تعمل اللياقة البدنية على تحسين الصحة العامة وهي مهمة وضرورية لجميع الأشخاص دون استثناء لما تحمله من فوائد. وتقي الرياضة من مرض السمنة وتقلل من الأمراض المنتشرة إضافة إلى تداعياتها على الصحة النفسية للناس، لكن بالرغم من ذلك لا تلقى اللياقة البدنية اهتماما في الدول العربية لاصطدامها بتابوهات مجتمعية مردها استشراء الجهل والكسل وتغول ثقافة التحريم، ومن شأن ذلك أن يعطل توعية الأفراد بأهميتها كأسلوب حياة.
القاهرة – تكفي مطالعة نسب البدانة في البعض من المجتمعات العربية للوقوف على حجم الخطر الذي ينتظر دولها جراء غياب ثقافة اللياقة البدينة والجهل بأبجديات الحفاظ على القوام الجسدي، حتى صارت هناك شريحة كبيرة مصابة بداء السمنة المفرطة بسبب الكسل والاستخفاف بالرياضة والتعاطي مع فكرة التريّض باعتبارها رفاهية لا ضرورة منها.
وعلى سبيل المثال، هناك 43 في المئة من المصريين مثلا، من المصابين بمرض السمنة، وواحد من كل خمسة سعوديين يعانون الأزمة ذاتها. وبالقياس مع دول عربية أخرى، تبدو معدلات الإصابة بالبدانة متقاربة مع هذه النسب، أو أقل بعض الشيء.
عادل بركات: نسف المعتقدات البالية بحاجة إلى سياسة النفس الطويل
وعلى الرغم من أن الشباب هم الأكثر ميلا للرشاقة وممارسة الرياضات في المنطقة العربية، إلا أن الفئة الأكبر ما زالت غير عابئة بنظرة المجتمع لأجسادها. وقد تكتشف بسهولة حالة الهوس عند بعض الفتيات بنحافة أجسادهن، وقد نصطدم بشريحة نسائية تؤمن بضرورة أن يكون جسد المرأة زائدا كدليل على أنوثتها وجمالها ومقوماتها الفاتنة.
ويقود ذلك إلى أن المجتمعات العربية ما زالت منقسمة حول معايير الجسد المثالي، كما لا يوجد إجماع بشأن قواعد الثقافة الصحية، ما يضع جملة من العراقيل والتحديات أمام أي حكومة تسعى إلى نشر ثقافة اللياقة البدنية، تحول دون خلق مجتمع رياضي متحضر وعقلاني يؤمن بأن الوعي الصحي والجسدي هو إحدى أهم سمات البلدان التي يتمتع سكانها بتهذيب نفسي وروحي.
وعندما أطلقت مصر قبل أيام مشروعا قوميا لنشر ثقافة اللياقة البدنية بين الملايين من الطلاب، كمدخل لتغيير ثقافة الأسر والأجيال الصاعدة تجاه مسألة الرشاقة، تعامل الكثيرون مع الفكرة بحالة من السخرية، والبعض ذهب إلى أن الحكومة تريد حرمان الشعب من ملء البطون، وآخرون سوقوا للأمر على أنه دعاية سياسية بأن الدولة تحاول تقليد المجتمعات الغربية.
أسلوب حياة وليست رفاهية
يعكس تعاطي المصريين مع فكرة اللياقة البدنية، أن ارتفاع مستوى الأمية التعليمية والصحية في أي مجتمع، لا يزال يشكل معضلة كبرى في توعية الناس بأهمية الرياضة كأسلوب حياة، وإن كانت الأغلبية تربت ونشأت على مقولة أن “العقل السليم في الجسم السليم”، فإنها لم تدرك بعد هوية الجسد الصحي المثالي.
واعتبر أشرف عبدالحليم، وهو مدرب لياقة بدنية وصاحب مجموعة من القاعات الرياضية، أن “معضلة نشر ثقافة اللياقة البدنية تتمثل في استسلام الناس للطاقات السلبية الناتجة عن سوء المعيشة والغلاء، ما يصنع لديهم حالة من الاسترخاء والكسل للبحث عن أيّ فعل ينسيهم الهموم”.
وشرح في تصريح لـ“العرب” مشكلة هذه الفئة بأنها “لم تتعرض لخطاب تثقيفي يقنعها بأن الرياضة تكاد تكون الوسيلة الوحيدة التي تعيد إليها الصفاء الذهني والهدوء النفسي وتجعلها أكثر قدرة على التفكير بعقلانية وهدوء ونبذ الفكر العدواني”.
وأضاف أن “تفكيك الميراث الفكري القديم عن كون الرياضة هي رفاهية، وتحدٍ صعب، لكنه يمهد الطريق لصناعة مجتمع صلب ومتماسك لديه ثقة في النفس ومؤمن بالقيم والتنافس الشريف”.
وبرأيه فإن “أزمة الكثيرين أنهم يتعاملون مع اللياقة البدنية بنظرة سطحية، ويختصرون الألعاب في المشاركة في البطولات وحمل الكؤوس فقط، وهذا اعتقاد خاطئ ينذر استمراره بعواقب وخيمة على الأجيال القادمة”.
ثقافة اللياقة البدنية
يظل التحدي الأكبر أن هناك معايير جسدية مغلوطة توارثتها الأجيال عن مفهوم لياقة الإنسان وكفاءته الصحية، والبعض يعتقد أن مخالفة هذه المعتقدات يعني شذوذه عن العادات المجتمعية، فلا يزال الكثير من المواطنين العرب ينظرون إلى “الكرش” باعتباره جزءا من الوجاهة، بل هناك من يراه مرآة للرفاهية ودليلا على هيبة صاحبه.
صحيح أن شريحة كبيرة من الشباب لديها ميول واضحة ناحية الاهتمام باللياقة البدنية كمدخل للحفاظ على الجسد واعتبار الرياضة أسلوبا متحضرا، لكن ثمة شرائح من الآباء والأجداد تحرض الأبناء على البدانة وتصور بداخلهم أن الرشاقة انعكاس للفقر، فكيف يمكن إقناع هؤلاء بأن الرياضة مرآة للإنسان المتزن؟
ومازالت المجتمعات الشرقية غير مقتنعة بأن إهمال اللياقة البدنية، مقابل التماهي مع البدانة والسمنة المفرطة، يمثل أحد أكبر المعوقات أمام أن تكون بلدانها من الدول المنتجة، لأن الشريحة التي تعوّل عليها الحكومة تتسم بالكسل والخمول والإرهاق لأقل سبب، في حين أن المجتمعات الرياضية من السهل اكتشاف نشاط أفرادها.
وأبدى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي امتعاضه من بدانة شعبه، واعتاد تسليط الضوء على بدانة البعض من المصريين، وإهمالهم للرياضات وحرمانهم الأبناء من ممارسة الألعاب التي تجعل أجسادهم رشيقة وصحية، لدرجة أنه طالب الحكومة بتسريع إقرار مادة خاصة بالتربية الرياضية في المدارس لتكون إجبارية، حتى ينشأ الملايين من الطلاب على ثقافة أن الرياضة ضرورة حياتية وليست رفاهية.
ويصطدم هذا التوجه بقناعة لدى أغلب الأسر بأن الشاب إذا اهتم بالرياضة، فإنه حتما سوف يخفق دراسيا، ومهما حاولت إقناع هذه الفئة بأن تقسيم وقت الأبناء بين الألعاب والتعليم سيجعل منهم أفردا أسوياء فكريا وسلوكيا وصحيا، فإن الردود في الغالب تأتي بعيدة كليّا عن النواحي التربوية والعلمية، على طريقة أن الميل للرياضة دليل على انفلات طالب العلم وميله إلى التفاهات.
وتلفت إيمان حسن، مستشار وزير التعليم المصري لشؤون الرياضة، إلى أن “نشر ثقافة اللياقة البدينة في أي مجتمع يفترض أن تبدأ من الأجيال الجديدة، فهذه الفئة لديها شغف الاهتمام بالألعاب التكنولوجية مقابل إهمال الرياضات الجسدية التي تجعل من الفرد شخصا متفتحا وعقلانيا ومسالما مع نفسه والآخرين”.
وأوضحت حسن لـ“العرب”، أن “أكبر تحدٍ للمجتمع الذي يتجاهل أفراده رفع لياقتهم البدنية هو ارتفاع منسوب الشيخوخة حتى بين العناصر التي لم تتقدم في السن، ودائما ما تكون الحجة هي عدم وجود وقت لممارسة الرياضة”.
وتعتقد أن “العبرة في كيفية إدارة الوقت واستغلاله في ما يفيد الإنسان وجسده”.
أشرف عبدالحليم: الكثيرون يتعاملون مع اللياقة البدنية بنظرة سطحية
وبالنسبة إلى الكثيرين من المؤمنين بالرياضة كهدف صحي، فإنهم لا يجدون المكان الملائم لممارستها، خاصة إذا كانوا من الفئات البسيطة أو يقطنون المناطق الشعبية والريفية والضواحي وعلى أطراف المدن. وعندما يفكرون في الحصول على العضوية بأحد الأندية الرياضية التي تتوافر فيها الألعاب، يصطدمون بأسعار خيالية.وثمة معضلة أخرى ترتبط بنظرة المجتمع نفسه إلى لياقة الجسد، فهناك من يراها مدعاة إلى التباهي بين الناس، بأن يكون قوام الجسم رشيقا ومفتون العضلات، فيما تقتصر نظرة الآخرين إليها على أنها إثارة الإعجاب وجذب الانتباه، وهناك فئة قليلة فقط تلك التي تؤمن بالرياضة كهدف صحي، وغالبا ما تكون من العائلات المنفتحة فكريا وثقافيا وتتعامل مع اللياقة كنشاط أساسي.
وإذا تمسكوا بالأمل، وقرروا الالتحاق كأعضاء في أندية شبابية حكومية، يكونون في الغالب مضطرين إلى دفع اشتراكات شهرية تتخطى ظروفهم المالية، بعد أن قامت الحكومة بتأجير أماكن اللعب إلى شركات خاصة، وعندما تصبح قاعات “الجيم” الحل الوحيد أمامهم، يصطدمون بنفس المشكلة وهي عدم وفرة المال، وبالتالي تُغلق الأبواب في وجوههم ليبقى سبيلهم الوحيد معلقا على تعاطي رياضة المشي في الشارع.
وبرأي محمود محمد، وهو شاب ثلاثيني من حي شعبي في القاهرة، فإن الحكومة تتحمل المسؤولية الأكبر في إهمال الناس للرياضة، لأنه مع ارتفاع منسوب الفقر وإعادة ترتيب الأولويات، مقابل رهن ممارسة الألعاب البدنية بدفع مبالغ مالية طائلة، فإن المقاطعة سوف تكون أمرا حتميا.
ومحمود من الشباب الذين يداومون على رياضة المشي كل صباح، باعتبارها الوحيدة التي يمكن ممارستها بشكل مجاني، بعدما تحولت صالات الألعاب وساحات الأندية ومراكز الشباب إلى “بزنس ضخم”، ولأن نسبة الفقر في المجتمع تتخطى 45 في المئة، فإن أفراد هذه الطبقة وما فوقها مباشرة، يصعب عليهم الاقتناع بتحسين لياقتهم البدنية بالجري في الشوارع.
وأشار لـ“العرب”، إلى أن “التحدي الأكبر هو تغيير قناعات الناس تجاه طبيعة الجسد الصحي”. واستدرك قائلا “لا يمكن إقناع من يرون أن ‘الكرش’ هو مقياس للرجولة والفحولة، بحتمية ممارسة الألعاب البدنية بغرض الرشاقة والاتزان الجسدي وحماية أنفسهم من الأمراض المزمنة التي ترتبط بالبدانة والسمنة المفرطة”، معلقا “هؤلاء بحاجة إلى ثورة فكرية”.
تعاني المرأة الرياضية من تحديات بالغة الصعوبة مع الأغلبية المجتمعية التي تتهمها بخرق المحرمات إذا تجرأت وقررت ممارسة الألعاب البدنية، بل إن هناك البعض من الشيوخ المتشددين أصدروا فتاوى تحرم الرياضة على النساء بدعوى إثارتهن للشهوات، بهز الجسد وارتداء ملابس ضيقة والتشبه بالرجال، والكثير من الأسر اقتنعت بهذه الخرافات وقيدت حريات فتياتها في الوصول إلى مستوى معقول من الرشاقة.
ولدى أشرف عبدالحليم، مدرب اللياقة البدنية في حديثه مع “العرب”، سيدة منقّبة يتولى تدريبها، وكل يومين تأتي إلى صالة الجيم بشكل سري بعيدا عن أسرتها وزوجها، وتخلع عن جسدها العباءة السوداء والنقاب وترتدي الملابس الرياضية.
ولفت إلى أن “كل امرأة تتشوق لممارسة الألعاب التي تشعرها بأنها جزء من المجتمع وليست في مرتبة دونية، لكن ثقافة التحريم ونظرات المتربصين تطاردها”.
ويصعب فصل الجمود الفكري لأغلب الأهالي تجاه ممارسة الفتاة للألعاب البدنية، عن الفهم الخاطئ لمعايير الأنوثة، فقد تجد أسرة تحرم ابنتها من الاشتراك في صالات الجيم بدعوى ظهور عضلاتها وتكون شبيهة بالرجال، وبالتالي تفقد بريقها، في حين أن ظهور العضلات عند المرأة يرتبط بتناولها هرمونات ذكورية، والأخيرة تتعاطاها المشاركات في بطولات كمال الأجسام فقط.
وإذا كانت الأسرة أكثر تحضرا وعقلانية تجاه ممارسة الابنة أو الزوجة للرياضة، فإن تحركاتها تكون مغلفة بثقافة العيب والحرام من جانب البيئة التي تعيش فيها، لكن أزمة الكثير من النساء أنهن ينظرن إلى الياقة البدنية بشكلها الظاهري، بأن يمارسن الألعاب بدافع الوصول إلى الجمال المرتبط بالرشاقة.
وتمارس شريحة من النساء الرياضة كبديل عن جراحات التجميل في سبيل البحث عن نيل الإعجاب المرتبط بالجسد المثالي، وعند الوصول إلى مرحلة الرضاء النفسي بتحقيق الغرض، يتم التوقف عن الألعاب، وتدخل هذه الفئة في صراع مع الذات، لأنها تبحث عن مكانتها بين أجساد نساء أخريات لا عن تحصين جسدها من السمنة.
وتظل المعضلة الأكبر التي تواجه المرأة العربية في تخصيص أوقات محددة لرفع لياقتها البدنية متمثلة في أن السواد الأعظم من الرجال يحمّلونها وحدها مسؤولية كل شيء، ويتعاملون معها كـ“معينة منزلية” ليس من حقها الاعتناء بنفسها، وعندما تصل إلى مستوى متقدم من البدانة تكون عرضة للسخرية والتنمر العائلي، ما يدفعها إلى اتباع أسلوب غذائي قاسٍ بغرض التخسيس وإرضاء الآخرين.
ويعتقد عادل بركات، خبير التنمية البشرية، أن “التغلب على تحديات نشر ثقافة النشاط البدني، ينطلق من تغيير قناعات الأفراد تجاه ممارسة التمارين الرياضية، والتعامل مع الأمر كمشروع قومي، وليس مجرد حملة مؤقتة، لأن نسف المعتقدات البالية بحاجة إلى سياسة النفس الطويل”. متسائلا “كيف نقنع البعض بحق المرأة في الرياضة وهم لا يزالون يناقشون الزي الشرعي؟”.
وأضاف بركات لـ“العرب”، أن “تأسيس مجتمع يؤمن بثقافة اللياقة البدنية كعادة يومية ينطلق من المؤسسات التعليمية لأن عناصرها هم نواة المستقبل، وإذا قاد هؤلاء الحراك عن اقتناع لن تقف أمامهم أي قوة رجعية”.
وأكد “الحاجة إلى إعادة تقديم الرياضة في صورة مثالية لكسر محرمات تحول دون ممارستها كهدف في الحياة”.
ويبقى الجهل بالقيمة الصحية للياقة البدنية عائقا أمام التعامل معها كعلاج من الأمراض الجسدية والنفسية وحصانة من الفايروسات والأوبئة ومفرغ للطاقات السلبية والاكتئاب والنمو المثالي، فلا يمكن النصح بشيء دون تثقيف المستهدفين بمزاياه من خلال متخصصين وشخصيات ينظر لها المجتمع على أنها قدوة، لأن تسويق النشاط البدني بصيغة رسمية حكومية في صورة مشروع قومي لن يكسر التابوهات أو يقنع المعارضين له بالتعاطي معه كنوع من التمرد على كل ما يحمل غرضا سياسيا.
العرب