باريس- تواجه المنظمات الإنسانية غير الحكومية في أفريقيا مهمة مستحيلة تقريبا في تأمين مساعدة الملايين من الناس في مناطق النزاع أو تلك التي تشكل بؤرا للتوتر جراء العمليات العسكرية ضد المتطرفين. ورغم ذلك، يبقى عملها في غالب الأحيان ثانويا في سياق سياسة أمنية بامتياز، وهو ما يظهر بوضوح في منطقة الساحل.
ولا يعد الساحل منطقة نزاعات ومجموعات مسلحة وعمليات لمكافحة الجهاديين فحسب، بل هو قبل أي شيء إحدى أفقر المناطق في العالم، إذ يعيش نصف سكانه بأقل من 1.25 دولار يوميا وتسجل دوله مؤشرات تنمية من الأدنى في العالم.
وتعمل المئات من المنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية منذ فترة طويلة في الساحل حيث اكتسبت معرفة دقيقة بالوضع الميداني والتحديات والرهانات المحلية. لكن مع اندلاع النزاع في مالي 2012 وانتشار أعمال العنف في الدول المجاورة، تبقى الأضواء مسلطة بشكل أساسي على العمليات العسكرية التي تقوم بها قوة “برخان” الفرنسية وجيوش إقليمية.
لا تزال مشاريع إنمائية متواصلة بالرغم من انعدام الأمن والآليات البيروقراطية الطويلة في غالب الأحيان
ومع ذلك، يؤكد فريديريك دو سان سيرنان المدير العام المنتدب لمنظمة أكتيد التي خسرت في أغسطس الماضي، ستة من عامليها الفرنسيين الشبان في عملية نفذها مسلحون على دراجات نارية في النيجر، أن “للمنظمات غير الحكومية كلمتها”.
وتابع “نطبق برامج شديدة الصعوبة في مناطق لا وجود فيها لأي كان، و90 في المئة من موظفينا محليون… ولا أحد يسألنا رأينا. يستشيرون عسكريين ودبلوماسيين وشرطيين، ولا يستشيرون طواقم إنسانية”.
ومن المستبعد أن تتناول مجموعة دول الساحل الخمس المكونة من موريتانيا وبوركينا فاسو ومالي والنيجر وتشاد، وأيضا فرنسا، التي تعقد قمة اعتبارا من الاثنين في نجامينا لعرض الوضع الأمني والسياسي في تلك المنطقة، النقطة التي ترى المنظمات أنها ضرورية.
وتنشط المنظمات غير الحكومية في ظل ظروف تزداد تدهورا، بين الهجمات الجهادية والتوتر بين مختلف المجموعات والصراع من أجل الوصول إلى الموارد وغياب سلطة الدول.
ويوضح المدير المساعد لعمليات منظمة أطباء بلا حدود بيار مانديارات أنه خارج المدن الكبرى التي تسيطر عليها الحكومات، فإن الوضع في الأرياف في غاية التعقيد. إنها مناطق رمادية، لا يديرها المتمردون فعليا. وقال “إننا مرغمون على التفاوض بشكل متواصل بشأن وجودنا والقيام بعمل صعب لإقامة شبكات بسبب تبدل السيطرة على المناطق باستمرار”.
وتكمن الصعوبة أمام المنظمات غير الحكومية في إيجاد مساحة لها بين أعداد المجموعات المسلحة التي تتنازع السيطرة على المناطق، بين جماعات جهادية وميليشيات دفاع ذاتي وقوات حكومية تتهم بانتظام بارتكاب تجاوزات. كما أن المنظمات تخضع لضغوط الحكومات التي تتهمها أحيانا بـ”التواطؤ” مع بعض المجموعات المسلحة.
ويتوقف أمن فرق منظمة أطباء بلا حدود، بحسب مانديارات، على المصلحة التي تراها الأطراف المتنازعة في حضورها ويقول إن الحياد وعدم الانحياز، مبادئ لا يكترث لها المتحاربون.
ويثير تصاعد التوتر بين المجموعات ولاسيما في مالي قلق منظمة أطباء بلا حدود التي تعرضت مراكزها الصحية خلال العام 2020 لخمس أو ست عمليات اقتحام نفذها “مسلحون جاؤوا يبحثون عن جرحى لا نراهم مجددا بعد ذلك”، كما أن إحدى سيارات الإسعاف التابعة لها أوقفت مؤخرا في وسط البلاد ما تسبب بوفاة مصاب.
ويتم كذلك استهداف المنظمات غير الحكومية بمجموعة واسعة من العمليات تتراوح بين سرقة معدات وهجمات وعمليات خطف وصولا إلى قتل عناصر.
وفي العام الماضي وحده، أحصت منظمة إنسو غير الحكومية المتخصصة في الأمن الإنساني 54 حادثا في بوركينا فاسو، اثنان منها أوقعا قتلى، و30 عملية خطف. وتطال هذه الأحداث بغالبيتها العظمى موظفين محليين، وهم الوحيدون الذين ما زال بوسعهم الانتشار خارج العواصم.
وتقول ميريلا حديب المسؤولة في اللجنة الدولية للصليب الأحمر في مالي، التي تعرضت اثنتان من آلياتها لهجمات في سبتمبر الماضي، إن “السكان هم الذين يتحملون عواقب هذه الهجمات في نهاية الأمر فالهجمات تؤخر كثيرا المساعدات والرعاية الصحية ، وصولا إلى تعليقها”.
وفي ظل هذه الظروف، تسجل المنظمات غير الحكومية “انتصارات صغرى” كما يصف ذلك ملاحظون مثل الوصول إلى مدينة بقيت أسابيع مقطوعة عن العالم، أو إمكان توفير العلاجات الصحية لعدة أيام على التوالي دون عراقيل.
تعمل المئات من المنظمات غير الحكومية الدولية والمحلية منذ فترة طويلة في الساحل حيث اكتسبت معرفة دقيقة بالوضع الميداني والتحديات والرهانات المحلية
ولا تزال مشاريع إنمائية متواصلة بالرغم من انعدام الأمن والآليات البيروقراطية الطويلة في غالب الأحيان. هكذا تمكن “تحالف الساحل” الذي يضم 13 بلدا وجهة ممّولة، منذ 2017 من إطلاق أكثر من 800 مشروع، وهو يعلن نتائج ملموسة، ولاسيما تلقيح أكثر من ثلاثة ملايين طفل ومد الكهرباء لـ550 ألف شخص وإيصال مياه الشرب لنحو 5.6 مليون شخص.
ويؤكد جان برتران موتس من وكالة التنمية الفرنسية التي تنشط بشكل أولي في المناطق الأكثر فقرا بالشراكة مع المنظمات غير الحكومية المحلية، أن منطقة الساحل لم يكن فيها أي جهة ممولة عمليا قبل خمس سنوات واليوم، تضم باماكو وواغادوغو ونيامي نسيجا مؤسساتيا قويا ولاسيما بفضل مصارف التنمية.
لكن العديد من المراقبين يرون أن هذه النجاحات لن تكون ذات قيمة دون عودة سلطة الدولة إلى المناطق وإرساء علاقات ثقة مع السكان المحليين.
العرب