هل يفتح الصراع بشأن الأراضي الاشتراكية الباب لثورة جديدة في تونس

هل يفتح الصراع بشأن الأراضي الاشتراكية الباب لثورة جديدة في تونس

بعد عشر سنوات من ثورة 2011، باتت الكثير من الجهات تتصارع على أراض، كانت الدولة استولت عليها في ستينات القرن الماضي، لبناء تعاونيات زراعية وأجبرت صغار المزارعين على العمل سويا لإنجاحها، لكن هذه التجربة فشلت، وظلت تلك الأراضي على ذمة الدولة.. والآن تجري صراعات لاستعادتها بالقوة خاصة في ظل ضعف الدولة وسيطرة الفساد على أجهزتها.

تونس – أعادت مواجهات عنيفة شهدها الجنوب التونسي مؤخرا، بين مجموعتين من المواطنين في مدينة بني خداش بولاية مدنين ومدينة دوز بولاية قبلي، على إثر نزاع على ملكية قطعة أرض واسعة، إلى دائرة الضوء ملف تصفية الأراضي الاشتراكية التي تحوم بشأنه الكثير من التعقيدات القانونية.

وتعود الأراضي الاشتراكية إلى فترة أواخر ستينات القرن الماضي، حيث تولت تونس تجميع الأراضي المشتتة واستثمارها بشكل جماعي، فيما بات يعرف بالتعاضديات (التعاونيات الزراعية) ضمن برنامج اشتراكي أشرف على تنفيذه رئيس الحكومة الراحل أحمد بن صالح (1962 – 1969).

وتسبب النزاع العقاري الأخير بين المنطقتين المتجاورتين، على منطقة “العين السخونة”، التي تقع في الصحراء وتضم بئر مياه ساخنة، في وفاة شابين، إضافة إلى سقوط 70 مصابا من الجانبين. ولا يستبعد متابعون نشوب صدامات جديدة في حال لم يقع الحسم في ملف الأراضي المتنازع عليها.

طاهر الطاهري: لن نسمح بأن يضع مستثمر أقدامه في أرضنا

وتشهد مناطق عدة جنوب تونس من حين إلى آخر صراعات بينها حول الأراضي المشاعة، التي لا تخضع عادة لتوثيق عقاري، ومن ذلك مواجهات بين قريتي يشتي وجرسين من ولاية قبلي، عام 2017، أدت إلى سقوط 78 جريحا.

ويتوقع المتابعون أن يفتح النزاع حول ملكية الأراضي الباب لشرارة ثورة جديدة في تونس، ثورة على ملكية الأراضي الاشتراكية، وقد عاد أغلبها إلى الدولة، التي تكتفي بالتفويت فيها بالكراء لفائدة أصحاب نفوذ دون عائدات تذكر.

وارتفعت أصوات بعض السياسيين لتطالب بمنح هذه الأراضي لفائدة مزارعين من خريجي الجامعات حتى يكونوا قادرين على استثمارها.

ويستند هؤلاء المتابعون إلى تجربة سكان جمنة، الذين استطاعوا الدفاع عن ملكية واحتهم ضد الدولة، في تجربة فريدة من نوعها والتي وصفها مراقبون بمثابة “ثورة ناعمة”.

ووجد سكان جمنة في شرارة ثورة يناير قبل عشر سنوات الفرصة سانحة لتصفية حسابات تعود إلى الحقبة الاستعمارية، فقد استولى المعمر الفرنسي على قطعة أرض حجمها 185 هكتارا (460 فدانا) خارج واحة البلدة.

وقال الزين، الذي ينتمي إلى إحدى القبائل التي امتلكت الأرض بشكل جماعي حتى سنة 1912 لوكالة رويترز، إنها كانت مُصادرة خلال الحكم الاستعماري الفرنسي لاستخدامها في غراسة النخيل. وأكّد أن جده كان يعمل في الواحة خلال فترة الاستعمار “مثل الخادم بأجر زهيد” وكان يأخذ أغنامه وماعزه للرعي هناك بعد انتهاء موسم جني التمور.

أرض الأجداد
بعد الاستقلال في عام 1957، مُنحت تونس قرضا لدفع ثمن الأرض لفرنسا ثم احتفظت بها كممتلكات للدولة بدلا من إعادتها إلى السكان المحليين. وبعد تجربة قصيرة مع التعاونيات الزراعية، غيرت الدولة مسارها، وشجعت مستثمري القطاع الخاص على استغلال الأراضي العامة.

وتم تأجير الأرض في جمنة، لشركة “ستيل” المملوكة للدولة، والتي أفلست سنة 2001، في خطوة أثارت استنكار سكان المنطقة. وأشار رئيس جمعية حماية واحات جمنة الطاهر الطاهري، إلى أن “مثل هذه السياسات أثارت مظالم قديمة بشأن مصادرة الأراضي”، حيث كانت دافعا حقيقيا لانطلاق تحرك بالجهة بهدف استرجاع حق الأرض.

ومع اندلاع الثورة في 2011 توجّه العشرات من سكّان المدينة إلى الواحة، وسيطروا عليه، ليضعوا بذلك حدا لـ”المظلمة التاريخيّة بحقّهم”، حسب ما نقلته تقارير محلية آنذاك.

واستحضر محسن الزين، البالغ من العمر 40 سنة، وهو من سكان المدينة في حديثه لوكالة رويترز، أحداث تلك الفترة، كاشفا عما اعتراه من رغبة جامحة لاستعادة “أرض الأجداد” قبل يومين من فرار الرئيس الراحل زين العابدين بن علي قائلا “كان علينا استعادة أرضنا، يجب أن نكون من يستغلها”.

وامتدت موجة احتكار الأراضي خلال الثورة ضد حكم بن علي. لكن الكثير من الأراضي عادت إلى أيدي الدولة بعد عقد من الزمن بينما بقيت بعضها عالقة في نزاعات قانونية. وفي حين تمت مصادرة حوالي 100 ألف هكتار من الأراضي المملوكة للدولة، استعادت الحكومة منذ ذلك الحين ما يقرب من 80 ألف هكتار، وفقا لوزارة أملاك الدولة.

مصطفى عبدالكبير: مشكلات الأراضي الاشتراكية سكين ذو حدين

وبينما رفضت الحكومة التونسية التفاوض بشأن مسألة الملكية، تعتبر جمنة حالة نادرة لسكان محليين استطاعوا النجاح في إقناع الحكومة بأحقيتهم في استرجاع الواحة من المستثمرين الخواص، وإيجاد مخرج لهذا النزاع من باب “الاقتصاد التضامني”.

وروى الطاهري لـ”العرب” مسار التفاوض مع الحكومة أعقاب الثورة، والتي قادت في النهاية إلى كراء الواحة للدولة وتمتع السكان بريعها المالي. وشرح بالقول “في سنة 2016 تقرر سحب ملف جمنة من وزارة أملاك الدولة، وكلف به آنذاك سمير الطيب وزير الفلاحة، الذي أرسل وثيقة رسمية في أكتوبر 2017 تبين أن الجمعية هي التي تشرف على الضيعة وتتصرف في المال”. وتابع “اقترح علينا حلا يتمثل في تكوين وحدة تعاضدية للإنتاج لكن ذلك يتطلب مراجعة القوانين، لذلك عين مكتب دراسات لكن لم ينجز الشيء الكثير”.

وأعقاب تشكيل حكومة إلياس الفخفاخ في فبراير2020، وقع إقرار قانون الاقتصاد الاجتماعي التضامني، الذي مُرّر في وقت سابق من هذا العام، وكان بمثابة بادرة أمل لسكان جمنة، حيث سيمكنهم من أن تكون أول جهة تسترجع أراضي من الدولة بعد التوصل إلى اتفاق لإبقاء الواحة في أيدي سكانها.

ويهدف القانون، الذي تمت المصادقة عليه في يونيو الماضي، إلى وضع أول إطار تشريعي في تونس ينظم الاقتصاد الاجتماعي والتضامني، والذي يمكن أن يساهم في خلق مواطن شغل ويدفع بالنمو الاقتصادي. كما من شأنه أن يمنح السكان حق الوصول القانوني إلى الأراضي المملوكة للدولة دون نقل الملكية.

ويقول الطاهري “لقد اتفقنا مع الحكومة على حل يتمثل في تفعيل القانون عدد 21 لسنة 1995 في فصله 14 القاضي بكراء الضيعة للجمعية”. مستدركا “للأسف سقطت حكومة الفخفاخ وبقينا في التسلل”.

وأعرب عن أسفه عن تعطل المسار التفاوضي بخصوص الوضعية القانونية لواحة جمنة، قائلا “نحن نؤمن باستمرارية الدولة ولكن يبدو أننا واهمون”. وأوضح “أن سكان جمنة في انتظار حسم نهائي”. وأضاف “نحن في حال كراء الواحة للجمعية في انتظار حل مرضي يضمن بقاء ريع الضيعة كما هو الحال في مصلحة أهالي الجهة”.

أثبتت تجربة الاقتصاد التضامني نجاعتها في جمنة، فعلى الرغم من الانخفاض الأخير في أسعار التمر بسبب الأزمة الصحية العالمية التي ضربت تونس أيضا، ازدهرت الواحة، واستطاعت أن توفّر أكثر من 100 وظيفة مع استثمار الأرباح في مرافق الصحة والتعليم. ومن شأن نجاح النموذج التنموي في جمنة أن يحفز مدنا داخلية تعاني التهميش وتندد بغياب العدالة في توزيع الثروات، في استرجاع أراض متنازع عليها ولو بالقوة.

وأكد وزير أملاك الدولة والشؤون العقارية السابق غازي الشواشي في تصريحات صحافية، أن جمنة كانت حالة “استثنائية” بفضل نجاح نموذج العمل الاجتماعي الذي اتبعته. وتابع “هذا هو سبب دعمنا لها رغم أنها أرض دولة”.

وقبل استرجاع الواحة من قبل سكانها، كانت توظف 20 شخصا من المنطقة، لكنها توفر اليوم 162 وظيفة.

وتقرر جمعية حماية واحات جمنة كيفية إنفاق أرباح الشركة بالتشاور مع السكان المحليين. وموّلت حتى الآن العديد من المشاريع بما في ذلك سقف جديد في سوق التمور بالجملة وسيارة إسعاف. كما يتم تقديم المساعدة المالية للشباب من المدينة الذين يرغبون في مواصلة الدراسة في الجامعة.

لكن التغيير الحكومي الأخير، الذي قاد إلى استقالة حكومة إلياس الفخفاخ وما نجم عنه من اضطراب في المشهد السياسي، قاد إلى تأخير تنفيذ تشريعات الاقتصاد الاجتماعي وصفقة استخدام الأراضي التي أبرمتها جمنة مع الدولة.

ويصمم الطاهري على أحقية سكان جمنة بملكية الواحة رغم تعثر الوصول إلى تسوية نهائية مع الدولة. وأعرب بالقول “المهم هو ألا يضع أحد باستثناء أبناء جمنة أقدامه في واحتها”. وزاد بالقول “لن يضع مستثمر أقدامه في أرضنا وهذه قناعة لدينا لن نتنازل عن حقنا. وعلى رغم عودة المستثمر السابق لضيعة مجاورة في بلدة زعفران. يؤكد الطاهري أنه “في جمنة لم ولن يتجرأ أي مستثمر في العودة إليها”.

مع إقرار قانون الاقتصاد التضامني، حاولت جمعيات أخرى التواصل مع الطاهري لمعرفة ما إذا كان بإمكانها محاكاة نموذج جمنة في مدنهم.

وأوضح علي رتيمة، وهو ناشط محلي في بلدة زعفران القريبة، إن الشباب استرجعوا واحة تبلغ مساحتها 120 هكتارا (300 فدان) على أراض زعموا أنها لأسلافهم. لكنهم أُجبروا على الخروج منها في 2017. وألقى رتيمة اللوم على انعدام التضامن وسوء التنظيم. كما سعت مجموعة من موظفي شركة ستيل السابقين إلى الوصول إلى جزء من الأرض، لكن نداءاتهم إلى الوالي لم تلق آذانا صاغية.

وأعادت الدولة الواحة منذ ذلك الحين إلى مستأجرها السابق، وهو رجل أعمال ثري، فيما مثّل ضربة لسكان الجهة، وهوما ينبئ حسب متابعين باندلاع فتيل نزاع عقاري في الفترات المقبلة تحت شعار “استرجاع الأرض”.

ويتوجس المتابعون من أن يثير النزاع العقاري موجة جديدة من العنف القبلي أو ما يسمى “بالعروشية”، على شاكلة ما حصل مؤخرا بالجنوب التونسي.

وتوقع مصطفى عبدالكبير الناشط الحقوقي في حديثه لـ”العرب”، “وقوع مشكلات مماثلة لما وقع مؤخرا، في حال لم يقع الاستباق والبت سريعا في كل الإشكاليات القائمة والتصدي للفوضى”.

ورأى أن “ضعف الدولة وتدهور الوضع الاقتصادي بالبلاد جعلا من كل الكيانات الاجتماعيات سواء كانت أفرادا أو مجموعات تبحث عن ورقة تحول حالها من حالة ضعف ووهن إلى حالة قوة.. فاهتدت إلى السيطرة على مصادر القوة الموجودة طبيعيا بجهتها”.

وخلص عبدالكبير بالقول “مشكلات الأراضي الاشتراكية سكين ذو حدين والدولة عليها مجاراة واقع الحال وبسط نفوذها وتنظيم التصرف فيها بين الجماعات والأفراد”.

العرب