حقائق الواقع تحدّد سياسة بايدن تجاه الشرق الأوسط

حقائق الواقع تحدّد سياسة بايدن تجاه الشرق الأوسط

يسود اعتقاد لدى مجموعة من العارفين بخفايا الأمور في المنطقة العربية بأن مهمة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن ليست سهلة في معالجة الأسباب الكامنة وراء ما وصل إليه الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من اضطرابات أدت إلى تزايد نزعة الكراهية للحروب والصرعات الطائفية التي كانت نتيجة سياسات خاطئة لحكومات الولايات المتحدة منذ سبعينات القرن الماضي، لتحقيق الهدف الاستراتيجي المتمثل في ترسيخ أركان النفوذ للحفاظ على المصالح الأميركية.

واشنطن – حفر رؤساء الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية أسماءهم في تاريخ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا الحديث، على اختلاف سياساتهم، بدافع الحفاظ على المصالح الأميركية، والوقوف أمام أي قوة قد تحاول الدخول إلى رقعة نفوذهم، وهذا ما جعل المنطقة تدفع ثمن تلك السياسات الخاطئة.

ومع وصول الرئيس المنتخب جو بايدن إلى الحكم، حيث يفترض أن يؤدي القسم الدستوري في العشرين من يناير المقبل ليصبح الرئيس الـ46 للولايات المتحدة، تتجه أنظار المحللين إلى النقاط الرئيسية التي يفترض أن يركز عليها لنزع فتيل الأزمات المنتشرة على رقعة واسعة من المنطقة العربية، وفي الوقت نفسه الإبقاء على بلاده لاعبا رئيسيا هناك.

ويربط محللون نجاح بايدن في مهمته لإحلال الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي بمدى فهمه للمتغيرات الجيوسياسية التي طرأت على المنطقة، وذلك انطلاقا من عدة عوامل أساسية تجاهلها عمدا أو لم ينتبه إليها عن غير قصد كل من سبقوه في البيت الأبيض، ومن خلالها يمكن أن يركز على العوامل المحركة لأحداث الشرق الأوسط في التاريخ الحديث والتي تبقى جميعها ديناميكيات نشطة، وليست قضايا تاريخية.

يعتقد رامي خوري، زميل أول في السياسة العامة وأستاذ الصحافة في الجامعة الأميركية في بيروت، أن سيل التحليلات حول كيفية تعامل بايدن مع العديد من الحروب والمواجهات في الشرق الأوسط والقضايا الأخرى، التي تورطت فيها الولايات المتحدة، سيبقى جوهر تكهنات ما لم ينجح في ثلاثة أشياء فشلت فيها كل الحكومات الأميركية السابقة طيلة نصف قرن من الزمن.

ويرى خوري، وهو زميل بارز غير مقيم في كلية هارفارد كينيدي في تحليل نشرته وكالة غلوبال (Agence Global) أن على بايدن أولا فهم الحقائق الأساسية والمتفاقمة في الشرق الأوسط، وثانيا الاعتراف بأسبابها الفعلية، وثالثا صياغة السياسات الخارجية التي تخدم الولايات المتحدة نفسها، وشعوب المنطقة، وقضية السلام والاستقرار العالميين الأوسع.

وكثيرا ما يتم تداول أن خبرة نائب الرئيس السابق باراك أوباما، والتي تمتد لأكثر من أربعة عقود من الزمن في السياسة الخارجية للولايات المتحدة تمنحه ميزة بالنظر إلى المسؤولين الأميركيين الآخرين الذين حاولوا الإبحار في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا دون جدوى.

وبالفعل، تعدّ تلك السنوات مفيدة بالنسبة إليه إذا نظر إلى الوراء لينظر في أسباب تغير الظروف والاتجاهات الحالية في جميع أنحاء الشرق الأوسط منذ أن كان نائبا للرئيس أوباما قبل أربع سنوات.

ولذلك فإن من الأفضل أن يتعامل مع قضايا مثل إسرائيل وفلسطين وإيران وتركيا وروسيا والسياسات السعودية – الإماراتية، والصراعات الطائفية، المنتشرة في العراق واليمن، وغيرها من الحقائق الحالية على أساس أنها نتاجات دوافع أعمق للتغيير في المنطقة.

ومن المؤكد أن يساعد التحليل الشفاف والشامل لإدارة بايدن حول كيفية وصول الشرق الأوسط إلى حالة العنف الحالية صانعي السياسة والعالم على صياغة سياسات من شأنها أن تحدث فرقا في المنطقة.

ويقول خوري إن ذلك ينطبق بشكل أكثر وضوحا على سكان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والذين لا يزالون متعطشين للكرامة والتنمية والاستقرار، بينما يتجاهلهم قادة الشرق الأوسط والغرب على حد سواء.

ولتجسيد ذلك على الأرض، ثمة محركات ديناميكية حصرها خوري في ستة أمور، يجب على إدارة بايدن معالجتها خلال فترة ولايتها في السنوات الأربع المقبلة، والتي يلقى عليها اللوم في مواصلة تدمير الشرق الأوسط، وحيث تتدهور الظروف بسبب جائحة فايروس كورونا المستجد وانخفاض أسعار النفط والركود الاقتصادي.

محركات ديناميكية

التعمق أكثر في فهم ما يحدث في الشرق الأوسط لا يخرج عن سياقات الديناميكيات النشطة باعتبار المنطقة من أسخن المناطق في العالم، والتي تسعى القوى الكبرى للسيطرة عليها، وبفعل ذلك ظهرت قوى إقليمية دخلت على خط الأزمات.

وأدى التدخل العسكري الأجنبي المتواصل في الشرق الأوسط منذ نابليون، قبل قرنين وربع، إلى تأجيج الاضطرابات الداخلية والغضب الشعبي ضد القوى الأجنبية. وتضاعفت هذه النزعة العسكرية منذ نهاية الحرب الباردة، وتشمل الآن النزعة العسكرية الإقليمية من تركيا وإيران والإمارات والسعودية وإسرائيل، إلى جانب الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا.

ومن هنا يؤكد خوري أن هذا الإرث سبب معاناة إنسانية في العراق وسوريا واليمن والصومال وفلسطين وليبيا، فضلا عن الدمار الذي لحق بها، وبالتالي فإن استبدال العمليات العسكرية بالدبلوماسية ومحركات التنمية الاقتصادية يعتبر خيارا أفضل بالنسبة إلى بادين.

وقد شكل الصراع الفلسطيني – الصهيوني والنزاع العربي – الإسرائيلي الأوسع، الذي دخل قرنه الثاني ولا يزال الأكثر زعزعة للاستقرار في الشرق الأوسط، أحد المحركات لما يحصل في المنطقة، إذ ساعد على بدء ظهور الأنظمة العسكرية العربية منذ أربعينات إلى سبعينات القرن الماضي، والتي دمرت مجتمعاتها وأفلستها، وعززت الأنظمة القمعية غير الفعالة، وزادت من المشاعر المعادية للغرب، ووسعت رقعة الصراعات الإقليمية، بما في ذلك التوترات الإيرانية – الإسرائيلية – العربية الأحدث.

وقلل هذا من احترام المواطنين لحكامهم في العديد من الدول العربية خاصة بعد أن قرر بعض القادة العرب تطبيع العلاقات مع إسرائيل بينما تواصل استعمارها للأراضي العربية. ولذلك يعتبر خوري أن حل الصراع العربي – الإسرائيلي والفلسطيني – الصهيوني مع احترام رغبات شعوب المنطقة واحتياجاتهم، أولوية رئيسية لأي شخص يسعى إلى تعزيز الاستقرار والكرامة في جميع أنحاء المنطقة لجميع أفرادها.

وولّدت النزعة العسكرية الأجنبية والصراع العربي – الإسرائيلي إرثا حديثا من الأنظمة العربية الاستبدادية، وكانت جميعها بحاجة إلى دعم أجنبي من أجل البقاء وقد تسببت في إخفاقات تنموية دمرت الاقتصادات الوطنية ودفعت العرب وبعض الإيرانيين والأتراك وحتى الإسرائيليين إلى الهجرة، وبالتالي فإن إنهاء الاستبداد يبدو أمرا مهما لإنهاء حروب المنطقة.

بسبب العوامل الثلاثة المذكورة أعلاه، أصبح عدد كبير من سكان المنطقة العربية البالغ عددهم 440 مليون نسمة اليوم من الفقراء والمهمشين اقتصاديا وسياسيا. وأدى الإفقار المستمر للطبقات الوسطى العربية، منذ تسعينات القرن، إلى تفاقم جميع الاتجاهات المدمرة الحالية، بما في ذلك الصراعات الطائفية والعرقية، والانتفاضات المدنية الجماعية، والهجرة على نطاق واسع، والتهجير، وحالات اللجوء.

كما يقوي هذه الأنظمة الاستبدادية قمعها لتعبيرات المواطنين عن السخط والمطالبة بالحقوق بمزيد من العنف والاعتقالات وترهيب المحتجين السلميين، وأدت هذه الاتجاهات إلى اندلاع احتجاجات مستمرة للمواطنين ضد قياداتهم الاستبدادية في المنطقة العربية وأجزاء من إيران وإسرائيل في السنوات الأخيرة.

وشهدت المنطقة العربية على وجه الخصوص احتجاجات مستمرة في 12 دولة منذ سنة 2010. وكانت تونس الوحيدة التي انتقلت إلى الديمقراطية التعددية، ويمر السودان بمرحلة انتقالية. وتؤكد الاستطلاعات استياء المواطنين واسع النطاق من مؤسسات الدولة مثل البرلمانات ووسائل الإعلام والسلطات التنفيذية والقضائية. وأصبحت الفجوة بين المواطنين وأنظمتهم الحاكمة أوسع، مما يجعل الأوضاع في بعض الدول أكثر هشاشة.

وتعاني الدول والشعوب العربية من الإهانة المطلقة بسبب العوامل المذكورة أعلاه، وفقدت دول كثيرة السيطرة على معظم حدودها وأراضيها مثل سوريا والعراق ولبنان وفلسطين التي تحتلها إسرائيل واليمن والصومال وليبيا وكردستان العراق وجنوب السودان، على سبيل المثال.

ومع سيطرة الجهات الفاعلة غير الحكومية على بعض مناطق الحكم الذاتي الخارجة عن سيطرة الحكومة المركزية، تشن القوى الأجنبية حروبا مباشرة في أي بلد، أو من خلال وكلاء محليين.

ولا يمكن لبعض المناطق اتخاذ قرارات ذات سيادة كاملة تتعلق بأمنها القومي، إذ يجب أن تحصل معظم الدول العربية، على سبيل المثال، على موافقة إسرائيل لشراء أسلحة أميركية متطورة. ويجب أن يحصل البعض على موافقة إيران أو تركيا أو روسيا على تحركاتها العسكرية أو الدبلوماسية.

ويقول خوري إن هذه الأمثلة وغيرها تبرز تجريد الدول العربية من السيادة وهي مسألة ذات أولوية يجب أن يفهمها أي شخص مثل بايدن يسعى إلى التعامل مع دول المنطقة.

وانطلاقا من كل تلك الديناميكيات، يبدو من الأفضل أن تتوقف إدارة بايدن والقوى الأجنبية الأخرى التي تنظر إلى الشرق الأوسط المضطرب للحظة عن التركيز على الصناعة النووية الإيرانية، والإرهاب، وتوسع الميليشيات غير الحكومية، وتدفقات اللاجئين، وغيرها من القضايا المهمة، وتحاول فهم كيف وصلت البلدان العربية إلى هذا الموقف، وكيف يمكن الخروج منه.

العرب