة العمليات العسكرية للدول الداعمة لسوريا الدعم بشكل شبه مطلق، بخلاف ما شهدته مناطق الشمال والوسط -خاصة حمص وإدلب- من تعدد وتنافس بين الداعمين واختلاف أولوياتهم ومشاربهم، مما أثَّر سلبًا على تماسك الفصائل هناك وأدى لتمزقها(13).

رغم وجود قطع عسكرية ضخمة جدًّا فيها مقارنةً بغيرها من المحافظات باعتبارها منطقة تقع على حدود طرفيين خارجيين: الأردن وإسرائيل(14)، شهدت درعا اطِّرادًا مستمرًّا في عمليات التحرير، ووُصفت الجبهة الجنوبية بأنها أصلب الجبهات وأكثرها تنظيمًا، فلم تشهد انتكاسات جوهرية تُذكر لصالح النظام، ولم يستطع استعادة ما خسره رغم محاولاته المستميتة لذلك، رغم زجِّ إيران بقوة في الصراع وتلميحات تولي عصاها الغليظة الجنرال “قاسم سليماني” قيادة العمليات فيها(15).

كل ما سبق جعل الجبهة الجنوبية -برأس حربتها محافظة درعا- خيارًا مفضلًا غربيًّا للتعويل عليه ودعمه، واعتمادها كأمل أخير للمعارضة المعتدلة، خاصة بعد أن أنهت الجماعات الإسلامية كتنظيم الدولة والنُّصرة وجود الفصائل المعتدلة حسب التصنيف الغربي كحركة حزم وجبهة ثوار سوريا بزمن قياسي في الشمال السوري.

رابعًا: التفاعل الإقليمي الميداني

يمكن رصد التفاعل الإقليمي والميداني وحتى السياسي في درعا بشكل ملموس عبر استقراء ودراسة استراتيجية غرفة الموك بما فيها من أطراف إقليمية ودولية. تحوي هذه الغرفة مستشارين عسكريين، وضباط مخابرات، وممثلين عن فرنسا والولايات المتحدة والسعودية والإمارات(16)، إضافة إلى ضباط ارتباط أردنيين وسوريين، وتتدخل بشكل مباشر وأحيانًا تفصيلي في المشهد الميداني والسياسي. ترعى الموك ذراعًا إعلامية عسكرية تسمى الهيئة السورية للإعلام تعد الناطق الرسمي باسم الجبهة الجنوبية(17).

تتسم علاقة الفصائل العسكرية معها بالتنوع ما بين تبعية، ورفض، ومناورة بهامش يتعلق بالصلابة الأيديولوجية وأولوية الميدان والضغط الشعبي. تمكَّنت هذه الغرفة من استغلال العامل الجيوسياسي الحسَّاس لدرعا وعزلتها الجغرافية عن محافظات الثورة أن تحصر دعم وتدريب معظم تشكيلات الجبهة الجنوبية، وتمكَّنت عبر آليات إدارية من السيطرة نسبيًّا على القرار الميداني فيها(18)؛ وبالتالي يتم تلقي توصياتها على أنها “نصائح ملزمة”، وتطورت هذه النصائح لتصبح مع العام 2015 أوامر تُعرِّض رافضيها للتوبيخ، وأحيانًا للعقاب(19).

أ‌- توظيف الميداني لخدمة السياسي
على أثر تحقيق النظام مكاسب عسكرية على عدة جبهات خلال العام الماضي، وتعثر مفاوضات جنيف 2 بسبب تصلب النظام وتغير الحالة الميدانية لصالحه، عمدت القوى الدولية إلى الضغط على النظام لإجباره على العودة للمفاوضات ووظَّفت الميدان لذلك. بدأت تظهر الصواريخ الموجهة “التاو”، وحصلت الجبهة الجنوبية بالتدريج على سلاح صاروخي عبر راجمات الغراد التي بدأت الموك تزودها بها تباعًا، وكان لها دور حاسم في معارك الريف الغربي والقنيطرة واللواء 52. جدير بالملاحظة أن استراتيجية الموك في الضغط العسكري عبر الجبهة الجنوبية تهدف لإضعاف النظام وليس لإنهائه، ولا يزال السلاح النوعي أو مضاد الطائرات، رغم مطالبات قادة الجبهة الجنوبية الدائمة تحت ضغط المدنيين، أمرًا غير قابل للنقاش.

ب‌- عزل وتحجيم الحركات الإسلامية
تمكنت القوى الإسلامية من فرض نفسها كقوة عسكرية لها ثقلها، ولديها خبرة وتكتيكات قتالية (سيارات مفخخة-استشهاديون) أسهمت بشكل قوي بالنصر في عدة معارك. سعت غرفة الموك إلى عزل هذه الحركات عبر طرح بديل قوي يمكن التعويل عليه من خلال الجبهة الجنوبية. أمدَّت الفصائل بمدد عسكري ولوجيستي ومالي بشكل شبه دائم لملء هذا الفراغ، وصدرت عدة بيانات منفردة ولكنها تحمل نفس الصيغة من تشكيلات في الجبهة الجنوبية ترفض فيه التعامل مع النصرة أو مع جيش الفتح(20). وورد كثير من التوصيات لقادة في الجبهة الجنوبية بفصل مجموعات أو أشخاص بعينهم للاشتباه بتأييدهم للنصرة. وتكرر أن توافق الموك على دعم معارك كانت رفضتها سابقًا إثر ورود معلومات بتحضير الحركات الإسلامية لها(21).

حرصت الموك أيضًا على عزل الحركات الإسلامية في إدارة المناطق المحررة؛ فعند تأسيس دار العدل التي أنهت الفوضى القضائية(22) في درعا واجتمع عليها أغلب الفصائل، سعت الموك لإضعافها بذريعة احتوائها فصائل متطرفة، وضغطت على الفصائل للانسحاب منها، وأعطت توجيهات تناقض أحكام دار العدل كمسألة حرب تنظيم الدولة، أو تشكيل قوة تنفيذية خاصة بالدار؛ مما أبقى دار العدل بلا قوة رادعة، وزاد من تعقيد مهمتها.

ج‌- الموقف من تنظيم الدولة
تمثَّلت استراتيجية الموك تجاه الحرب الدائرة بين النصرة وتنظيم الدولة في الجنوب بـ”دعهم يتقاتلون” فوجَّهت رسالة شديدة اللهجة للجبهة الجنوبية بوضع محاربة أنصار التنظيم كجيش الجهاد أو لواء شهداء اليرموك تحت طائلة المحاسبة؛ الأمر الذي وقع على عاتق جبهة النصرة وأحرار الشام بشكل أساسي، ولا تزال المعارك الطاحنة جارية بين الطرفين إلى الآن دون حسم. شارك في المعارك بعض تشكيلات الجبهة الجنوبية التي تعتمد أسلوب المناورة في علاقتها مع الموك؛ مما عرَّضها لعقوبات وحرمها من بعض الميزات(23).

تسعى الموك من خلال استراتيجيتها تلك إلى تقوية الجبهة الجنوبية، وعدم الزجِّ بها في صراعات داخلية طويلة الأمد يدخل فيها العنصر العشائري والأهلي؛ إذ إن أنصار التنظيم هم من أهل المنطقة وليسوا مهاجرين، إضافة إلى فائدتها من استنزاف النصرة والتنظيم وتكريس ديمومة الصراع، فمن يخرج منه سيخرج منهكًا، ويسهل لاحقًا القضاء عليه.

خامسًا: مآلات المستقبل

يمكن للجبهة الجنوبية بما تملك من نقاط قوة أن تسيطر على مدينة درعا بما يمثله ذلك من تحدٍّ عسكري وإداري بعد التحرير، وتكمل زحفها باتجاه مدينة البعث في القنيطرة لتأمين التواصل الجغرافي مع ريف دمشق الغربي، ولتأمين عمق استراتيجي للزحف على دمشق يتعاضد مع زحف جيش الفتح نحو سهل الغاب واستثمار هذه الإنجازات العسكرية سياسيًّا لصالح الثورة.

يتبلور تيار في الجبهة الجنوبية يحاول الموازنة بين الضغوط الإقليمية وأولوية الميدان كما يقدِّرها، ويسعى، مدركًا لصعوبة هذا الأمر، لتشكيل تحالفات تمكِّنه من كسر احتكار الدول الداعمة للقرار الميداني وصياغة أولوياته، ولمنع أي قرار بالتقسيم بعد ظهور بوادره دوليًّا ووصول أسلاك شائكة وآليات للفصائل المتمركزة بمحاذاة السويداء بغية الفصل بينها وبين درعا؛ مما يوحي برضا دولي لتطبيق مخطط التقسيم. أمَّا في ظل توازن القوى الحالي بين القوى الإسلامية فسيكون موقف حركة المثنى الإسلامية أو قرار الجبهة الجنوبية بمحاربة تنظيم الدولة هو المرجِّح إمَّا لإنهاء وجوده نهائيًّا في المحافظة، أو بتغلغله بما ينتج عن ذلك من كارثة على الثورة بإشغالها بنفسها، وتحويل الأولوية الإقليمية والدولية تجاه التنظيم بدل النظام، ومشاكل لا تنتهي للدول المجاورة.
__________________________
أسامة الكوشك – ناشط سوري

الهوامش والمراجع
(1) رجا، عبد الله، “هذا خلافنا مع النصرة”، زمان الوصل، 19 أغسطس/آب 2015، (تاريخ الدخول: 21 أغسطس/آب 2015): https://zamanalwsl.net/news/63484.html
(2) سالم، نجم، “49 فصيلًا في الجيش الحر يشكِّلون الجبهة الجنوبية”، كلنا شركاء، 13 فبراير/شباط 2014، (تاريخ الدخول: 21 آب 2015):
http://all4syria.info/Archive/130995
(3) MOC = Military Operation Center
(4) يشمل الدعم رواتب شهرية، وسلالًا إغاثية، ودورات تدريبية في الأردن أو في السعودية، وتُمنح لكل دورة عشر سيارات عسكرية بدفع رباعي، وبنادق آلية بعدد عناصر الدورة، ومنظومات اتصالات، ورشاشات، ومضادات، وأحيانًا مدافع هاون وقواعد صواريخ تاو مع عشر حشوات يلتزم المستلم لها بتوثيقها وتصوير متى ضُربت وعلى أي هدف. من مشاهدات الكاتب أثناء عمله في درعا من يناير/كانون الثاني 2014 وحتى أغسطس/آب 2015.
(5) “القيادة المشتركة للجبهة الجنوبية بسوريا: انتخاب أم تعيين؟”، الجزيرة، 26 مايو/أيار 2015، (تاريخ الدخول: 18 أغسطس/آب 2015):
http://www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2015/5/26/%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%8A%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B4%D8%AA%D8%B1%D9%83%D8%A9-%D9%84%D9%84%D8%AC%D8%A8%D9%87%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%86%D9%88%D8%A8%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%86%D8%AA%D8%AE%D8%A7%D8%A8-%D8%A3%D9%85-%D8%AA%D8%B9%D9%8A%D9%8A%D9%86
(6) شهادات جمعها الكاتب وطابقها من عدة قيادات شهدت تلك الحادثة.
(7) رسائل مسربة بين غرفة الموك والجبهة الجنوبية حصل عليها الكاتب تتضمن توجيهات بعدم التعامل مع الحركة لأنها متطرفة ونصها “الفريق العسكري ينصحكم بعدم التعاون مع حركة المثنى وجبهة النصرة والمجموعات المتطرفة في العملية المرتقبة في درعا، تعاونكم مع المتطرفين سيكون له عواقب من ضمنها وقف المساعدة عنكم”.
(8) “حركة المثنى تؤيد الدولة الإسلامية والخليفة، وداعش يهدد سرًّا بعض فصائل الجيش الحر في القنيطرة”، وكالة خطوة الإخبارية، 8 مارس/آذار 2015 (تاريخ الدخول: 15 أغسطس/آب 2015):

حركة المثنى تؤيد ” الدولة الإسلامية والخليفة ” و داعش يهدد سرا بعض فصائل الجيش الحر في القنيطرة


(9) “دار العدل تستنفر فصائل حوران لقتال تشكيل دولاوي حاول عرقلة عملية كبيرة ضد النظام”، زمان الوصل، 28 إبريل/نيسان 2015، (تاريخ الدخول: 20 أغسطس/آب 2015):
https://www.zamanalwsl.net/news/60253.html
(10) في مقابلة رئيس دار العدل الشيخ أسامة اليتيم مع الكاتب بتاريخ 22 أغسطس/آب 2015 أكد على وجود قرائن ثابتة وأدلة دامغة تثبت بيعة كلا الفصيلين لتنظيم الدولة، وأكَّد استلام لواء شهداء اليرموك دعمًا من التنظيم بمبالغ طائلة كانت إحدى دفعاتها مليون دولار.
(11) انظر ترجمته على الرابط التالي: https://zamanalwsl.net/news/55182.html
(12) “الأردن: نظام مراقبة لداعش على طول الحدود مع سوريا”، العربية، 9 يوليو/تموز 2015، (تاريخ الدخول: 21 أغسطس/آب 2015):
http://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/2015/06/09/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%AF%D9%86-%D9%86%D8%B8%D8%A7%D9%85-%D9%85%D8%B1%D8%A7%D9%82%D8%A8%D8%A9-%D9%84%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%B7%D9%88%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF-%D9%85%D8%B9-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-.html
(13) يُقدَّر عدد جنود النظام في درعا بنحو 90 ألفًا، أي: ثلث الجيش، ويوجد فيها مقر قيادة الفرقة التاسعة في الصنمين، والفرقة المدرعة السابعة، واللواء 12 قرب إزرع، والفوج 175، واللواء 52 قرب الحراك، واللواء 61 قرب نوى، واللواء 15 قرب إنخل، واللواء 132 قرب درعا، واللواء 82 قرب الشيخ مسكين، وكتيبة دفاع جوي في السهوة، وكتائب متفرقة أخرى.
(14) قُدِّر عدد التشكيلات في محافظة إدلب في 2012 بـ 300 تشكيل بينما في تلك الفترة في درعا لم يوجد إلا 120.
(15) “جمود في تكريت وخسائر كبيرة بحلب وإدلب وجنوب سوريا، هل سقطت أسطورة الجنرال قاسم سليماني”؟، سي إن إن العربية، 28 مايو/أيار 2015، (تاريخ الدخول: 21 أغسطس/آب 2015):
http://arabic.cnn.com/middleeast/2015/03/28/tekrit-qassem-sulimani
(16) Lund, ARON, “the battle of Daraa”, Carnegie endowment for international peace, 25 June 2015, retrieved 22 August 2015
http://carnegieendowment.org/syriaincrisis/?fa=60504
(17) للاطلاع على موقعهم على الإنترنت، انظر: https://smo-sy.com/
(18) كانت الطريقة المتبعة للحصول على الذخائر هي أن يقدِّم الفصيل خطته العسكرية بالتفصيل إلى الغرفة، ويناقَش فيها ومن ثَمَّ ينتظر الموافقة على التمويل أو عدمه، وبالتالي أصبح قرار فتح أي عمل عسكري مرهونًا بموافقة القوى الإقليمية والدولية. رافق ذلك تعميم شفهي لشبكات الدعم العشائري والأهلي في الخليج بمنع تقديم أي دعم للأعمال العسكرية وحصر ذلك بتلك الغرفة.
(19) يشمل العقاب حرمانًا من الدورات العسكرية التدريبية التي تُرفَق بكميات ضخمة من العتاد، أو حرمانًا مؤقتًا من الرواتب، أو السلال الإغاثية، أو الذخيرة، أو منع الدخول للأردن.
(20) انظر البيانات على الرابط التالي: http://www.all4syria.info/Archive/206859
(21) لقاء القائد العسكري في جبهة النصرة في درعا مع الكاتب في 7 إبريل/نيسان 2015، وخلاصته “مُنِع لفترة طويلة العمل على معبر نصيب لما يسبِّبه من ضرر اقتصادي للأردن، ولكن اكتشاف نفق سري كانت جبهة النصرة تعده لاقتحام المعبر وتخوف الأردن من وقوعه تحت سيطرة النصرة، دفعها لرفع الحظر عن العمل عليه”. شبيه الأمر تكرر في معارك تل الربيع في الريف الغربي القريبة من الحدود الإسرائيلية.
(22) تجسدت الفوضى القضائية بظهور ثلاث محاكم في درعا: محكمة الكوبرا التابعة لجبهة النصرة، ومحكمة غرز التابعة لفصائل من الجيش الحر، ومحكمة جلين التابعة لحركة المثنى الإسلامية. وانتهت هذه الفوضى بجهود الشيخ أسامة اليتيم الذي صهر كل هذه المحاكم في محكمة موحدة أطلق عليها اسم دار العدل.
(23) ظهرت خلافات في العلن بين جيش اليرموك وغرفة الموك بسبب هذ الأمر، انظر مقابلة نائب قائد جيش اليرموك أبي كنان الشريف مع جريدة القدس

العربي على الرابط:http://www.alquds.co.uk/?p=342159

مركز الجزيرة للدراسات