إنقاذ الحليف: لماذا تنخرط روسيا عسكريا في الصراع السوري؟

إنقاذ الحليف: لماذا تنخرط روسيا عسكريا في الصراع السوري؟

3898

مع تصاعد الأزمة السورية التي شارفت على نهاية عامها الخامس، وضعف قبضة الرئيس السوري “بشار الأسد” تدريجيًّا على مفاصل الدولة، ولما يُمثله النظام السوري من أهمية استراتيجية لروسيا – أكدت الأخيرة على لسان أكثر من مسئول روسي، وفي مقدمتهم الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، أنها لن تكتفي بمراقبة الوضع، وإنما قد تتدخل لمساعدة “الأسد”. وكانت أبرز المحاولات الروسية لمساعدة نظام “الأسد” وتعزيزه في مواجهة معارضيه داخليًّا وخارجيًّا إرسال تعزيزات وقطع عسكرية روسية إلى قلب الصراع السوري منذ نهاية أغسطس الماضي، فضلا عن رفض روسيا مطالب القوى الغربية عامة والأمريكية خاصة باستخدام نفوذها للضغط على الرئيس “بشار الأسد” للنقاش مع خصومه ومناهضيه من أجل التوصل إلى حل سلمي للأزمة السورية.

وتَحْكُمُ الموقفَ الروسي تجاه الأزمة السورية حساباتٌ سياسية واقتصادية معقدة ومتشابكة. فمنذ ستينيات القرن المنصرم وحتى أوائل التسعينيات، حافظت روسيا على علاقات وثيقة مع “الأسد” الأب، ووقَّعت معه في عام 1980 معاهدة تنص على التشاور في حال وجود تهديد للسلام، وعلى التعاون العسكري. وعلى نهج والده، لا يزال “بشار الأسد” يعتمد على التسليح الروسي، وظل يفعل ذلك بوصفه عميلا تجاريًّا لا شريكًا، ولكنه تحول إلى شريك استراتيجي لموسكو مع تبدل المشهد الإقليمي في المنطقة واندلاع ثورات الربيع العربي، وإصرار الولايات المتحدة الأمريكية وبعض القوى الإقليمية على إسقاطه، وهو الأمر الذي فرض على موسكو الانخراط العسكري مؤخرًا في سوريا في ظل جملة من التطورات الإقليمية والدولية، وهو الأمر الذي يُثير تساؤلات عن أسباب الانخراط العسكري الروسي في سوريا، ومقارباته، وحساباته، وأبعاده المحتملة.

– الانخراط العسكري الروسي في سوريا:

خضع الموقف الروسي من الأزمة السورية في بدايتها للعقيدة الأمنية الروسية الجديدة التي تدعو إلى ضبط استخدام القوة من جانب مجلس الأمن، ورفض تغيير الأنظمة بالقوة من الخارج؛ حيث تنبذ موسكو فكرة التدخل العسكري تفاديًا للوقوع في الوضعين العراقي والليبي، وفي المقابل الدعوة إلى التغيير السلمي والحل السياسي.

ووفقًا للعقيدة الأمنية الروسية الجديدة، لا يجوز استخدام القوة أو التهديد باستخدامها إلا عندما يقرر مجلس الأمن ذلك، وبموافقة كافة أعضاء المجتمع الدولي. وتَعتبر أن الفشل في البحث عن / أو الحصول على تفويض أممي، يجعل التدخل غير مشروع. وتصر موسكو على أن استخدام القوة في العلاقات الدولية يجب ألا يقتصر على الحصول على التفويض اللازم فحسب، بل يجب أن يُشرف عليه ويراقبه عن كثب مجلس الأمن طيلة الفترة التي تستغرقها عملية التدخل العسكري.

وقد عبَّر الرئيس الروسي “بوتين” عن العقيدة الأمنية الجديدة حين قال في تصريحات له على هامش قمة “منظمة معاهدة الأمن الجماعي” التي عُقدت في مدينة سوتشي في (23 سبتمبر 2013) إن “أي تدخل عسكري في سوريا سيكون بمثابة عدوان ينتهك القانون الدولي، ويُزعزع الوضع في المنطقة”. ولهذا تُعارض روسيا -الحليف المقرب من سوريا على الدوام- استخدام القوة ضد النظام السوري.

وفي إطار السعي الروسي إلى الحفاظ على نظام “بشار الأسد” الذي يُعدُّ بقاؤه مصلحة روسية، وفي تحول عن العقيدة الأمنية الروسية التي ترفض التدخل العسكري في الشئون الداخلية للدول – شهدت الأسابيع الفائتة نشاطًا عسكريًّا روسيًّا جديدًا وكبيرًا في سوريا؛ حيث أرسلت موسكو عددًا أكبر من الخبراء والمستشارين العسكريين لسوريا، ورفعت من مستوى ونوعية الانخراط العسكري المباشر في الأزمة السورية لمساعدة قوات نظام “الأسد” على مقاتلة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” و”جبهة النصرة”. وقد تضمن الانخراط العسكري الروسي في سوريا إرسال ضباط رفيعي المستوى، وقيام طيارين روس بشن غارات جوية، فضلا عن وصول مئات الخبراء والمستشارين إلى مطار اللاذقية الساحلية، وتسلمهم إدارة المطار من القوات النظامية.

وفي تطور جديد للتدخل الروسي في سوريا، وجهت موسكو في 12 سبتمبر الجاري مذكرة للسلطات القبرصية طالبت فيها بتحويل مسار الرحلات الجوية العادية، تجنبًا لتعارضها مع مسارات مناورات عسكرية للبحرية الروسية تُجريها قبالة السواحل السورية خلال الفترة المقبلة، وستشمل إطلاق صواريخ.

وتزامنت التعزيزات الروسية مع تصريح وزير الخارجية سيرغي لافروف في مطلع سبتمبر الجاري بأن “الرئيس بشار الأسد رئيس شرعي، والجيش السوري هو القوة الفاعلة الوحيدة على الأرض لمحاربة تنظيم داعش”.

– المقاربة الروسية للانخراط العسكري:

تحاول روسيا -على لسان رئيسها- التقليل من خطورة انخراطها العسكري في سوريا، وأنها ليست بصدد غزو سوريا. ففي 4 سبتمبر الجاري صرح “بوتين” بأنه “ما زال من المبكر جدًّا الحديث عن مشاركة عسكرية روسية في سوريا لمكافحة داعش”. ولكنه أشار في الوقت ذاته إلى استمرار تقديم روسيا معدات عسكرية، وتأهيل القوات السورية التي تسلحها موسكو.

في سياق متصل، أكدت القيادة الروسية أن ثمة صيغًا عدة للتعاون العسكري مع سوريا بموجب معاهدة الصداقة والتعاون الموقعة في عام 1980، ومن بينها: التدريب، والاستشارات العسكرية، ومبيعات السلاح.

وإذا كان الانخراط العسكري الروسي في سوريا ليس بجديد، فإن ما جرى خلال الأيام الماضية يبدو مختلفًا عما حدث من قبل بالنظر إلى توسيع النشاط العسكري الروسي في سوريا، والتعزيزات غير المسبوقة في مناطق الصراع السوري. ويرتبط التغير النوعي في طبيعة الدور الروسي تجاه الأزمة السورية بحسابات أخرى، أهمها:

1- أن أنباء التدخل العسكري الروسي في سوريا تزامنت مع خطة المبعوث الأممي “ستيفان دي ميستورا” التي قدمها إلى مجلس الأمن في 22 أغسطس الماضي، وتضمنت تشكيل هيئة حكم انتقالي بسلطات تنفيذية كاملة بما فيها الجيش والأمن، وتشكيل مجلس عسكري مشترك من النظام والمعارضة، إضافة إلى تشكيل مؤتمر وطني سوري، وإجراء مراجعة دستورية، وانتخابات رئاسية، وبرلمانية، بإشراف الأمم المتحدة.

2- أن التدخل الروسي العسكري يأتي كرد عملي على إصرار واشنطن والرياض وأنقرة على رحيل الأسد، واتضح هذا الخيار بعد الاتفاق على أنه لا مكان للأسد بمستقبل سوريا في قمة “أوباما” والملك “سلمان” في واشنطن في 4 سبتمبر الجاري.

3- أن روسيا باتت تتعامل عسكريًّا مع الأزمة السورية بناءً على مقاربة واضحة هي: التفاهم مع إيران عسكريًّا ومع مصر والأردن سياسيًّا لحل الأزمة السورية، باعتبار هذه الدول من أهم اللاعبين الإقليميين في المنطقة. كما تعتمد روسيا في تدخلها على اتفاقية الدفاع المشترك مع سوريا، والتي يتواجد الروس بموجبها في قاعدة طرطوس.

على صعيد ذي شأن فإن روسيا متمسكة بتنفيذ مخرجات جنيف1 التي أُعلنت في يونيو 2012، وجنيف2 المعلنة في يناير 2014، والتي تؤكد ضرورة حل توافقي بين النظام ومعارضيه.

– حسابات المصالح:

تظل حسابات المصالح هي المحرك الرئيسي للانخراط العسكري الروسي في الأزمة السورية؛ إذ هدفت روسيا إلى تحقيق عدة أهداف من وراء تحركاتها الأخيرة؛ أولها: تسويق موسكو كشريك في قتال تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” لاختراق المأزق الدبلوماسي الراهن في علاقاتها مع الغرب التي تُعاني توترًا منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية. كما أن مقاتلة “داعش” قد يمنحها فرصة خلخلة الوضع القائم بتوسيع الحرب ضد فصائل المعارضة السورية المناهِضة للأسد، وبالتالي تُصبح القوات الروسية بجوار عناصر الحرس الثوري الإيراني في صدارة المشهد السوري والمتحكم في الوضع على الأرض.

ويرتبط الهدف الثاني برغبة روسيا في منع انهيار مؤسسَتَيْ الجيش والأمن بعد الانتكاسات الأخيرة أمام فصائل المعارضة والمجموعات الإسلامية، فضلا عن رغبتها في تعزيز قدرات الجيش النظامي ضد تنامي دور الميليشيات بما فيها الشيعية التابعة لإيران، بحيث تكون روسيا قادرة أكثر على فرض تسوية سياسية على أساس بيان جنيف، بما يتضمن تشكيل هيئة حكم انتقالية أو حكومة وحدة موسعة، ما يعني عمليًّا سحب البساط من إيران لاتخاذ المبادرة السياسية.

أما الهدف الثالث، فيعود إلى موقع سوريا في التطلعات الروسية الجيوسياسية؛ إذ تحتفظ البحرية الروسية بقاعدة صغيرة لإعادة التموين والصيانة في ميناء طرطوس السوري. وهذه القاعدة الاستراتيجية رغم تواضع قيمتها الحالية فإنها تُمثل أهمية بالغة بالنظر إلى الطموحات الروسية الرامية إلى لعب دور جيوسياسي أكبر في شرق البحر المتوسط والشرق الأوسط. وفي المقابل فإن السياسة الروسية تحمل لأول مرة بُعدًا أيديولوجيا في المنطقة بعد تقارب الكرملين مع الكنيسة الكاثوليكية، وبالتالي بدأت فكرة حماية الأقلية المسيحية في سوريا ومنطقة الشرق الأوسط تظهر باعتبارها مصلحة جيوسياسية جديدة، وحتى ولو على مستوى الخطاب السياسي.

وراء ذلك فإن ثمة رؤية خاصة لموسكو للربيع العربي عمومًا، والسوري خصوصًا، فهي تراه ثورة إسلامية من المرجح أن يُهيمن عليها المتطرفون، ولعل ذلك يُفسر فتور العلاقات المصرية–الروسية بعد صعود جماعة “الإخوان” إلى سدة السلطة في عام 2012. لذا فإن إنقاذ “الأسد” ليس هدف روسيا الوحيد في سوريا، بل إن التدخل الروسي الراهن يعكس مخاوفها من أن يصبح الصراع السوري أكثر تطرفًا وانتشارًا، ناهيك عن قلقها المتنامي جراء وصول “داعش” وتغلغله النشط في شمال القوقاز، خصوصًا بعد إعلان جماعة “فيلايات الشيشانية” في يونيو 2015 -وهي إحدى أهم الجماعات المتمردة في شمال القوقاز- ولاءها لتنظيم “داعش”.

– أبعاد محتملة للانخراط العسكري:

الحديث عن تعزيز حضور روسيا العسكري في سوريا ليس جديدًا أو هو الأول من نوعه، لكن المستجد هو تزايد القلق في الولايات المتحدة وإسرائيل والعديد من العواصم الغربية التي تقود منذ 14 سبتمبر 2014 تحالفًا دوليًّا ضد تنظيم “داعش” الذي يُسيطر على أجزاء هامة من أراضي سوريا والعراق من تزايد الانخراط العسكري الروسي في سوريا.

القلق الأمريكي كشفه تحذير وزير الخارجية “جون كيري” في 5 سبتمبر الجاري مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، إذ اعتبرت الولايات المتحدة أن زيادة عدد العسكريين الروس والمعدات الروسية في المنطقة قد تؤدي إلى مزيد من تصعيد النزاع، وهلاك عدد أكبر من السكان المسالمين، وتضاعف سيل اللاجئين.

إسرائيل هي الأخرى تخشى من تنسيق روسي إيراني محتمل في سوريا، يسمح بتنامي نفوذ إيران على الجبهة الجنوبية على الحدود مع الجولان المحتل، الأمر الذي قد يُساهم في تقدم الجيش والمقاومة اللبنانية على هذه الجبهة. أما على الحدود الشمالية فيبرز القلق التركي من الحديث عن نفوذ عسكري روسي، فمن شأن الدعم الروسي للجيش السوري في الشمال أن يُبدد إقامة المنطقة العازلة التي يُطالب بها الأتراك.

في هذا السياق العام، فإن ثمة أبعادًا متوقعة للتدخل الروسي في سوريا، منها تغيير خريطة الصراع السوري لمصلحة الجيش النظامي الذي فقد مساحات واسعة من مناطق نفوذه، وربما تسمح المساعدات العسكرية الروسية والمدد اللوجيستي والفني بتعويض الرصيد المتآكل للأسد في مناطق نفوذه.

أيضًا ربما يجد التحالف الدولي المنوط به مكافحة “داعش” نفسه أمامه خيارين تجاه التدخل الروسي العسكري؛ إما الصدام، وإما التنسيق الذي قد يكون اضطراريًّا أو مفروضًا من قبل موسكو.

على جانب آخر، فإن التدخل الروسي الذي يأتي ردًّا عمليًّا على إصرار الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة العربية السعودية على رحيل الأسد؛ قد يسرع من وتيرة التوجه نحو صدام بين الرياض من جهة، وبين موسكو وطهران ودمشق الأسد من ناحية أخرى، خصوصًا أن الدعم العسكري الروسي سيُغير التوازنات الإقليمية بالمنطقة لصالح طهران والأنظمة الطائفية القريبة منها، وفي الصدارة منها حكومة العبادي في العراق، والأسد في سوريا، وحزب الله في لبنان.

وخلاصة القول.. إن التدخل الروسي في سوريا ربما يسهم في إطالة أمد الصراع السوري عبر مواجهة عسكرية للمعارضة التي تمثل شوكة في خاصرة الأسد، كما يتوقع لهذا التدخل إعادة رسم خارطة العلاقات الدولية فيما يتعلق بطبيعة العلاقة بين روسيا من جهة والغرب والولايات المتحدة من جهة ثانية. لكن لن يكون بمقدور روسيا وحدها صنع سلام مستقر في سوريا، فستظل موسكو بحاجة إلى التنسيق مع واشنطن وعواصم إقليمية تمتلك جزءًا من مفاتيح الحل السوري، ناهيك عن أن سوريا حليف روسيا الوحيد في المنطقة تبدو الآن ضعيفة ومنهكة إضافة إلى عزلتها إقليميًّا ودوليًّا.

 كرم سعيد

المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية