دفعت التطورات السياسية والاقتصادية في لبنان كارتيلات تحتكر الإسمنت والطاقة والنفط والكهرباء إلى خيارات متطرفة باستثناء تغيير مواقعها وعملها، وذلك للحفاظ على مداخيل هامة تجنيها من الفساد في مختلف قطاعات لبنان الغارق في الأزمات.
بيروت – لم ينج لبنان من تداعيات سياسية واقتصادية لانفجار دموي ضخم أتى على الأخضر واليابس في الرابع من أغسطس الماضي، بفعل “فساد” ينخر مؤسساته المختلفة، وتسبب في إعادة الكشف عن الوجه القبيح لشركات ومؤسسات وسيطة تعمل في السر والعلن منذ عقود لحساب زعماء وقادة طائفيين وجدوا أنفسهم على المحك بعد الضربات السياسية والاقتصادية المتوالية على البلد.
فتح انفجار بيروت، تلك العاصمة اللبنانية التي عانت الويلات والمعاناة طوال الحرب الأهلية والنزاعات السياسية المتواصلة، الباب لإعادة قراءة مشهد المحاصصة الاقتصادية الطائفية، وسلّط الضوء من جديد على مكامن الأزمة التي يعاني منها اللبنانيون طوال عقود وأثّرت بشكل مباشر على حياتهم اليومية والمعيشية.
ويتّهم اللبنانيون بشكل واضح مؤسسات وشركات وسيطة تعمل تحت غطاء الدولة في تأجيج أزماتهم الاقتصادية والسياسية المختلفة، ويرون أن جشع القادة الطائفيين وراء تفاقم تلك الأزمات.
ويقول تقرير نشر في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية إن “الزعماء الطائفيين في لبنان يعيشون أسوأ حالاتهم منذ عقود بعد انفجار بيروت الكارثي في أغسطس، لكن مشاكلهم المالية قد تكون أكثر ضررا”.
ويضيف التقرير، الذي أعده الصحافيان والباحثان الاقتصاديان جاكوب بوسوال وديفيد وود، أن “المانحين يمكنهم فطم الزعماء الطائفيين عن مصادر دخلهم غير الأخلاقية وإجبارهم على إصلاح حقيقي، بدءا بقانون وسلطة مناسبة للمنافسة بما يضمن تكافؤ الفرص لجميع الشركات”.
وتنشط في لبنان كارتيلات تتحكم في جميع مصادر الاحتياجات الحياتية للمواطنين بدءا من الطاقة والكهرباء والغاز والماء والزراعة والنفايات. ويقول لبنانيون إن من بين أسباب تفاقم الأزمات تقاعس الدولة لصالح الشركات الوسيطة التي تعمل مع قوى سياسية نافذة للتحكم في السوق واحتكاره.
ويوضح الصحافيان في تقريرهما أن “الضغوط الاقتصادية الجديدة تجبر الكارتيلات اللبنانية على اتخاذ خيارات متطرفة للبقاء باستثناء تغيير مواقعها، ليزداد إفلاس الشعب اللبناني والحكومة، تاركين النخب الفاسدة أمام جيوب أقلّ لنهبها. وتقبل الكارتيلات بالتنازلات قصيرة الأجل لتجنب الإصلاح الدائم، على أمل إعادة تنشيط شبكات المحسوبية الراكدة في المستقبل”.
يعاني لبنان من أسوأ أزمة اقتصادية وسياسية منذ عقود، ويسعى إلى إيجاد مخرج من تداعيات مدمّرة لانفجار بيروت الأخير، حيث زاد الانفجار من تفاقم الأزمة التي نتجت عن الانهيار الاقتصادي غير المسبوق، وموجات الاحتجاجات الشعبية على الفساد والمحاصصة الطائفية. وأجبرت تلك الاحتجاجات قبل نحو عام رئيس الحكومة سعد الحريري على الاستقالة من منصبه قبل إعادة تكليفه في أكتوبر الماضي.
ويرى الصحافيان جاكوب بوسوال وديفيد وود أن عودة الحريري إلى رئاسة الحكومة كانت بمثابة إشارة إلى عودة كئيبة إلى الوضع المعتاد، وأن المجتمع الدولي لم يكتشف بعد ما الذي يجعل السياسيين اللبنانيين يتحرّكون لإتمام الإصلاحات، مشيران في الوقت نفسه إلى أن المانحين المحتملين يركّزون على سوء الإدارة الاقتصادية والإرادة السياسية، ويتجاهلون المصالح التجارية المشبوهة التي تحافظ على شعبية الزعماء الطائفيين.
في التسعينات بعد خروج لبنان من حربه الداخلية المدمرة، عمل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري على إعادة إعمار وسط بيروت ضمن خطة اقتصادية عرفت باسم “هورايزون 2000”، وأعطت تلك الخطة لبنان القوة لإحياء صناعة السياحة. يحسب للحريري الأب، الذي اغتيل في الرابع عشر من فبراير عام 2005، أنه انتشل لبنان المدمّر من أزماته الاقتصادية والأمنية والمؤسساتية.
في الرابع من أغسطس الماضي، وجد لبنان نفسه محاطا بكمّ كبير من الأزمات المتشعّبة. ولا يرى مراقبون أن هناك مقدرة لأيّ زعيم سياسي لإحداث إصلاح حقيقي من دون التخلص من الفساد المستشري والقوة الكبيرة لأقطاب التجارة في البلد، لكن كيف يمكن التعامل مع هذا الأمر حينما يكون “السياسي هو التاجر والاقتصادي”.
يقول تقرير “فورين بوليسي” إن الحريري ورث إمبراطورية تجارية من والده ولا يخشى الخلط بين الأعمال والسياسة، فهو ليس الوحيد في لبنان الذي يدمج السياسة والأعمال. فقادة البلاد استغلوا مواقعهم لكسب ولاء مناصريهم والتغلغل أكثر في اقتصاد البلاد.
وتعمل الكارتيلات التجارية ذات العلاقات السياسية على استغلال الإعانات الحكومية وأصول الدولة وتضاعف تكاليف المنتجات والخدمات الأساسية بشكل كبير، كما يستفيد الموالون من شبكات المحسوبية الفاسدة، ويربطون المزيد من الناخبين بقادتهم ماليا. ويقول لبنانيون إن الكارتيلات التجارية يقودها قادة وزعماء طائفيون.
وتقول المجلة الأميركية إنه “بعد ثلاثة عقود من الاستغلال، نادرا ما يتوقع المستهلكون اللبنانيون قيمة مقابل المال، حيث أصبح انقطاع التيار الكهربائي اليومي ونقص المياه وفواتير الاتصالات الأغلى في المنطقة من الأمور العادية”.
30 دولارا سعر طن الإسمنت في لبنان بعد أن أجبر انفجار بيروت الحكومة للضغط على المستوردين لتخفيض سعره بعد ما كان 100 دولار للطن
وتضيف أن “النخب السياسية التجارية الجشعة في لبنان لا يمكن أن تتجاهل الانهيار الاقتصادي الذي قضى على القدرة الشرائية الاستهلاكية للمواطنين”.
وامتدت الأزمة في لبنان إلى أعمال القطاع الخاص، حيث يشمل احتكار القلة الكارتيلات في جميع المجالات من المياه المعبأة إلى زراعة البطاطس، إضافة إلى الطاقة والنفط والغاز والإسمنت.
ويقول الصحافيان في تقريرهما إنه “لأول مرة منذ عقود، بدأ اللبنانيون يدفعون أسعارا معقولة لكارتيلات الإسمنت. ويتحكم السياسيون وشركاؤهم في شركات الإنتاج الثلاث الوحيدة في لبنان، وهي شركة الترابة الوطنية “إسمنت السبع”، ولافارج هولسيم، وترابة سبلين”.
واستبعدت الرسوم الجمركية الباهظة المنافسة الأجنبية منذ التسعينات مما أجبر المستهلكين على شراء الإسمنت اللبناني باهظ الثمن، لكنّ مورّدي الإسمنت اتفقوا في لبنان في أغسطس الماضي على خفض أسعارهم إلى نحو 30 دولارا للطن بعد الانفجار الكبير الذي ضرب مرفأ بيروت وحطّم الكثير من المباني في العاصمة اللبنانية.
وعدّ الانخفاض في سعر الإسمنت انخفاضا ملحوظا بعد أن كان 100 دولار، أي حوالي ثلاثة أضعاف سعر السوق العالمي، وأصبح يتماشى مع الأسعار التي تفرضها الشركات في الخارج.
وتنقل “فورين بوليسي” عن المدير العام السابق لوزارة المالية اللبنانية آلان بيفاني قوله إن “الحكومة المؤقتة في البلاد هددت برفع الرسوم الجمركية على واردات الإسمنت لضمان الامتثال لسقف الأسعار”. واعتبر هذه السياسة من “النجاحات الصغيرة” لإدارة حسان دياب قصيرة الحكم.
لكن لا يبدو أن الأمر سيكون مواتيا للتفاؤل بشأن سقف السعر الجديد، خاصة أن الاتفاقية تستمرّ على أساس شهري، بينما تبقى المقاومة في واحدة من أكثر الصناعات المناهضة للمنافسة في لبنان قوية.
وأشار، نافذ زوق، كبير اقتصاديي الأسواق الناشئة في كلية أكسفورد للاقتصاد في لندن، إلى أن الكارتيل خفّض أسعاره أمام الضغط لكنه صعّب مساعي الحكومة وقاوم قدر المستطاع.
تقول “فورين بوليسي” إن الشخصيات السياسية اللبنانية تبدو غير مهتمة بإصلاح الاقتصاد، فهو بالنسبة إليها يعني تخليها عن ثرواتها، لكن الحقائق الاقتصادية الجديدة تزعزع استقرار بعض الكارتيلات.
وتشير إلى أن الخزائن العامة تعتبر مصدر دخل مضمون آخر للكارتيلات اللبنانية، بتشحيمها آلية المحسوبية السياسية الطائفية، حيث منحت عمليات المناقصات عقودا باهظة للخدمات مثل إدارة النفايات لشركات دون غيرها منذ فترة طويلة.
ويقول آلان بيفاني “رأينا في العديد من القطاعات أن السياسيين يضيفون الوسطاء في العقود الحكومية”. وفي حالات أخرى، وافق السياسيون على “الوظائف الوهمية” التي تسمح لمؤيديهم بالحصول على أجور دون أن يؤدّوا أيّ عمل.
الشخصيات السياسية اللبنانية تبدو غير مهتمة بإصلاح الاقتصاد، فهو بالنسبة إليها يعني تخليها عن ثرواتها
وستحتاج الكارتيلات اللبنانية إلى التكيف مرة أخرى مع الوضع الاقتصادي المتدهور، خاصة من جهة نفاد حنفية الأموال العامة الوفيرة، نظرا لأن الدولة تواجه ثالث أعلى نسبة دين عام إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم.
ومثلما الحال مع كارتيل الإسمنت، يواجه كارتيل الطاقة والنفط نفس المشكلات مع التدهور الكبير للاقتصاد والخطط الحكومية لإنهاء الدعم للوقود، حيث سيتعيّن على مستورديه التراجع إلى وضع محاولة البقاء على قيد الحياة.
وتتحكم ثلاث شركات يُزعم أنها مرتبطة بزعماء طائفيين في واردات الوقود إلى لبنان. فقد سُمح لها بالعمل كوسيط حصري بين الحكومة والدول المصدّرة للوقود.
وتقول جيسيكا عبيد، مستشارة مستقلّة في مجال سياسات الطاقة، إن احتكار القلة المحكم في القطاع مربح للمشاركين. وقالت في نوفمبر، “كيف يتم إبرام العقد؟ هذه علامة استفهام كبيرة، لكنهم يحققون نسبة عالية من الأرباح من السوق اللبنانية بالتأكيد”.
وأصبح المستوردون على وشك فقدان هذه البطاقة الذهبية مع انخفاض احتياطات العملات الأجنبية بنسق خطير. وتتوقع عبيد أن يتحمل كارتيل استيراد الوقود الخسائر على أمل أن يتمكن مستقبلا من إعادة جني الأرباح كعادته دائما.
ويعتقد مراقبون أن أيّ خطوة لا تشمل إصلاحا اقتصاديا شاملا في لبنان لن يحل المشكلات المتفاقمة في البلد، الذي يدفع ضريبة باهظة الثمن جراء سياسات قادته. ولا يتوقع على نطاق واسع أن ينهض الاقتصاد من جديد طالما بقيت الإقطاعيات الاقتصادية للقادة السياسيين على حالها.
العرب