الناظر إلى خارطة العالم اليوم ستلفت انتباهه شبكات أنابيب تمتدّ لتشبه العروق في الجسم. بعضها يتركّز بكثافة في منطقة محددة، وبعضها الآخر يترامى بحرية أكبر هنا وهناك، فوق سطح الأرض وفي أعماق البحار. في مناطق تظهر أنابيب مكتملة تضجّ حركة، وفي أخرى تبدو عمليات البناء ما زالت مستمرة. هذه الشبكة هي خارطة طريق الغاز.
شيخوخة الآبار النفطية وتراجع مخزون النفط العالمي وتذبذب أسعار النفط والخلافات داخل أوبك والتوجه أكثر نحو الطاقة النظيفة، ومستجدات أخرى صاعدة، كلها أسباب تجعل الحظ يبتسم للغاز.
لعبة الحرب والسلام
النفط سبب في الحروب والصراعات مثلما هو سبب في تطور الصناعة والحضارة البشرية. الغاز الآن يسير في طريق مشابه، لكن لم يصل بعد إلى مرحلة السيطرة، ومن الصعب أن يكتسح السوق كطاقة لا منافس لها مثلما هو الحال مع النفط.
غير أن ذلك لا ينفي أن الغاز صار بيدقا هامّا في لعبة الحرب والسلام، وعاملا من عوامل نشوب صراعات استراتيجية تدور حول عمليات استكشافه وممراته الحيوية وخطوط نقله.
بات الغاز اليوم ورقة تحدّد سياسات دول وتفرض توجّهات أخرى. يمكن الاستدلال على ذلك من خلال ملفين رئيسيين يطرحان حاليا عند الحديث عن الأبعاد الاستراتيجية للغاز، مشروع نورد ستريم2 أو “السيل الشمالي” الروسي بتفرّعاته، والغاز في شرق المتوسط وما تشهده تلك المنطقة من تبدّلات وتوتّرات.
الغاز الآن يسير في طريق مشابه لطريق النفط متسبباً باحتمال اندلاع الحروب والصراعات. مع أنه من الصعب أن يكتسح السوق كطاقة لا منافس لها مثلما هو الحال مع النفط
عند الحديث عن الغاز كجوكر هام في لعبة السياسة والعلاقات الاستراتيجية يبرز كمثال رئيسي الغاز الروسي الذي يضع السياسات الأوروبية على طرفي نقيض، لجهة اندلاع الخلافات الدائمة مع موسكو، ولجهة الاعتماد الأوروبي الكبير عليه. لذلك يقال إنه إذا غضب الرئيس فلاديمير بوتين فإن أوروبا ستشعر بالبرد على الفور.
بعد جدل طويل، اتفق وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي، الأسبوع الماضي، على فرض عقوبات على مسؤولين روس على خلفية قمع المعارض الروسي أليكسي نافالني وأنصاره. وصف هذا القرار بأنه “عقوبات الحد الأدنى” نظرا إلى تباين وجهات النظر الأوروبية حول “معاقبة” روسيا.
وكانت فرنسا دعت إلى التخلي عن مشروع خط أنبوب غاز نورد ستريم2، لكن ألمانيا ردّت رافضة بشكل قاطع أي خطوة تضرّ بهذا المشروع المصيري بالنسبة إليها. مثلما عارضت في ديسمبر 2018 تصويت الأغلبية في البرلمان الأوروبي على دعوة إلى إلغاء مشروع نورد ستريم2 باعتباره “مشروعا سياسيا يمثل تهديدا لأمن الطاقة الأوروبي”.
وبينما يبقى القرار الأوروبي بشأن نورد ستريم2 محل أخذ وردّ، تحركت واشنطن في ديسمبر 2019 بفرض عقوبات على أي شركة تساعد شركة غازبروم في مد خط الأنابيب أو تأمين السفن أو التحقق من المعدات. دفعت العقوبات الروس إلى توقيف العمل لحوالي سنة، ليستأنف في ديسمبر 2020. اكتمل المشروع بنسبة 90 في المئة ولم يتبق سوى حوالي 100 كيلومتر في المياه العميقة قبالة ساحل الدنمارك.
لم يتوقف سيل العقوبات الأميركية. ومع الإصرار الروسي على استكمال مشروع السيل الشمالي، بدأ مجلس الشيوخ الأميركي عام 2021 بتوجيه ضربة أخرى من خلال تمرير قانون تفويض الدفاع الوطني والذي يتضمن تشديد العقوبات على مشاريع الغاز الروسية.
ويبدو أن نورد ستريم2 من بين الملفات القليلة التي يلتقي فيها الرئيس الديمقراطي جو بايدن مع سلفه الجمهوري دونالد ترامب. وقد وصف بايدن نورد ستريم2 بأنه “أسوأ صفقة أوروبية”، وقال إنه “يقوي روسيا ويضعف نفوذ دول مثل أوكرانيا”.
من المؤكد أن أوروبا تريد فطام نفسها عن الغاز الروسي لكن حاجتها إلى الغاز تتصاعد، وهي لا ترى في الوقت الراهن بديلا يضمن لها ذلك، بينما تمسك روسيا جيّدا بورقتها الرابحة.
أوروبا، القلقة والغاضبة من الكرملين، مضطرة إلى التعاون مع روسيا خاصة مع توقّف حقول الغاز في بحر الشمال، وانقطاع صادرات ليبيا، وتراجع كمية الغاز القادم من الجزائر، وغياب بدائل أميركية ناجعة من حيث التكلفة والبنية التحتية التي يمكن أن تنافس أو تعوّض، جغرافيا وماديا، البنية التحتية الروسية.
فتحت غازبروم مسارات نحو الضفة الأخرى من العالم، وتحديدا نحو الصين، التي تتضاعف حاجتها للغاز، وتشكل هي الأخرى مصدر جذب لجهات عالمية منتجة للغاز مختلفة. ويتنافس المصدرون الرئيسيون للغاز مثل أستراليا وقطر والولايات المتحدة للحصول على حصة جيدة في سوق الغاز الصيني. وتحرص تركمانستان وأوزبكستان وكازاخستان أيضا على رفع حصتها من الغاز الذي تبيعه للصين.
قلق السيل التركي
أيضا، من أبرز مشاريع خطوط أنابيب الغاز الروسية الكبرى الأخرى ترك ستريم أو “السيل التركي”. وهو خط أنابيب لتصدير الغاز من روسيا عبر أنابيب ناقلة تمر من البحر الأسود إلى تركيا وجنوب شرق أوروبا.
تأثر هذا المشروع في بدايته بتوتر العلاقة بين موسكو وأنقرة بعد إسقاط الطائرة الروسية في نوفمبر 2015، حيث أعلنت موسكو تعليق المشروع، ليتم استئناف العمل به مع عودة العلاقات وتم الانتهاء منه في 2018.
وتواجه تركيا معضلة انتهاء العقود طويلة الأجل مع أبرز موردي الغاز الحاليين؛ أذربيجان عبر خط باكو – تبليسي – أرضروم، وروسيا عبر خطوط التيار الأزرق وخط عبر البلقان، وإيران عبر طريق تبريز – دوغوبايازيت.
لكن ذلك لا يلغي الرغبة التركية في التحرر من القبضة الروسية، خاصة وأن أنقرة جرّبت التكلفة الاقتصادية للغضب الروسي.
لم تعد تركيا تكتفي بأن تكون منطقة عبور للغاز، والأكثر من ذلك هي تسعى إلى استغلال الظروف الاستراتيجية التي دفعتها إلى التخلي عن سياسة صفر مشاكل مع الخارج إلى اتباع سياسة اندفاعية مكلفة لكن ضمنت بعضا من المصالح خصوصا في البلدان التي صعد فيها الإسلاميون إلى الحكم، والاتفاق الموقع مع حكومة الوفاق في ليبيا في 2019 أبرز مثال.
لهيب شرق المتوسط
منتدى شرق المتوسط يتخذ مع الوقت وزنا دوليا هاما بعد أن تأسس في 2019 وضم في بدايته مصر، اليونان، إسرائيل، الأردن، فلسطين، قبرص، وإيطاليا، وتم منح الولايات المتحدة عضوية مراقب دائم، كما اقترحت فرنسا الانضمام كعضو، ومؤخرا انضمت الإمارات التي تملك احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي كعضو مراقب
تبدو منطقة شرق البحر المتوسط اليوم قلب العالم المتفجّر. وفيها يمكن أن تلتقي نظريتا هالفورد ماكندر عن الـ”هارت لاند” أو “قلب العالم” بالعربية، ومنتقده نيكولاس سبيكمان ونظريته المضادة “ريملاند” أو “إطار الأرض”. واعتبر ماكندر القارات قارة واحدة وسمّاها “جزيرة العالم”، ورأى أن من يسيطر على هذه الجزيرة يسيطر على العالم كلّه. وظهرت نظريته في بداية القرن الثامن عشر، وارتبطت بالتوسع البريطاني والسعي إلى مواجهة تمدّد الإمبراطورية الروسية.
وفي المقابل، ترسم الـ”ريملاند” خارطة تشمل كل أوروبا باستثناء روسيا والجزيرة العربية والشرق الأوسط وآسيا، وتحديدا الصين وشرق سيبيريا. وقد وصف سبيكمان هذه المنطقة بأنها منطقة التقاء وتصادم.
وفي مطلع الألفية أعلنت هيئة المسح الجيولوجي الأميركية عن اكتشافات ضخمة من الغاز. فضرب جنون الغاز هذه المنطقة وتسارعت وتيرة “حرب التنقيب” فيها لترفع معها حدة التوترات السياسية والتهديدات الاستراتجية. وتكونت تحالفات جديدة وولدت تكتلات لا يستهان بها. وأعيد فتح ملفات قديمة وطفت صراعات كامنة على السطح، وسُطّرت خرائط وفتحت ممرات جديدة.
وفي السنوات الأولى كانت الحرب خامدة. وعملت أغلب الشركات والدول المعنية، منها إسرائيل ومصر، بهدوء على تطوير حقولها وعقد الصفقات وجذب الاستثمارات في قطاع الغاز. لكن في السنوات الأخيرة بدأت المياه تضطرب وبدأت ملامح “العسكرة” تظهر في المنطقة.
وانطلقت الصافرة حين أرسلت تركيا سفينة للتنقيب عن الغاز برفقة سفنها العسكرية إلى المياه قبالة ساحل كاستيلوريزو اليوناني.
تركيا، التي لا تتمتع بعلاقات جيّدة مع قبرص واليونان، وتأثرت علاقاتها سلبا بأغلب الدول المتوسطية الأوروبية والعربية، تخشى من أي تغيير في الخارطة السياسية للعالم يمكن أن يؤثر على أفق الغاز المربح وتبحث عن فرصة لـ”تنتقم” من جغرافيتها.
وعلى الرغم من ساحلها على البحر المتوسط، فإن المخارج البحرية لتركيا محاصرة بالعديد من الجزر اليونانية المتاخمة، وحدودها البحرية مقيّدة بجزيرة قبرص. وهنا جاء الحل مع اتفاق ترسيم الحدود البحرية الذي وقعته مع حكومة الوفاق الليبية.
سكب هذا الاتفاق المزيد من الزيت على نار علاقات أنقرة الخارجية المتأزمة، وأرغمت سياسة الاندفاع التركية عددا من دول المنطقة على اتخاذ موقف مماثل، فأقدمت فرنسا على خطوة غير مسبوقة ضد عضو حليف في الناتو، حيث أرسلت فرقاطة بحرية وطائرتين مقاتلتين لـ”ردع أنشطة الغاز التركية في مياه البحر المتوسط”.
كما أعلنت وزارة الدفاع اليونانية أن “قبرص واليونان وفرنسا وإيطاليا اتفقت على نشر وجود مشترك في شرق المتوسط في إطار مبادرة التعاون الرباعية (إس كيو إيه دي)”. ونشرت إيطاليا أيضا قوات عسكرية في شرق المتوسط وكثّفت تدريباتها مع فرنسا واليونان وقبرص.
ويدور جدل بين دول الاتحاد الأوروبي منذ العام الماضي بشأن فرض عقوبات على تركيا بسبب أنشطتها في شرق المتوسط. وينتظر أن يصدر القرار النهائي خلال القمة الأوروبية في مارس المقبل.
ودخلت الولايات المتحدة أيضا المعركة، فهي تسعى إلى مواجهة تحركات تركيا التوسعية في المنطقة، ودعم شركات الطاقة الأميركية العاملة في مياه المتوسط، وتطوير مصادر تصدير غاز جديدة إلى أوروبا لإضعاف قبضة روسيا.
واتخذت واشنطن إجراءات تصعيدية، فقد وافق الكونغرس الأميركي في ديسمبر 2019 على رفع حظر الأسلحة المفروض على قبرص منذ عام 1987، وتم إقرار تحويل المساعدات العسكرية إلى قبرص.
أما سوريا التي لا تنتج الغاز بكميات مؤثرة، فهي منطقة استراتيجية. ويوفر موقعها الجغرافي ممرا للدول التي تبحث عن منفذ يربطها بالبحر المتوسط، مثل إيران والدول التي تريد الوصول إلى أوروبا من دون أن تضطر إلى المـرور عبر تركيا. وقد تردد في هذا السياق حديث عن مشروع مدعوم من واشـــنطن لإنشاء أنبوب لتصدير الغاز القطري إلى أوروبا عبر مدينة حمّص.
وكانت مصر واليونان ردّتا على الاتفاق التركي الليبي بتوقيع اتفاق تاريخي لترسيم الحدود البحرية في القاهرة، يكمل اتفاقا سبق وأن تم توقيعه بين مصر وقبرص لتعيين الحدود البحرية بما يحاصر تركيا ويقلل من الفرص التي كانت تتطلع إليها بشأن مد نفوذها البحري.
في قلب هذه اللعبة تُحرّك إسرائيل أحجارها في كل الاتجاهات على رقعة طريق الطاقة الجديدة. وقد منحتها عضويتها في منتدى شرق المتوسط مساحة هامة. وبدءا من العام 2025، تعتزم إسرائيل نقل الغاز الطبيعي إلى أوروبا، عبر خط الأنابيب “إيست ميد”. ومن المقرر أن يمتد خط الأنابيب من إسرائيل إلى قبرص ومن هناك إلى جزيرة كريت ومن ثم إلى برّ اليونان الرئيسي، وبعدها سيتم نقله إلى إيطاليا عبر خط أنابيب آخر.
تحالفات جديدة
الغاز الروسي يضع السياسات الأوروبية على طرفي نقيض، وبينما تتفجر الخلافات السياسية مع موسكو، يبقى الأوروبيون يقولون إنه إذا غضب بوتين فإن أوروبا ستشعر بالبرد على الفور
اتخذ منتدى شرق المتوسط، الذي تأسس في 2019 وضم في بدايته مصر، اليونان، إسرائيل، الأردن، فلسطين، قبرص، وإيطاليا، وزنا دوليا هامّا بعد منح الولايات المتحدة عضوية مراقب دائم، كما اقترحت فرنسا الانضمام كعضو، ومؤخرا انضمت دولة الإمارات التي تملك احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعي، كعضو مراقب في هذا المنتدى الذي يتحول شيئا فشيئا إلى منظمة دولية للدول المنتجة والمستوردة للغاز ودول العبور بشرق المتوسط.
وفي فبراير الجاري، استضافت أثينا “منتدى فيليا 2021” لبحث التطورات والقضايا الإقليمية في المنطقة وفي منطقة شرق البحر المتوسط. ولم يقتصر هذا المنتدى على الدول المتوسطية، فقد شاركت فيه السعودية والبحرين إلى جانب الإمارات، ومصر واليونان وقبرص وفرنسا. وتجمّع “الصداقة” هذا يشي بشكل واضح كيف أن القصة تتجاوز خطوطا لتصدير الغاز لتكون قضية أمن قومي واستراتيجي.
تحركات كثيرة أوروبية وأميركية وعربية ترسم أشكالا متداخلة لخارطة أمن الطاقة في العالم وتدخل في صلب تحوّلات استراتيجية لا تقتصر فقط على تلك المنطقة الجغرافية فحسب، بل تمتد تفاعلاتها وتأثيراتها إلى مناطق مختلفة من العالم، من الشرق الأوسط إلى القوقاز وآسيا الوسطى، تمتد الخطوط من بحر قزوين إلى المتوسط، وتمتد معها خارطة من الصراعات والتحالفات، تجمع خصوما في طرف وتفرّق بين حلفاء في طرف مقابل، ضمن لعبة السياسة والجغرافيا اللتين غالبا ما تكون الطاقة هي الحبل السري الرابط بينهما.
العرب