للمرة الثالثة يتم تكليف رئيس مجلس وزراء جديد، لتشكيل حكومة بديلة لحكومة رئيس مجلس الوزراء المستقيل عادل عبد المهدي (استقالت حكومته بتاريخ 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019)، وذلك بعد أن اضطُرّ المكلفان السابقان إلى الاعتذار عن تشكيل الحكومة تحت ضغط القوى السياسية «الشيعية» الرافضة لهما.
لكن ما كان لافتا في كتاب اعتذار السيد عدنان الزرفي عن الاستمرار بالتكليف؛ قوله إن سبب الاعتذار «مرده إلى الحفاظ على وحدة العراق ومصالحه العليا»، وأن عدم نجاح التكليف كان «لأسباب داخلية وخارجية»! ورغم أنه لم يسم هذه الجهات «الخارجية»، لكن من الواضح أنه يشير إلى إيران، وهذا ثاني اعتراف موثق عن دور إيران الجوهري والحاسم في مسألة تمرير أي مرشح لرئاسة مجلس وزراء في العراق، بعد الاعتراف الأول للسيد مقتدى الصدر الذي أعلنه في مدونته «الهدف النبيل من زيارة أربيل»!
منذ تكليف السيد عادل عبد المهدي بتشكيل الحكومة في أكتوبر 2018، ووصولا إلى تكليف السيد مصطفى الكاظمي يوم أمس، شهدنا سلسلة من الانتهاكات الدستورية، التي تم السكوت عنها، في سياق تواطؤ جماعي فريد واستثنائي، يطيح بمنطق الدولة، ويعكس أزمة النظام السياسي في العراق، قبل أن يعكس أزمة تشكيل الحكومة نفسها! وإذا ما شهدنا كسرا لهذا التواطؤ الجماعي هنا أو هناك، فهو نتاج صراع شخصي أكثر منه التزاما ودفاعا عن منطق الدولة (كما في حالة الصراع اليوم بين رئيسي المحكمة الاتحادية ومجلس القضاء الأعلى)!
لقد كُلف السيد عادل عبد المهدي برئاسة الحكومة بعيدا عن شرط «الكتلة الأكثر عددا» الذي فرضه الدستور، ودون الالتزام بما قررته المحكمة الاتحادية (وقراراتها باتة وملزمة للسلطات كافة كما اخبرنا الدستور) في قرارها الإشكالي حول تفسير المادة 76 من الدستور! وشاركت رئاسات سلطات الدولة كافة في «حفل» التكليف، ولم ينزعج أحد للانتهاك الذي يجري أمام أعينهم. ثم قدم السيد عادل عبد المهدي استقالة حكومته بكتاب أرسله إلى مجلس النواب للتصويت عليه، غير مكترث لما قرره النظام الداخلي لمجلس الوزراء رقم 2 لسنة 2019، الذي وضعته حكومته نفسها، الذي قرر في المادة 18/ أولا بأن يقدم رئيس مجلس الوزراء «طلب إعفاءه من منصبه إلى رئيس الجمهورية»!
المكلف الثالث يمثل العودة المنطقية إلى «اللعبة المزدوجة» التي تتيح للإيرانيين والأمريكيين «الشراكة» بإدارة اللعبة التي اسمها «العراق» من دون خسائر للطرفين، وهو ما يعني في النهاية بقاء وضع اللادولة القائم
وقد تسلم مجلس النواب العراقي بكل أريحية طلب الاستقالة، وصوت عليها، ولم يعترض أحد من القائمين على المؤسسة التشريعية في العراق على هذا الخرق! ثم دخل تكليف رئيس مجلس الوزراء اللاحق في دائرة مفرغة أخرى ؛ فقد «اجتهد» رئيس الجمهورية بان لا يكلف مرشح الكتلة الأكثر عددا كما يقرر الدستور، لعلمه بعدم وجود كتلة أكثر عددا متفق عليها من الأصل! و «اجتهد» أيضا بأن يكلف رئيسا لمجلس الوزراء لا يعرف أحد حتى هذه اللحظة من رشحه بشكل رسمي! ويخبرنا رئيس الجمهورية «رواية»، مختلفة عن «رواية» رئيس مجلس الوزراء المكلف/ والتي بدورها تختلف تماما عن «الرواية» الحقيقية خلف هذا الترشيح! بعد اعتذار المكلف الأول، دخلنا في حلقة مفرغة ثانية حين انتظر رئيس الجمهورية خمسة عشر يوما، وهي المهلة التي اشترطها الدستور لتكليف رئيس جديد لمجلس الوزراء، ليقدم «استفسارا» في اليوم الأخير من هذه المهلة إلى المحكمة الاتحادية (اعتذر المكلف محمد توفيق علاوي بتاريخ 1 أذار/ مارس وتم ارسال كتاب الاستفسار بتاريخ 16 آذار/ مارس، التي أصدرت قرارا في اليوم نفسه! قررت فيه أن «المرحلة التي تلت اعتذار المكلف بتشكيل مجلس الوزراء وفق المادة 76 من الدستور، يكون بعدها الخيار حصريا لرئيس الجمهورية» (القرار 29/ اتحادية/ 2020)، ومفردة «حصري» تعني لغويا وقانونيا أنه حق محصور بواحد لا غير، وهو ما استند اليه رئيس الجمهورية في تكليفه السيد عدنان الزرفي. وبعد اعتذار الأخير، وجدنا رئيس الجمهوري ينتهك أيضا قرار المحكمة الاتحادية هذا ويصدر مرسوما جمهوريا بتكليف السيد مصطفى الكاظمي بناء على «ترشيح الكتل النيابية المرفقة طيا» دون أي اعتبار لقرار المحكمة الاتحادية، والمفارقة هنا أن رئيس المحكمة الاتحادية كان حاضرا في لحظة التكليف ليشهد على انتهاك قرار محكمته والضرب به عرض الحائط!
في موازاة ذلك كله، ظلت الحكومة العراقية المستقيلة، والتي يصفها الدستور بأنها «حكومة تصريف أمور يومية»، تمارس صلاحياتها ومهامها كاملة، غير عابئة لمقولة تصريف الاعمال/ تصريف الأمور اليومية ومعناها القانوني، ودون أي التزام بما ورد في النظام الداخلي لمجلس الوزراء الذي قرر أن المقصود بتصريف الأمر اليومية هو «اتخاذ القرارات والإجراءات غير القابلة للتأجيل» (المادة 42/ ثانيا)، فمراجعة للقرارات التي أصدرها مجلس الوزراء، وأصدرها الوزراء المستقيلون الذين تصرفوا مع وزاراتهم كإقطاعيات حقيقية خلال هذه المرحلة، تكشف هذه الحقيقة بوضوح، والملفت أن لا احد من رعاة العملية السياسية وحاميها اعترض على ذلك!
بعيدا عن السياق الدستوري والقانوني، التي تتواطأ سلطات ومؤسسة الدولة العراقية كافة على عدم الاعتراف به، والاستهزاء بمواده! كان السياق السياسي ملهاة حقيقية؛ فقد رفض الفاعلون السياسيون المكلف الأول، لأنه أصر على تشكيل حكومة «موظفين» مستقلين، ما يعني عدم توزيع الحقائب الوزارية على الفاعلين السياسيين إذ تشكل الوزارات موردا رئيسيا لهؤلاء الفاعلين، ماليا عبر صفقات الفساد، وسياسيا عبر استخدامها لزيادة النفوذ السياسي، ولم ينجح الداعمون له في حشد اغلبية برلمانية قادرة على تحقيق نصاب جلسة مجلس النواب لتمريره، وهو ما جعل الجميع على قناعة تامة بأن الأعراف المتعلقة بتشكيل الحكومة غير قابلة للاختراق على المدى المنظور! أما المكلف الثاني، فقد ووجه بحملة غير مسبوقة، أصرت على عدم «شرعية» تكليفه، من دون ان تكون الشرعية هنا مرتبطة بالسياق الدستوري او القانوني، بل بشرعية مختلفة تماما، تتعلق بالحق الحصري للفاعلين السياسيين الشيعة بترشيح المكلف لمنصب رئيس مجلس الوزراء، وأن أي انتهاك لهذا الامتياز الحصري، حتى لو كان بقرار من المحكمة الاتحادية بات وملزم للسلطات كافة، او بمرسوم جمهوري، لا يمكن القبول به من الناحية السياسية!
ومع التكليفات الثلاثة، بدا الفاعلان الإيراني والأمريكي حاضرين بقوة، دون أن ينجح أي منهما في التحكم بالمشهد ككل. فالإيرانيون الذين كانوا داعمين للمكلف الأول عجزوا عن فرضه شيعيا في النهاية، تماما كما عجز الأمريكيون عن فرض المكلف الثاني كرديا وسنيا، ويبدو ان المكلف الثالث يمثل العودة المنطقية إلى «اللعبة المزدوجة» التي تتيح للإيرانيين والأمريكيين «الشراكة» بإدارة اللعبة التي اسمها «العراق» من دون خسائر للطرفين، وهو ما يعني في النهاية بقاء وضع اللادولة القائم، الذي تكرس مع عادل عبد المهدي، على ما هو عليه، من دون أي وهم بأدنى تغيير!
يحيى الكبيسي
القدس العربي