يدور في مصر الآن جدل نووي ربما تخفيه سخونة الأحداث لكنه جدل حقيقي يتصل بواحدة من أهم قضايا الحاضر والمستقبل في مصر بل في الوطن العربي ككل، وليس موضوع هذا الجدل الاتفاق الأخير بين إيران والقوى الغربية وإنما يدور حول البرنامج النووي المصري. وموضع هذا الجدل ما بدا من أن هذا البرنامج لا يمثل بعد كلمة سواء في أوساط النخبة المصرية، ويمكن أن يرد هذا البرنامج إلى أربعينيات القرن الماضي حين ألف عالم مصر الفذ علي مصطفى مشرفة في 1945 كتاباً بعنوان «الذرة والقنابل الذرية» ودعا الحكومة المصرية إلى البحث في المجال الذري وتصنيع القنبلة الذرية لا كي تستخدمها وإنما لتحفظ بها توازن القوى في المنطقة. غير أن دعوته هذه لم تلق أدنى اهتمام إلى أن قامت ثورة يوليو 1952 بعد وفاته بسنتين وشكلت في 1955 لجنة للطاقة الذرية واجهت عدداً من الصعوبات إلى أن وقعت هزيمة 1967 التي لم يكن البرنامج النووي المصري وحده ضحيتها. وفيما بعد تكفلت الضغوط الأميركية على الرئيس أنور السادات بعد التطورات الإيجابية التي لحقت علاقته بها ثم حادثة تشرنوبل الشهيرة في 1986 باستمرار التوقف عن اتخاذ أية خطوة عملية في تنفيذ البرنامج، وإن كانت الإشارة قد بدأت إلى التفكير في استئنافه في السنة الأخيرة من حكم الرئيس مبارك. ومع قيام ثورة يناير 2011 برز الطموح النووي المصري من جديد ولكن اختلال الأمن في أعقابها مثل عقبة جديدة أمام هذا البرنامج وخاصة وقد استولى أهالي المنطقة التي حدد فيها الموقع المختار للمحطة النووية على الأرض المخصصة لإقامتها. وبعد استتباب الأمور وتمكن القوات المسلحة المصرية من استعادة الأرض عاد الحلم النووي خاصة وقد كان واضحاً أن التطورات الإيجابية في العلاقات المصرية- الروسية قد شملت الاستعداد الروسي لإنشاء المحطة.
ولكن للبرنامج النووي المصري خصومه، وعلى رغم أن بعضهم لم يكن حسن النية في خصومته فإن البعض الآخر بدوافع وطنية وموضوعية، وقد نشر الكاتب والأديب محمد المخزنجي مؤخراً مقالتين في صحيفة «المصري اليوم» وصف الحلم النووي في أولاهما بالكابوس لعدة اعتبارات يمكن تلخيصها في الارتهان لاستيراد الوقود النووي والتخلص من النفايات وارتفاع سعر الكهرباء المولدة من المحطات النووية مقارناً بغيرها من المصادر، وركز على تكاليف تفكيك المفاعلات النووية عند تقاعدها وأعباء هذا التفكيك ومخاطره وأن هذه العملية تنوء بأعبائها دول كبرى أغنى من مصر وأكثر تقدماً علمياً وتقنياً. وانتهى إلى أن تلك المفاعلات في حالتنا الاقتصادية والأمنية نوع من المقامرة يسدد خسائرها الأكيدة أولادنا وأحفادنا! ومن الواضح أنه لم يكن في نية الكاتب أن يكتب مقالته الثانية غير أن إرادة الله سبحانه وتعالى شاءت أن يضرب زلزال قوته 4,4 على مقياس «ريختر» مدينة مرسى مطروح التي يقع الموقع المختار لإنشاء المحطة النووية فيها يوم نشر مقالته فكتب في الأسبوع التالي معززاً مخاوفه بالتأكيد على أن المحطة المزمع إنشاؤها تقع في منطقة زلازل قوية قطرها 150 كلم مما يزيد المخاطر. ودفع اكتشاف الغاز الأخير في المنطقة الاقتصادية المصرية في مياه المتوسط البعض إلى التساؤل عما إذا كان إنشاء المحطة يبقى ملحاً بعد هذا الاكتشاف. وقد رد خبراء نوويون على الحجج السابقة بحجج مضادة منها أنه من غير الصحيح أن سعر الكهرباء المولدة بالطاقة النووية أعلى منه بالنسبة للمصادر الأخرى، وأن ثمة مبالغة في التخويف من الكوارث النووية وأثرها بدليل أن أوكرانيا نفسها لم تتوقف عن بناء المحطات النووية، وأن نوع المفاعل الذي تنوي مصر إقامته مغاير لمفاعل تشرنوبل، ناهيك عن اعتبارات الأمن القومي والتوازن الإقليمي.
وعادة ما نختلف في السياسة في الأفكار والتوجهات ولكن من غير المقبول أن نختلف في الأمور العلمية وخاصة أن موضوع الطاقة النووية استراتيجي بامتياز سواء من منظور التنمية أو الأمن القومي، ولذلك فإن حواراً علمياً جاداً مطلوب بشدة ليس في مصر وحدها وإنما باتساع الوطن العربي كله.
د.أحمد يوسف أحمد
صحيفة الاتحاد الإماراتية